ليس من شيء مألوف في حياتنا اليومية، وفي الحياة على وجه العموم، ك"الزمن"، أو "الوقت"؛ فأنتَ لا تستطيع تعيين وفهم أي شيء إذا ما ضَرَبْتَ صفحاً عن "البُعْد الرابع"، أي "الزمن". ومع ذلك، ليس من شيء "أو ظاهرة" يَسْتَغلِق علينا فهمه، ك"الزمن"، الذي مهما توسَّعنا وتعمَّقْنا في فهمه، ومهما بسطه لنا آينشتاين وهوكينغ، وغيرهما من العباقرة، يظل لغزاً محيِّراً للألباب، بل يظل لغز الألغاز. إنَّني لا أعتزم، في هذه المقالة، التحدُّث عن "الزمن" في مفهوميه الفلسفي والفيزيائي، ولا في معانية كما بسطها لنا آينشتاين في نظريتيه "النسبية الخاصة" و"النسبية العامة"، أو كما شرحتها أهم نظرية كوزمولوجية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، أي نظرية "الانفجار الكبير"، ف"المقام" يضيق بهذا المقال، ولا يتلاءم معه. سأكتفي بالتحدُّث عن كيفية تأثير فَهْمِنا "الشعبي" ل"الزمن" في طرائقنا في العيش والتفكير والنظر إلى الأمور والأشياء. كم أعجبني ذلك الفلاَّح البسيط، في قصَّة قرأتها وأنا صغير السن، عندما تحدَّث عن الماضي والحاضر والمستقبل بحكمة يفتقر إليها حتى بعض الفلاسفة. لقد قال إنَّ الحياة التي يحياها، وعلى ما يفهمها، هي "الآن"، و"الآن" فحسب، ف"الماضي" مضى وانتهى وانقضى، ولن يعود أبداً، فَلِمَ العيش والتفكير وكأنَّنا لم نغادره بَعْد، أو لم يغادِرنا بعد؟! و"المستقبل" لم يأتِ بِعْد، لا نملكه ولا يملكنا، عِلْمه من علم علاَّم الغيوب، فَلِمَ العيش وكأننا أصبحنا فيه، ومنه؟! لحظة واحدة فحسب هي التي نملك من كل الزمن، وهي "الحاضر"، أو "الآن"؛ وينبغي لنا أن نعيشها بكل ما نملك من قدرة على الحياة، وأن نتفاعل معها، فهذا التفاعل هو وحده التفاعل بيننا وبين "الحقيقية"؛ والنتائج المترتِّبة عليه هي "الممحاة" التي يمكننا أن نمحو بها كثيراً من ميراث الماضي الذي لا يرضينا، وهي "البذور" التي فيها يكمن "المستقبل"، ومن نموِّها يجيء. إنَّ قِلَّة قليلة منَّا تعيش وتفكِّر بما يؤكِّد أنَّها متمثِّلة لحكمة ذلك الفلاَّح البسيط، الذي أخال أنَّ إيليا أبو ماضي قد قصده إذ قال في شعره: أحْكَمُ الناس في الحياة أناسٌ علَّلوها فأحسنوا التعليل. جُلُّنا يعيش تلك "اللحظة"، أي "الحاضر" أو "الآن"، في انفصال تام عنها، وكأنَّها لا تزن شيئاً بموازيننا، لا نؤثِّر فيها، ولا نتأثَّر؛ فكرنا، أو تفكيرنا، مشدود إمَّا إلى ما مضى وإمَّا إلى ما لم يأتِ بعد، فيَحْكُم علينا هذا الانفصال الفكري والنفسي والعملي بالبقاء أسرى لزمنيْن غير واقعيين، غير حقيقيين، هما "الماضي" و"المستقبل". والمنفصل عن "اللحظة الواقعية"، أي عن "الحاضر" أو "الآن"، ترى له سيكولوجيا تضرُّ ولا تنفع، فثمَّة شعوران يستبدَّان به دائما: الشعور بالندم والأسف على ما فات ومضى، فنحن لا نندم ونأسف على الآتي والمستقبل، والشعور بالخوف والقلق من الآتي والمستقبل، فنحن لا نخاف ولا نقلق مَمَّا فات ومضى. ولكم أن تتصوَّروا عواقب الفعل والعمل المترتِّبة على سيكولوجيا إنسان يعيش الحاضر وهو تستبدُّ به تلك المشاعر السلبية، التي تضر ولا تنفع، والتي تُفْصِح عن علاقة غير سوية لصاحبها بالماضي والمستقبل. ويكفي أن يظل الشعور بالندم والأسف على الماضي يستبدُّ بصاحبه حتى تتلاشى الحكمة في تفكيره، وفي نظره إلى الأمور، وإلى ما مضى وانقضى من حياته، مع أنَّ "الماضي"، في خاصيته الجوهرية، هو شيء غير قابلٍ للتغيير أو الإلغاء. وطالما سمعنا احدهم يقول: لو عادت بي عقارب الساعة إلى الوراء لَفَعَلْتُ هذا، أو لامتنعت عن فعل ذاك! إنَّها "الحكمة" التي لا أثر فيها للحكمة، فهذا ما كان ممكناً أن يتوصَّل إلى حكمة "أن يفعل هذا، أو يمتنع عن فعل ذاك"، إذا ما عادت به عقارب الساعة إلى الوراء، لو لم يخض التجربة ذاتها، فكيف لكَ أن تقول "لن افعل هذا الذي فعلت" إذا لم تخض تجربة فعله، مع ما عانيته من عواقبها؟! ولو قُيِّض لكَ أن تعود إلى الماضي فلن تعود إليه بما أنتَ عليه الآن من خبرة؛ فإذا ما عُدتَّ، وعاد معكَ ما كنتَ عليه من فكر وتفكير ومصلحة ودافع وهدف..، عند فعلكَ ذاك الشيء الذي تندم عليه، وتأسف، الآن، فسوف تفعله مرَّة أخرى! "الحكمة الزمانية" لذلك الفلاَّح البسيط رأيناها أيضاً في لينين إذ عيَّن موعد الثورة "الثورة البلشفية في الرابع والعشرين من أكتوبر 1917 بحسب التقويم الروسي القديم". لقد قال لرفاقه: إنَّه الرابع والعشرون من أكتوبر، ففي الخامس والعشرين يفوت الأوان، وفي الثالث والعشرين لا يكون الأوان قد آن. ونحن يكفي أن نَزِن كل أقوالنا وأفعالنا ب"ميزان الزمن" حتى نفهم "الأضداد"، في حياتنا ومواقفنا وأفكارنا، على أنَّها "نسبية الحقيقة"، أو "الحقائق في نسبيتها"، ف"القرار الخاطئ" قد يكون "الصواب" إذا ما قيل، أو تقرَّر، أو فُعِل، في غير وقته، أي قبل، أو بعد، الوقت المناسب لقوله، أو تقريره، أو فعله؛ و"القرار الصائب" قد يكون ما تصوَّرناه، من قبل، على أنَّه "الخطأ"، فأصبح الصواب بعينه إذ قلناه، أو قرَّرناه، أو فعلناه، اليوم، أو غداً. "الماضي" للعبرة فحسب، فليس من أهمية تُذْكَر ل"التجربة" إذا لم نخرج منها بما يجب أن نخرج به من دروس وعِبَر؛ و"المستقبل" هو للأمل، نسقي به حاضرنا؛ أمَّا "الحاضر" فهو للحياة الواقعية الفعلية الحقيقة، وللتفاعل مع حقائقها، فَمَن يغِبْ عن "الحاضر"، أو "الآن"، فكراً وشعوراً وفعلاً، يغب عن الحياة نفسها!.