فاس وجامعة القرويين بل أكثر من ذلك فمنذ أسس المولى إدريس هذه المدينة على تقوى من الله ورضوان وأراد من تأسيسها ان تكون دار علم، وموئل الإيمان والحضارة وتوجه إلى الله في الدعاء المشهور ليحقق رجاءه ومبتغاه أخذت هذه المدينة مسارها في الجهاد والكفاح حيث تنطلق منها حملات الجهاد إلى اتجاهات متعددة وكان الملوك والقادة والزعماء ينطلقون منها، وإذا لم يكن ذلك ممكنا أو غير ميسر سعوا إلى أن تحظى أعمالهم بمباركة هذه المدينة وساكنيها، وذلك لما يتميز به أهلها من علم وتقوى، وما خصوا به من حكمة ورجاحة عقل، ويرجع الفضل في أكثر ذلك كله إلى ذلك المسجد الجامعة الذي كان من أول ما أنشئ في هذه المدينة في سعته وهدفه، واعني بذلك مسجد القرويين، الذي أصبح بعد ذلك أول جامعة عالمية وأول جامعة في العالم الإسلامي استمرت في أداء وظيفتها المزدوجة: تلقين العلم بمختلف فروعه، وأداء الفرائض على مدار الأيام والسنوات، وهكذا كان علماء القرويين سفراء المغرب في العالم الإسلامي يأخذون منه ويعطون، وكانت هذه الجامعة منارة متلألئة، وعلما خفاقا في سماء المعرفة، وفي مجال الدفاع عن العقيدة الإسلامية السمحة، ولا غرابة ان يقصد المدينة والجامعة العلماء من مختلف الأصقاع، وبذلك استقطبت فاس أعلام المعرفة في مختلف فروعها وأعلام العرفان في التصوف والحكمة، وبمراجعة بسيطة لأولئك الأعلام الذين نشئوا في المدينة أو الذين قصدوها أو زاروها من المغرب أو الأندلس أو غيرهما يتأكد ما لهذه المدينة وجامعتها من إشعاع, واستمر هذا الإشعاع رغم كل التقلبات التي عرفتها الأوضاع السياسية والعلمية في المغرب وفي الشمال الإفريقي, وان شئت الدقة قلت في الغرب الإسلامي كما يحلو للناس أن يعبروا اليوم. لهذا كله وغيره نجد أن الحركة التحريرية التي اصطلح على تسميتها بالحركة الوطنية وجدت جذورها وأصولها الأولى في مدينة فاس. وفي المحور الأول استعرض بإيجاز دور العلماء في التصدي للأطماع الأجنبية في المغرب كان علماء فاس دائما في مقدمة العاملين والمجاهدين لدرء الأخطار التي تهدد المغرب وطنيا، وفي القرن التاسع عشر عند ظهور تهافت أو تكالب الأجانب على المغرب كانوا كذلك من أوائل من انتبه إلى خطورة هذا التهافت وبالأخص بعد احتلال الجزائر وانهزام المغرب في معركة اسلي أمام الجيش الفرنسي 4 غشت 1844م وبعد ذلك في حرب تطوان أمام الجيش الاسباني 1859م وقد كان هذا من النذر الأولى التي جعلت هؤلاء العلماء ومعهم الأعيان والوجهاء وعقلاء الأمة في المغرب وفي مدينة فاس بالذات يعملون كل ما في إمكانهم لتدارك ودفع الأخطار المحدقة بالبلاد والعباد وهكذا بدؤوا في التنبيه بواسطة الكتابة والخطابة داعين وساعين ما أمكنهم السعي لوضع الأمور في السياق التاريخي وملاحقة الأحوال التي تسرع كثيرا بالمغرب وأهله نحو الوقوع في المصائد والمكائد التي يدبرها الخصوم والأعداء ورغم ما قام به الحسن الأول من مجهودات كبيرة وقوية لبعث نهضة علمية وفتح الآفاق أمام الشباب المغربي للتعلم وما قام به من جهود دبلوماسية لحماية البلاد فإن الخرق قد اتسع على الراقع وكانت مظاهر السقوط تتجلى في أشياء متعددة منها: 1 _ الاستبداد بالرأي وانعدام الشورى في الأمور العامة بين الراعي والرعية إذ كان الحكام مستبدين بالرأي ويتصرفون وفق المزاج دون الاستناد إلى رأي عام قوي تقوده النخبة من العلماء والعقلاء في الأمة. 2 _ احتلال الجزائر وفرض الهيمنة الاستعمارية الفرنسية عليه. ثم تونس من بعد وما استتبع ذلك من تفشي الجواسيس ومن يسعون لخدمة الأجنبي طمعا في الجاه والمال. 3 _ ظهور نظام الحمايات الأجنبية وتفشيها بين الناس اذ سارع الكثيرون إلى الاحتماء بالأجنبي بذرائع مختلفة وأسباب واهية. 4 _ أدى انعدام الشورى إلى شيوع أطماع القواد وكل من له رغبة في السيطرة إلى الثورة على الحكومة المركزية واتساع رقعة ما يسمى ببلاد السيبة. 5 _ تكالب الدول الأوروبية على المغرب وتصميمها على القضاء على استقلاله وبالأخص فرنسا واسبانيا ورغم المجهود الذي بذله الحسن الأول كما مر ومحاولة التنسيق في السياسة الخارجية مع الدولة العثمانية فإن القناصل الأوروبية عارضت هذه الخطة وأجهضت توجهه نحو دعم سياسة الجامعة الإسلامية. وإزاء هذا كله قام العلماء والعقلاء من الأمة بمقاومة هذا التردي بما يجب أن يقاوم به فكتبوا الكتب وعقدوا الاجتماعات وأصدروا الفتاوى كما كانت خطب الجمعة تقوم بدور تعبوي وتحريضي توجيهي في نفس الوقت ويتجلى ذلك في كثير من الإنتاج الفكري والأدبي والعلمي ذكر منه المؤرخون الكثير ومن بينهم البحاثة المرحوم محمد المنوني في كتابه (مظاهر يقظة المغرب) الذي أشار إلى مقاومة هذه الحمايات من طرف علماء المغرب، وقد حملوا راية معارضتها بروح إسلامية قوية، وحمية وطنية مثالية. ومن بين هؤلاء أفراد عارضوها بالتأليف، وبواسطة الخطب الجمعية، حتى يخلدوا هذه المواقف الوطنية المبكرة، وذكر منهم سبعة نماذج حسب التسلسل التاريخي لوفياتهم. الأول: هو أبو محمد المأمون بن عمر الكتاني الحسني الفاسي، المتوفي عام 1310ه / 1892 م. الثاني: أبو حامد الحاج العربي بن علي المشرفي الحسني المعسكري ثم الفاسي، المتوفي بها عام 1313ه / 1895م، كتب في الموضوع عجالة سماها »الرسالة في أهل البصبور الحثالة«. ألفها في حدود 1290ه / 1873م. الثالث: أبو الحسن علال بن عبد الله الفاسي الفهري المتوفي عام 1314ه/ 1896م، له عدة خطب ضد أصحاب الحمايات، أشهرها الخطبة المعنونة ب »إيقاظ السكارى، المحتمين بالنصارى«، أو »الويل والثبور، لمن احتمى بالبصبور«، خطب بها بمحضر السلطان المولى الحسن الأول في ابتداء دولته. الرابع: أبو محمد جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي المتوفي عام 1323ه/ 1905م، وتأليفه »الدواهي المدهية، للفرق المحمية«أجمع وأكبر تأليف في هذا الباب. يقول المنوني: الخامس: أبو عبد الله محمد بن إبراهيم السباعي الحسني المراكشي، المتوفي عام 1332ه/ 1914م، ألف »كشف النور، عن حقيقة كفر أهل بصبور«. السادس: أبو عيسى المهدي بن محمد بن محمد بن الخضر الوزاني لحسني الفاسي، المتوفي عام 1342 ه / 1924م، له فتوى في الموضوع رد فيها على من أفتى _من غير المغاربة- بجوار الاحتماء بالأجنبي، وهي مثبتة في »المعيار الجديد«. السابع: محمد بن جعفر الكتاني الحسني، المتوفي عام 1927ه/1345م. ذكرنا هؤلاء السادة العلماء رحمهم الله كما ذكرهم المرحوم المنوني للتأكيد على دور علماء فاس إذ خمسة من هؤلاء العلماء السبعة الذين ذكرهم المرحوم المنوني من مدينة فاس وهكذا يتضح كيف كان دور فاس في هذه المرحلة في تفعيل الحركة الوطنية والشعور الوطني الذي يتفاعل في المجتمع المغربي. الحركة الدستورية والبيعة الحفيظية المشروطة وفي هذا السياق استعرض جهود الوطنيين والعلماء في محاولة لإصلاح نظام الحكم وذلك بناء على الجهود التي بذلت في هذا الصدد وبصفة خاصة الحركة الدستورية والبيعة المشروطة لمولاي عبد الحفيظ. لقد كانت النتيجة التي وصل إليها العلماء وقادة الرأي في البلد هي الدعوة إلى وضع دستور للمملكة يحدد الواجبات والمسؤوليات ويفصل بين السلطات. إذ نشأت بالمغرب جمعيات ثقافية وسياسية استهدفت إصلاح الأوضاع واقتدت بما حصل في الدولة العثمانية وطالبت بوضع دستور لهذا الغرض. حيث رفعت إلى السلطان مولاي عبد العزيز رسائل من أجل الإصلاح ومن أجل وضع دستور وكان لعلماء فاس ورجالاتها دور مهم في تفعيل هذه الحركة وبرزت هذه الأفكار في البيعة التي وضعها هؤلاء العلماء لمبايعة المولى عبد الحفيظ وقد لخص الأستاذ علال الفاسي في الحركات الاستقلالية الخطوط الرئيسية لهذه البيعة في الفقرة والعناوين أدناه: تعتبر البيعة الحفيظية التي كتبها بفاس وطنيون ممتازون، ووضع صيغتها السيد أحمد ابن المواز أحد رجال الفكر إذ ذاك _ ميثاقا قوميا ودستوريا من الطراز الأول، وهي تشترط على الملك الجديد: أولا: أن يعمل جهده في استرجاع الجهات المقتطعة من الحدود المغربية ثانيا: أن يبادر بطرد الجنس المحتل من الأماكن التي احتلها ثالثا: أن يسعى جهده في إلغاء معاهدة الجزيرة لأنه لم يرجع للشعب فيها. رابعا: أن يعمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية. خامسا: ألا يستشير الأجانب في شؤون الأمة. سادسا: ألا يبرم مع الأجانب عقودا سلمية أو تجارية إلا بعد استشارة الأمة. وهكذا تعتبر هذه البيعة عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة إلى ملكية مقيدة دستورية. فليس من حق السلطان منذ الآن أن يبرم أية معاهدة تجارية أو سلمية (مدنية أو اقتصادية) إلا بالرجوع للشعب ومصداقيته. وقد كتب الأستاذ علال الفاسي بعد كتاب الحركات الاستقلالية كتبا وفصولا شيقة في موضوع كفاح الشعب المغربي من أجل وضع دستور للبلاد يمكن الرجوع إليها وبالأخص في (حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل الحماية) و (الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها).