وإذ نستمر في اتخاذ لحية الشيخ الأمريكي، فيئا رخيا بحكايا رحلته المدفوعة بأنفاس الشغف الى كوبا، سنجدنا نصيخ القلب الى «هاري مورغان» وهو أحد الشخوص المركزية في رواية "En avoir ou pas"، يسأل ثائرا كوبيا، أي صنف من الثورات يقودها رفاقه، ليجيب هذا الأخير: «نحن الحزب الثوري الوحيد... نريد القضاء على السياسيين الشيوخ، وعلى الإمبريالية الأمريكية التي تقيدنا، وعلى الاستبداد العسكري. سنشرع من الصفر لنمنح لكل واحد حظه. نريد القضاء على استرقاق الفلاحين... وتوزيع الضيعات الكبرى التي تنتج قصب السكر بين هؤلاء الذين يعملونه... إننا الآن محكومين بالبنادق والمسدسات والرشاشات والحراب... أحب بلادي وسأفعل أي شيء... من أجل تحريرها من الاستبداد.» في عام 1939، بدأ هيمنغواي يبحث عن الهدوء الذي افتقده حين اكتشف ضيعة «لافيجيا la vigia» في سان فرانسيسكو، يملكها شخص يدعى «باولا Paula وهو صانع ورق اللعب من ضواحي المدينة. لم يقتنع هيمينغواي في البدء بالمحيط الذي تبدى له غاية في البعد، ولكنه اتخذ قرار الإقامة إرضاء لزوجته؛ ربما لهذا السبب يوثر أن يمضي وقته في هافانا أو على متن يخته بيلار pilar. قام هيمنغواي بتجديد المنزل واشترى ملكيته عام 1940، لينبصم به إلى الأبد؛ وكانت روايته الشهيرة «لمن تدق الأجراس»، العمل الكبير الأول الذي كتبه في هذا المنزل، وخطوة تلو أخرى، بدأ يجوب الشوارع المبلطة والضيقة لمدينة ما فتئت تدثره أكثر فأكثر؛ وغدا يمضي مرارا الى مطعم «إيلفلوريديتا EL Floridita » لإنعاش جسده وربما روحه ب «الدايكيري le dairquiri» وهو الشراب الألذ في الكوكتيل الوطني؛ وهاهم الكثير من السياح اليوم يستسلمون ل «بوديغيتا ديل ميديو "bodeguita del Medio" الشهير، وهو مكان جذاب كان من عادة الكاتب المضي إليه لأجل الانخراط في الجدل، وهو يشاطر اثنين من شراب «الموخيطوس Mojitos»، مع العجوز مارتينيز، مالك هذه المنشأة؛ ذلك أن هيمنغواي يجزم بإشراق كبير، أنه يوثر ضمن أصناف الشراب الكوبي، أن يكرع «الدياكيري» في مطعم «الفلوريديتا» و «الموخيطوس» في هذه المنشأة السياحية الموسومة ب «البوديغيتاديل ميديو». أما في «كوجيمار Cojimar» وهي قرية الصيادين، فقد تعرّف هيمنغواي على «غريغوريو فوينتس» الذي غدا رفيقاً لا يبرحه في مغامرات البحث عن الأنواع البحرية بمياه خليج المكسيك؛ هذا الغريغوريو الذي يعمل ربانا لليخت «بيلار Pilar» هو ذاته الذي أوحى للكاتب روايته الأساسية «الشيخ والبحر»؛ حتى أن «هيمنغواي» قال حين حاز على نوبل للآداب عام 1954؛ «هذه جائزة تخص كوبا لأن عملي أنجزته وأبدعته لكوبا، مع أصدقائي من كوجيمار التي أنا مواطن لها..»؛ كان يشعر بدين كبير تجاه بلد أحبه حد الإفتتان؛ وهذا ما يفسر قراره إهداء ميدالية نوبل إلى عذراء الرحمة، سيدة كوبا؛ هكذا وبعد انتصاره الاستكشافي لكوبا، بقي على حاله لا يتغير في ضيعته؛ وقد تعرّف على فيديل كاسترو، وأمضيا معا يوما من الصيد، وتحدثا كما أصدقاء قدامى لعدة ساعات؛ لهذا السبب، لم يستغرب أحد أن يسأله أحد الصحافيين، حين انتقل مريضا عام 1960 إلى الولاياتالمتحدة، رأيه حول موضوع التطور الذي بدأ يبرز في الجزيرة، فلم يتردد إرنست هيمنغواي لحظة في الإجابة: «الناس الشرفاء يؤمنون بالثورة الكوبية»؛ لكن وضعه الصحي ما فتئ يزداد سوءا كل يوم؛ ولأنه على يقين بذلك، فقد استبق الضعف باتخاذ القرار الرهيب الذي عجَّل المحتوم؛ فانتحر وهو يحمل إلى القبر، بالإضافة إلى كل الأشياء الجميلة التي تحتفظ بها الروح، حبه لكوبا أيضا...