التلفاز يقول وأنا أسمع، يتنقل، يتحرك، يتبدل، يتغير، يتلون وي... وأنا الجالس في راحة تامة (كما أعتقد). ينوب عني في كل الحركات. آلة الضبط والتحكم طائعة، خاضعة لجميع رغباتي. (كما أتوهم). ما أجمل التلفاز في هذه القرية العزلاء. هكذا أقول لنفسي، في مرات قليلة، كلما أردت التغلب على الإحباط والأحزان. لا أحد يهدئ من مخاوفي وآلامي.. لا أحد يسليني غيره. لا أحد، في ذلك اليوم الملعون بآلاف اللغات، والذي سيظل رطبا، حيا، يانعا، متحسبا، متأهبا في ذاكرتي، وأنا أتفرج أو أشاهد القناة الثانية، فجأة ظهر المعارض المنفي في فرنسا يتوسط بنتاه وهم يعبرون أحد شوارع فرنسا. الفرح يهز خطواتهم بخفة. الوجوه مشرقة، الابتسامات. ها هم في المنزل المؤثث بالأريكة الفاخرة، في غرفة مزينة وساحرة. المعارض كما يقول المعلق يستعد للعودة إلى الوطن. انتهى زمن الرصاص والمنفى. الوطن يفتح ذراعيه، لاستقبال المعارض، الذي سبق أن صدرت في حقه أحكام جائرة بالإعدام بالمؤبد..وب... الآن سيعود إلى وطنه، إلى هنا من هناك. إلى الوطن. شملني الانفعال والفرح. فرحت لفرحته. المشهد والصور انطلت علي. الفرح يتصاعد في أعماقي. جميلة ونادرة مثل هذه اللحظة: العودة إلى الوطن.لكن سرعان ما هجم الغموض والإلتباس. بعد الوضوح والفرح، اندفعت الدهشة وتبعتها الأسئلة. ما الذي جعلني معنيا بالعودة إلى الوطن وأنا في الوطن؟ كيف تماهيت مع المعارض المنفي؟ ولماذا وجدت نفسي، دون أن أشعر، ورغبة جارفة تسيطر علي في التفكير في العودة إلى الوطن. لم يدم الفرح إلا لحظات، وأنا أكتشف عمق المأساة، في الوطن أفكر بعقلية المنفي. أشاركه فرحه وأتمنى العودة أيضا إلى الوطن، ما هذه اللعبة الوقحة، التي ورطني فيها التلفاز، أنا الساكن في وطني أريد العودة إلى الوطن. تذكرت أو أدركت سر كلمات شاعرنا «نحن اثنان بلا وطن يا وطني» هكذا كانت علاقتي بالتلفاز سيئة دائما. أقاطعه أسابيع وشهورا. كلما شعرت بنوع من التطبيع والتكيف، إلا وشغلت التلفاز. مشاهدة برنامج أو اثنين تكفي لشحن نفسي بالغضب والحقد، الإنسان في كثير من اللحظات يكون بحاجة إلى من يسخر منه، إلى من يحتقره ويذله، إلى من يكذب عنه وعليه. الجميل في التلفاز عندنا أنه «منرفز» وليس مخدر. محرض يجعلني أكتشف عجزي وانكساري. فأصر على مواصلة مشوار الحياة. ها أنا الآن أمام مكيدة مدبرة بإتقان، التلفاز يقول وأنا أسمع يرسم فرحتي. يجنح أحلامي، يصعد مشاعري. يكثف حالتي الوجدانية، بعد أن يتأكد من وهمي الممتطي لصهوة العودة أو اللقاء بالوطن، وبالدم البارد يسحب الخيط الرفيع الذي يشدني إلى السحب، ليكون لارتطامي معنى القتل النفسي. الاختناق أو الشنق. بعد خمسين سنة في الوطن، أجد الحقيقة عارية، تغمز في وجهي ساخرة، التلفاز يمنح حق العودة. أن تكون هنا أو هناك فأنت في نفسك كائن للوقت، تجهل المكان. علاقتك بالوطن ملتبسة، غامضة، جنونية، نوع من قلق الانفصال الطفولي.