نشرنا في عدد يوم الأربعاء الماضي الجزء الأول من عرض الأستاذ محمد سيداتي أبا حاج نائب الوكيل باستئنافية طنجة كان قد ألقاه في لقاء نظمه المكتب الجهوي للودادية الحسنية لجهة طنجة تطوان، وفيما يلي الجزء الثاني من الموضوع: ********************** 3 دعم ضمانات الاستقلالية: وضع جلالة الملك «دعم ضمانات الاستقلالية» على رأس المجالات ذات الأسبقية ضمن الأهداف الاستراتيجية الرامية إلى (توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية...). ويمكن تحديد أهم العناصر الداعمة لضمانات استقلال السلطة القضائية في المحاور التالية: أ إيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة به كمؤسسة دستورية قائمة الذات: هنا تجدر الإشارة تعبير: (مؤسسة دستورية قائمة الذات) لأن المجلس الأعلى للقضاء من خلال مقتضيات الدستور الحالي لم تكن له مظاهر مؤسسة دستورية واضحة الملامح، فقد وردت الإشارة إليه بشكل مقتضب في الفصل الثاني والثلاثون ضمن المؤسسات التي يرأسها جلالة الملك وكذا ضمن فصول الدستور المتعلقة ب (القضاء) الذي لم يصفه الدستور بالسلطة القضائية، وأكتفى بالتنصيص في الفصل السادس والثمانين منه على أنه: (يرأس الملك المجلس الأعلى للقضاء، ويتألف هذا المجلس بالإضافة إلى رئيسه من...) مضيفا في الفصل السابع والثمانين أن مهمة هذا المجلس تنحصر في تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع «لترقيتهم وتأديبهم» وكأن القضاة ليسوا في حاجة لغير ضمانات في الترقية والتأديب فقط. إن تأكيد الخطاب الملكي السامي على (إيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة به كمؤسسة دستورية قائمة الذات) يكشف من الآن ما ينتظر المجلس من مهام سامية تبوئه المكانة الجديرة به كعنوان للسلطة القضائية المستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو الاستقلال الذي أكد جلالة الملك أكثر من مرة بأنه «هو الضامن له»، وبذلك يكون المجلس الأعل للقضاء يعمل كمؤسسة دستورية قائمة الذات، ويضمن استقلالها جلالة الملك وهو أرقى ضمانة يمكن أن تطمح إليها أية سلطة. ب تخويل المجلس الأعلى للقضاء حصريا الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة: لقد رأى جلالة الملك أن دعم ضمانات الاستقلالية يتطلب (تخويل المجلس الأعلى للقضاء حصريا الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة) وهذا تطور جديد، ومسؤولية كبرى تُلقى على عاتق المجلس الأعلى للقضاء. ذلك أن كل المهتمين بحقل القضاء وإصلاحه، والتفكير في أفضل السبل لضمان استقلاله، طالما أكدوا على ضرورة إيجاد وسيلة تحد من تدخل السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل في المسار المهني للقاضي. واعتبرت بعض الآراء الحقوقية أن منح وزير العدل صلاحيات واسعة في الإشراف على ولوج القاضي لمهنة القضاء والتحكم في تأطيره وتكوينه ومساره المهني بصفة عامة يعتير مسا بها يجب أن يوفر للقاضي من ضمانات لاستقلاله وعدم تأثره بالتجاذبات السياسية وغيرها. لذا فإن تنصيص جلالة الملك في خطاب ثورة الملك والشعب على تخويل الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة حصريا للمجلس الأعلى للقضاء، يعني بشكل لا يقبل الجدل بأن الإرادة الملكية السامية خولت المجلس وبشكل حصري مهمة الإشراف على المسار المهني للقضاة. وفي اعتقادي إن العبارات السابقة تتضمن مفتاحين من شأن التمعن فيهما وتدبرهما بلوغ الأهداف المنشودة منهما وهما: 1 تخويل المجلس الأعلى للقضاء حصريا... ان عبارة «حصريا» الواردة بالخطاب الملكي كانت شديدة التركيز والكثافة، وتجعل القارئ والمتدبر لدلالاتها يشعر بأنها تعني «فقط» و«لا غير» أي أن الخطاب موجه بشكل ما إلى كل جهة يمكن أن تجادل بأن لها بعض الحق في تدبير المسار المهني للقضاة. 2 تدبير المسار المهني للقضاة: لذا فإن المجلس الأعلى للقضاء سيصبح المسؤول «الحصري» عن مسار القاضي المهني من يوم ولوجه لمهنة القضاء حتى إحالته على التقاعد مرورا بالإشراف على تأطيره ومراقبة عمله واقتراح تعيينه أو تنقيله أو ترقيته أو إسناد مسؤولية إليه أو تأديبه أو إلحاقه أو إيفاده في بعثات إلى الخارج.. إلخ ولعمري كم هي مسؤولية عظمى أناطها جلالة الملك بالمجلس الأعلى للقضاء كمظهر من مظاهر دعم الاستقلالية. وعند وعينا بمدى أهمية تخويل المجلس الأعلى للقضاء حصريا تدبير المسار المهني للقضاة فإن السؤال المطروح هو: هل هاته المهمة سينهض بها المجلس الأعلى للقضاء في ظل وضعه الراهن؟ والجواب هو: ج إعادة النظر في طريقة انتخاب المجلس الأعلى للقضاء بما يكفل لعضويته الكفاءة والنزاهة: أرى أن ما ترمي إليه عبارة (إعادة النظر في طريقة انتخاب المجلس الأعلى للقضاء) أكثر من مجرد التفكير في طريقة أخرى غير التي يتم اللجوء إليها الآن في اختيار أعضاء المجلس ، بل إن الأمر يذهب إلى إعادة النظر في تركيبة المجلس وهيكلته. ورغم اعترافنا بكون ذلك يتعلق بتشكيلة نص عليها الدستور، ولا يمكن بالتالي المس بها دون إجراء تعديل دستوري، إلا أن ذلك لا يمنعنا من استقراء مضمون الخطاب الملكي على ضوء هذا الافتراض. فتأكيد جلالة الملك على استقلال السلطة القضائية، وأنه هو الضامن لهذا الاستقلال، وتأكيده كذلك على تخويل الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة للمجلس الأعلى للقضاء بشكل حصري، كلها إشارات تؤكد أن الأمر ينحو منحى وضع مسافة فاصلة بين السلط، مما يعني التفكير ربما في إسناد مهمة نيابة رئيس المجلس الأعلى للقضاء إلى الرئيس الأول للمجلس الأعلى، الشيء الذي سيعزز لا محالة من الشعور بتوفير أكبر ضمانات الاستقلالية، وبالتالي يفتح المجال واسعا لإعادة النظر في تشكيلة وهيكلة المجلس الأعلى للقضاء ليصبح في مستوى المهام الجديدة المخولة له. وهنا نرى أن أي تشكيلة تطمح إلى أداء المهام الجسام المترتبة عن (إيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة به كمؤسسة دستورية قائمة الذات، وتخويله حصريا، الصلاحيات اللازمة، لتدبير المسار المهني للقضاة...) لابد أن تراعي تمثيلية تستجيب لتطلعات القضاة في جميع مراحل القضاء آخذة بعين الاعتبار الحضور القضائي أفقيا وعموديا. وإذا تجاونا الحرص على توفير شرطي الكفاءة والنزاهة، اللذين وردا بالخطاب الملكي السامي، كأهم شرطين ينبغي توفرهما في من يلمس في نفسه رغبة أو مقدرة على الترشح لعضوية المجلس الأعلى للقضاء، فإن إعادة النظر في التشكيل الحالي للمجلس بتوسيعه وإضفاء توازن على عضويته؛ حيث سيكون من المناسب مثلا إتاحة الفرصة لكل مناطق المملكة لكي تكون ممثلة في عضوية المجلس الأعلى للقضاء، كأن يتم تقسيم الخارطة القضائية الوطنية إلى عشر جهات، تمنحنا كل جهة بواسطة الاقتراع الحر والنزيه قاض عن محاكمها الابتدائية، وتمنحنا كل جهتين متجاورتين مستشارا عن محاكم الاستئناف، وينتخب المستشارين بالمجلس الأعلى ثلاث أعضاء من بينهم علاوة على الرئيس الأول للمجلس الأعلى والوكيل العام للملك لديه كأعضاء معينين على أن تخصص لائحة وطنية تضمن تمثيلية نسوية مناسبة لحضور المرأة في السلك القضائي (قد تتراوح بين ثلاث قاضيات أو أربع). د عقلنة تسيير عمل المجلس الأعلى للقضاء: إن المهام الجسيمة التي أناطها جلالة الملك في الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب بالمجلس الأعلى للقضاء من قبيل تخويله ، حصريا، الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة، يجعل مسألة عقلنة تسيير عمله أمرا في غاية الأهمية. ذلك أن الجسم القضائي عانى منذ عقود ن غياب الممارسة العقلانية لسير أعمال المجلس الأعلى للقضاء، إذ أنه رغم أن نص الفصل 71 من النظام الأساسي لرجال القضاء (11 نونبر 1974) على أنه: (يعقد المجلس الأعلى للقضاء دورة في كل ثلاثة أشهر أو أكثر إذا حتم ذلك عدد القضايا المحالة عليه أو أهميتها). ورغم تأكيد النظام الداخلي للمجلس الأعلى للقضاء الصادر بتاريخ 03 أكتوبر 2000 في مادته الأولى على أنه: (يسهر المجلس الأعلى للقضاء على تدبير شؤون القضاة وتطبيق الضمانات الممنوحة لهم طبقا لمقتضيات الدستور والنظام الأساسي لرجال القضاء، ويعقد دوراته وفقا لما هو منصوص عليه قانونا وعلى الأقل دورتين كل سنة: الأولى خلال شهر ماي والثانية خلال شهر نونبر)، فإن واقع الحال يشهد بعدم انتظام انعقاد دورات المجلس الأعلى للقضاء، وأن النظر في بعض القضايا المعروضة عليه تطلب عدة سنوات، وأن البت في طلبات الانتقال مثلا طال انتظاراه في السنوات الأخيرة حتى أصبح البعض يتساءل عن الأسباب الحقيقية الكامنة خلف هذا التأخير، وكيف انعكس ذلك سلبا على أداء القضاة؟ وكيف تحول حديثهم الى اجترار مواعيد الترقب والانتظار؟... ثم إن القضاة عندما يبلغ إلى علمهم انعقاد دورة للمجلس الأعلى للقضاء فإنه نادرا ما تتاح لهم فرصة معرفة جدول أعماله، ولا النقاط التي ستنصبُّ عليها أشغاله؛ مما يزيد من الترقب، وتنشيط الشائعات؛ الشيء الذي يترك الأثر السلبي على نفسية العديد من القضاة، مما كانت لديهم تطلعات للاستجابة لطلباتهم بالانتقال أو الحصول على ترقية مرتقبة أو النظر في حالة تأديبية معروضة على أنظار المجلس. لذلك فإن أي مقاربة تروم أعداد أفضل الوسائل لعقنلة تسيير عمل المجلس الأعلى للقضاء يجب أن تضع نصب عينيها الاستجابة للإرادة الملكية المعبر عنها من خلال الخطاب الملكي السامي للذكرى 56 لثورة الملك ولاشعب والداعية الى: (إيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة به كمؤسسة دستورية قائمة الذات) ولن يتأتى ذلك إلا بوضع آلية دقيقة تحدد تاريخا لانعقاد دورات المجلس الأعلى للقضاء والتي نرى من المناسب أن تكون دورة كل شهر على الأقل باستثناء (فترة العطلة القضائية). وأن يتم تمكين الأعضاء قبل فترة معقولة من جدول الأعمال والنقط التي سيتم التطرق إليها، وأن يتم البت فيها أثناء الدورة دون ترحيلها إلى ، الدورة القادمة ما لم يكن هناك ضرورة لذلك. وفي هذا الإطار سيكون من المناسب وضع كتابة المجلس الأعلى للقضاء والمفتشية العامة وقسم القضاة، مديرية الموارد البشرية على الأقل وضع المعلومات والمعطيات المتوافرة لديهم رهن إشارة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء لمساعدتهم على حسن أداء مهامهم. ولكي يتم ضبط أشغال المجلس وإعداد جدول أعماله ومواكبتها والسهر على تنفذ المقررات بالسرعة والفعالية المطلوبتين ستكون الحاجة ماسة لأحداث (مكتب دائم) للمجلس الأعلى للقضاء يتكون مثلا من الرئيس الأول للمجلس الأعلى بصفته رئيسا والوكيل العام للملك لديه وممثل لمحاكم الاستئناف وممثل للمحاكم الإبتدائية. وتكون مهمة المكتب الدائم النظر الفوري والآني في كل واقعة أو وضعية تتسم بالاستعجال، ويتعين أخذ قرار أو تدبير بشأنها قبل موعد انعقاد دورة الأعلى للقضاء. هذا علاوة على سهر المكتب الدائم على الإشراف على تهييء وإعداد جدول دورات المجلس وتتبع تنفيذه واستقبال طلبات القضاة ورغباتهم وحتى التظلمات والشكايات الموجهة ضدهم، على أن يقوم بتصنيفها وترتيبها حسب الأولوية وإعداد ما يجب من تقارير بشأنها قبل عرضها على دورة التالية... إلخ. وستسهم هذه الآلية قطعا في عقلنة تسيير عمل المجلس مما سيتيح الفرصة للرفع من مردوديته واستجابته لتطلعات القضاة. ه : مراجعة النظام الأساسي للقضاة، وإخراج القانون الأساسي لكتابة الضبط وإعادة النظر في الإطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية: لقد ربط جلالة الملك بحق دعم ضمانات الاستقلالية أي استقلال السلطة القضائية بمراجعة النظام الأساسي للقضاة، وهو النظام الذي يعود إلى منتصف عقد السبعينيات، حيث أفرزته ظروف ومعطيات مختلفة تمام الاختلاف عن واقعنا الحاضر، وعن تطلعاتنا وطموحاتنا المستقبلية؛ لذلك ودون الدخول في تفاصيل محتويات النظام الأساسي للقضاة فإن مراجعته بالشكل الذي يجعله منسجما مع روح العصر الذي نعيشه ومع الرهانات التي يضعها جلالة الملك على السلطة القضائية، بات أمرا ضروريا وملحا، وذلك في ترابط مع إخراج القانون الأساسي لكتابة الضبط الذي من شأن الإنتهاء من إعداده والشروع في العمل به أن ييسر عمل السلطة القضائية ويدعم من استقلالها. وأخيرا فان دعوة جلالة الملك إلى (إعادة النظر في الاطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية) يجب أن تحفز إلى إعطاء هذه المهن ماتستحق من عناية ورعاية، ذلك أن بعض هذه المهن - كالتوثيق العصري مثلا - لازالت تعمل بظهير يعود إلى السنوات الأولى لعهد الحماية، وتعتبر طريقة عملها وإمكانية ولوجها ومجال عملها كلها أمور تثير الكثير من الجدل، وقد طال النقاش أكثر مما يجب حول إخراج قانونها الجديد الذي من شأنه أن يُضفي عليها الطابع المغربي ويوضح معالم الحدود بينها وبين خطة العدالة ومهنة المحاماة. إن المهن القضائية من محاماة وتوثقين وعدول وتراجمة وخبراء،ومفوضين قضائيين، ونساخ، يمكن أن يضاف إليها(مهن/ وظائف) قضائية كالضابطة القضائية وإدارة الجمارك.. كلها تسهم في «منتوج» العدالة، إذ أن القاضي عندما يصدر حكمه فإن قناعته تشكلت من مجمل معطيات، ولهذه المهن - في الغلب - الدور الرئيسي في بلورتها. لذا فإن من شأن إعادة النظر في الإطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية في الإتجاه الذي يعزز من وضوح مهامها ويراعي خصوصية كل مهنة، من شأنه أن يسهم بلاشك في دعم استقلال القضاء وتبويئه المكانة التي يطمح جلالة الملك في أن يتبوأها في ظل مجلس أعلى للقضاء متمتع بالمكانة الجديرة به كمؤسسة دستورية قائمة الذات كما جاء في الخطاب الملكي السامي للذكرى 56 لثورة الملك والشعب.