لقد كشفت الحملات الانتخابية بمناسبة الانتخابات الجماعية التي عرفتها البلاد يوم 12 يونيو 2009 أن خصوم الديمقراطية لازال يراودهم حلم إقرار نظام سياسي بدون أحزاب سياسية عندما كانوا يركزون في حملاتهم على تقزيم الأحزاب السياسية وإعطاء الأهمية للمرشحين كأشخاص وليس كهيئات سياسية وبرامج متجاهلين بأن عهد مثل هذا التوجه والاختيار قد ولى بدون رجعة في ظل الانتقال الديمقراطي الذي دشنه جلالة الملك محمد السادس نصره الله عندما أكد جلالته في أكثر من مناسبة على ضرورة تقوية دور الأحزاب السياسية في ترسيخ الديمقراطية وإعطاء دفعة قوية للشحنة الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد. كما أن هؤلاء الحاقدين يتناسون أن أي تراجع لدور الأحزاب السياسية في تدبير الشأن العام على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي يعني ضرب المكتسبات التي تحققت منذ الاستقلال على مستوى الديمقراطية المحلية المتمثلة في الميثاق الجماعي ومجالس العمالات والأقاليم ونظام الجهات وما عرفته من تطور بفضل كفاح الأحزاب الوطنية الديمقراطية. يتناسون بأن أي تقزيم لدور الأحزاب السياسية في تأطير المواطنين يؤدي حتما الى إذكاء روح التسيب والفوضى كما تؤكد ذلك بالملموس الأحداث الدامية التي عرفتها البلاد خلال الثمانينات عندما حاول الجهاز الإداري تحجيم الأحزاب الوطنية الديمقراطية وخلق أحزاب موالية طيعة بديلة. يتناسون بأن أي محاولة لإبعاد الأحزاب الوطنية الديمقراطية عن الحياة السياسية يعني الدخول في دوامة من عدم الاستقرار كما حصل خلال الستينات وبداية السبعينات عندما قرر خصوم الديمقراطية آنذاك إجهاض المسار الديمقراطي الذي انطلق بإقرار دستور 1962 والإعلان عن الانتخابات التشريعية في 1963 من خلال خلق جبهة الدفاع عن المؤسات الدستورية لتكون بديلا «للأحزاب التقليدية» سخرت لها جميع وسائل الدولة المتاحة، بما فيها اللجوء الى الإغراءات والضغوط المادية والمعنوية والاضطهاد والتعسف والإكراه والترهيب من أجل السيطرة على مجلس النواب، لكن إرادة الشعب كانت فوق إرادتهم فكانت النتيجة تزايد التوتر بين معارضة قوية وأغلبية ضعيفة ليتم الإعلان في نهاية الأمر عن حالة الاستثناء في 1965 وما تلتها من أحداث خطيرة على النظام السياسي بالبلاد، أبرزها الانقلابان الفاشلان لسنتي 1971 و 1972. فعلى هؤلاء الحاقدين أن يعوا بأن بناء مغرب قوي كما أراده الوطنيون الذين صادقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا ما كان ليتحقق إلا بإقرار نظام ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية كنظام الحكم بالبلاد الذي كافحت من أجله الأحزاب الوطنية الديمقراطية منذ استقلال البلاد. وعليهم أن يتأكدوا بأن الأحزاب الديمقراطية الوطنية قد ساهمت مساهمة فعالة في تحقيق الانتقال الديمقراطي الى جانب جلالة الملك عندما تحملت مهمة التناوب التوافقي بكل مسؤولية. ان هؤلاء الخصوم يتجاهلون بأن أهمية الأحزاب السياسية تكمن أساسا في الدور الذي خولها إياها الدستور والمتمثل في تنظيم وتأطير المواطنين وتمثيلهم لتكون بذلك دعامة أساسية في بناء صرح الديمقراطية الحق وتعزيز دعائم دولة الحق والقانون وتقوية ركائز دولة المؤسسات وترسيخ قيم المجتمع النبيلة وتحصينها وتجسيدها من خلال المشاركة الفعلية والفعالة في الحياة السياسية وتدبير الشأن العام على الصعيد المحلي والإقليمي والجهوي والوطني. يتجاهلون بأن نشأة العمل الحزبي في بلادنا اقترنت بالعمل الريادي الوطني الذي قامت به الحركة الوطنية الاستقلالية والدور الذي لعبته في نوعية الشعب المغربي وإذكاء قيام الروح الوطنية الصادقة بين فئاته وشرائحه الاجتماعية لتحقيق الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعمار والتخلص من جبروته في أفق بناء دولة عصرية ديمقراطية كما تجسد ذلك من خلال وثيقة المطالبة بالاستقلال والديمقراطية التي شكلت محطة تحول تاريخي عميقة في معركة التحرر الوطني. وبما أن هذا الوضع لم يرق القوى المعادية للديمقراطية والمناوئة للعمل السياسي واللوبيات الناقدة في الدولة التي جعلت من حماية مصالحها الذاتية وتركيز نفوذها فوق كل اعتبار، فقد عملت على عرقلة العمل السياسي وتمييعه وإشاعة ثقافة التيئيس واعتماد القمع والاضطهاد والترهيب ومحاولة اقتحام لأحزاب الوطنية وتشويه التعددية الحزبية بصنع أحزاب مفبركة وخرائط سياسية جاهزة وعرقلة كل خطوة تستهدف بناء الديمقراطية الحق التي تتحدد في إطارها مكانة كل حزب حسب اختيارات الناخبين ووفق ماتفرزه صناديق الاقتراع بطريقة حرة ونزيهة وشفافة. ورغم ذلك، فقد صمد الحزب ومعه الأحزاب الوطنية الديمقراطية ضد محاولات القوى المناوئة للعمل الحزبي الملتزم بقضايا الشعب الذي تعرض لشتى أنواع المقاومة والتآمر ومحاولات التقزيم على مدى عقود من الزمن والحد من قوة الأحزاب الوطنية ومحاولة تحجيم حضورها في الحياة السياسية وتمزيق وحدتها. فعلى هؤلاء المناوئين للعمل الحزبي أن يومنوا إيمانا راسخا بأن المغرب يعيش اليوم تطورا هاما في المجال الديمقراطي، يقوده جلالة الملك نصره الله عندما أكد جلالته في أكثر من مناسبة على ضرورة سلوك منهجية سليمة ورؤية واضحة لبناء الديمقراطية حتى تصبح ثقافة وسلوكا عاما لدى الجميع: «إننا نتوخى من التأهيل السياسي الشامل تعبيد الطريق أمام الإصلاح المؤسس العميق الهادف إلى توطيد الدولة القوية بالملكية الدستورية المواطنة وبالمؤسسات الديمقراطية الناجعة». كما دعا جلالته الأحزاب السياسية إلى: «ضرورة قيامها بدورها في ترسيخ روح المواطنة وتربية الأجيال الصاعدة مع المشاركة الديمقراطية وتحصينها من مساوئ الفراغ السياسي، مؤكدا أن الهدف المتوخى هو تمكين الأحزاب الوطنية من المناعة اللازمة وتحصين المشهد الحزبي من البلقنة. في هذا الإطار، يأتي قانون الأحزاب السياسية الذي يعتبر الإطار القانوني الكفيل بالمساهمة في عقلنة المشهد السياسي بمبتغاه النبيل والمشاركة المخلصة في تدبير الشأن العام والتأهيل الحقيقي والهادف للأحزاب السياسية. غير أن تأهيل الأحزاب السياسية وإعادة الاعتبار إليها لايتم فقط بالتشجيع على تنظيمها التنظيم الجيد، وهيكلتها بإحكام، وتمكينها من الوسائل المادية لتسييرها، وإنما أيضا عبر إشراكها في تدبير الشأن العام، بما فيها فتح الفرص أمام أطر الأحزاب لتحمل المسؤولية في مرافق الدولة ومؤسساتها العمومية وشبه العمومية، بهدف تشجيع الأطر على الانخراط في الهيئات السياسية، ووضع حد للممارسات السابقة، القائمة على تهميش أطر الأحزاب والنظر إليها باحتياط لامبرر له. بالإضافة إلى إزالة كل العراقيل والعوائق التي تحول دون قيام الأحزاب بالأنشطة التي تعزز الدور الذي ينيطه بها الدستور وتضمن للعمل الحزبي الحرية الكاملة في إطار القوانين الجاري بها العمل، بعيدا عن المضايقات والتعسفات التي لازال بعض رجال السلطة، في حالات محدودة، يمارسونها ضد المناضلين، من خلال مبررات قد تكون مفتعلة، بعيدة عن خدمة وتطوير العمل السياسي. ومهما حاول خصوم الديمقراطية تمييع العمل الحزبي وتحجيمه، فإن الأحزاب الوطنية الديمقراطية ستظل عماد البناء الديمقراطي الحقيقي في ظل مغرب قوي بنظامه الملكي الدستوري الديمقراطي، قوي بشعبه، قوي بمؤسساته الدستورية، قوي بهيئاته السياسية والنقابية، قوي بتاريخه الحضاري العريق، قوي بموقعه الاستراتيجي، قوي بمكانته اللائقة بين الأمم.