ربما يجدر هذه الأيام أن نُدَرِّب ألستنا على حمل الأثقال، كي تكتسي عضلات قوية بالكفاية التي تمكنها من الاندلاق خارج الأفواه بجرأة الاعتراف أننا نعيش ما يشبه الخواء الثقافي والأدبي أيضاً؛ فأنا، منذ ما لا أدري، لم أقرأ رواية عربية من العيار التخييلي الآسر؛ رواية لا تجعل القارئ ينفر بَرِماً حتى من نفسه بعد ثلاث أو أربع صفحات من عمش في المقلتين؛ لم أتنزَّل بهذا الكلم عبثاً، إنما أخط مراثيه من فرط غبطتي للكاتبة الفرنسية «كريستين روسو»، وهي تستذيب في ترحلها البحري مع رواية «سفر الفيل» للكاتب البرتغالي «خوسي ساراماغو» (نوبل الآداب عام 1998)؛ وقد قدمت كريستين قراءة تحليلية عميقة لهذه الرواية في عدد (2009/10/22) من ملحق صحيفة لومند الفرنسية، بعد ترجمتها من البرتغالية إلى الفرنسية بقلم «جنيفييف ليبريش» (دار سوي seuil)،؛ وهنا تجزم «كريستين روسو» أن الكاتب البرتغالي «خوسي ساراماغو» منذ كتابه «العمى L aveuglement» الذي صدر باللغة الفرنسية، عن دار «سوي» أيضا عام 1997 ما فتئ يسبر إنسانيتنا من خلال حكميات معاصرة، ليتواشج من جديد مع الرواية التاريخية؛ ولكن بالطريقة الأكثر غرابة وشراسة، والأشد سخرية أيضا. وإذ نتغيا تَقَفِّي أصول سفر هذا الفيل، فإننا نتخيله تكتب كريستين قد انبثق من لشبونة، وبالتحديد في دير نُسَّاك القديس، حيث يمكننا رؤية أربعة فيلة من المرمر تُسند بدعائمها ضريح «فاسكو دي غاما» ؛ لكن «خوسي ساراماغوا» في هذه الرواية، اكتشف حكاية سليمان في فيينا منذ عشر سنوات؛ ويعود أصل هذا الفيل الهندي من «غوا Goa» ، بعد أن عاش خاملا حوالي سنتين في أرض مُسَوَّرة ب «بيليم Belém» ، كان قد منحها عام 1551 ، الخواو الثالث للبرتغال وزوجته «كاترين» النمساوية كهدية زواج إلى الأرشيدوق «ماكسيميليان» النمساوي. لقد افتتن عميقاً «خوسي ساراماغو» بهذه الرحلة البحرية التي اختبرتها هذه الهدية الفيلية، حيث عبرت جزءاً من البرتغال وإسبانيا قبل أن تشرع في اجتياز جبال الألب عبر فجِّ «برينر»؛ فقام ساراماغو بالتوثيق طويلا قبل أن يهتمي بكتابة هذه الرواية، التي أوقفها شهوراً عديدات لأسباب صحية خطيرة. وتمخر «كريستين روسو» بشغف استيهامي يلامس العباب مع رواية «سفر الفيل»، لكن قبل المضي في هذه الرحلة البحرية، كما لو على خطى الفيل، يجدر تحذير القراء الذين لم يعتادوا عالم «ساراماغو» من أن الخط المستقيم أو المباشر (رغم الافتتان الواضح للكاتب بالحكميات والأمثال) لم يكن بالنسبة له الطريق الأوجز من نقطة إلى أخرى؛ وكذا الشأن بخصوص أحرف البداية الكبيرة لأسماء الأعلام، وتركيب الحوارات في النص دون نقط أو فواصل؛ فالروائي يحبذ، كدأبه، أن يحشو كلامه بالاستطرادات؛ وبزخم من كل طبيعة؛ وبتحديد أكثر، فإن خوسي ساراماغو ضَمَّ إليه في هذا العمل، سارداً مفعماً بالمكر، ويعترف صادقاً بنواقصه وشكوكه، ذو حيل ولا يخلو من مَيْلٍ إلى المشاهد الطبيعية؛ وحين يفتقد «خوسي ساراماغو» إلى كلمات لتوصيف فج جبل «إيساركو Isarco» أو جبل «برينر Brenner» فإنه يلجأ الى الإطناب حين يتعلق الأمر بالتدخل في أفكار أحد الشخوص؛ ولا يتأتى له ذلك دونما بعض التجاوزات؛ يقول ساراماغو؛ «نعلم في ما يخص المادة المكتوبة، أنه من النادر أن تنتج كلمةٌ، كلمةً أخرى فحسب، لأنها في جملتها تكتسي سمتاً جميلا، مما يجعلنا نضحي دائما بالرصانة لصالح الخفَّة، وبالأخلاقي لفائدة الجمالي»؛ لكن يبقى أنه من فرط العبث في هذا المسلك، يحصل أحياناً أن يفاجأ قرين الروائي، بأن القطار ينطلق دونه ، بينما يطمئن أقل القراء جسارة، أن لا أحد قد استسلم في هذا البلد المنبسط أو المكشوف؛ وهنا يجزم «ساراماغو» أن «الكلمات الصوتية السماوية، هي ما يجعله يربح عشر صفحات». إن ما يسبغ على رواية «ساراماغو» ميسم كوميديا إنسانية مفعمة بكثير من الضحك والحكمة، هو مفارقة هذا الفيل الذي يملك قدَم بحَّار، ولكن في ارتباطه بشخصية سليمان الذي يعتبر عاملا بدون عمل؛ هذه الشخصية تجسد رائعاً يقينية «ساراماغو» من أجل توصيف أكثر دقة وتحديداً للروح الإنسانية التي ليست في الحقيقة إلا متاهة، يغدو كل شيء معها ممكنا. من ينكر أننا قد تذوقنا ولو بشطر من اللسان، لذة القراءة لرواية «سفر الفيل» رغم أننا قرأنا فقط ما كُتب عن كوميدياها الماتحة من المعين الرِّحلي والتاريخي؛ ربما كان الأمر أشبه بعناق الطّيف في المرآة، ولكنه يُبلسِمُ النفس ببعض العزاء حين تكون الجنازة كُبرى في أدبنا العربي الحديث..!