حديث الجمعة: مع هنري لاووست في كتابه: "نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع 20 يعتبر يوما سابع وتاسع أبريل منذ سبعين عاما من الأيام التي لها تاريخ بل تعتبر في بلاد المغرب الأقصى من أيام الله المشهورة أو التي يجب أن تكون كذلك في قصة صراع الشعب المغربي مع الاستعمار الفرنسي، إنهما من الأيام التي انعطف فيها النضال من أجل الاستقلال والديمقراطية انعطافة كبرى، لقد كان شهر أبريل عام 1947 شهرا يعيد إلى ذاكرة الشعب المغربي ما حدث في أبريل عام 1912 عندما استباح الاستعمار الفرنسي وجنوده مدينة فاس عقب فرض الحماية منذ مائة عام تلك الأحداث التي عرفت في تاريخ هذا الصراع (بأيام فاس الدامية) وكان يوم 7 ابريل عام 1947 انطلاقة أيام الدارالبيضاء الدامية، ولم تكن الدماء التي سالت في المرحلتين وما بينهما خلال المعارك البطولية التي خاضها أبناء الشعب المغربي في قبائله وبواديه وحواضره، دفاعا عن الاستقلال الذي ضاع أو كاد أو سعيا لهذا الاستقلال والوحدة بعد ضياعهما. وإذا كان مجال هذا الحديث محدودا مما لا يسمح بأكثر من إشارة أو إثارة ملامح يومي 7 وتاسع ابريل فإن هذا المدخل سيكون إشارة إلى ذلك اليوم السابع من أبريل عندما تحركت آلة القمع الاستعمارية في الدارالبيضاء لحشد آلاف الأرواح البريئة وإسقاط أخرى جريحة أو الرمي بها في المعتقلات الاستعمارية. كان الشعب المغربي يعيش أجواء قيل عنها في تلك المرحلة أنها أيام الانفتاح التي يروج فيها الاستعمار لما اسماه الإصلاحات التي يقدمها المقيم العام الاشتراكي "ايريك لابون" وما هي في الواقع إلا محاولة سافرة لتمليك الفرنسيين الثروات المغربية والدفع بنضال الشعب بقيادة (محمد الخامس) وحزب الاستقلال إلى متاهات ما سمي بالاتحاد الفرنسي التي تريد فرنسا ما بعد الحرب بناءه. وفي غمرة هذا الصراع قرر جلالة الملك المغفور له محمد الخامس أن يقوم بزيارة إلى مدينة طنجة ولا يحفى ما في هذه الزيارة من الرموز والمعاني في غمرة الكفاح الوطني، وسعيا من الاستعمار الفرنسي في الحيلولة دون هذه الزيارة افتعل معركة ابن مسيك في الدارالبيضاء لتمتد إلى بقية الأحياء في المدينة، فكان ذلك اليوم الدامي ليلة سفر جلالة الملك وكان معه الإضراب العام الذي دعا إليه حزب الاستقلال ولكن جلالة الملك تفطن إلى لمكيدة المدبرة، وأصر على لملمة الجراح وعامل الاستعمار بنقيض القصد وكانت تلك الزيارة التاريخية التي سجلت في تاريخ الكفاح الوطني أن المغرب بكل أجزائه وطن واحد متحد مهما تعددت أسماء الاستعمار فرنسي اسباني دولي أو شمالا أو جنوبا. وهكذا كان ما افتعله الاستعمار من أحداث، وقودا للمعركة وكان هذا الطغيان حاضرا في رد الفعل من خلال ذلك النشاط الحافل في مدينة طنجة والذي تردد صداه في بقية المدن المغربية وكان خطاب يوم تاسع ابريل ذلك الخطاب الذي عبر عن انبعاث الوحدة وتقوية أواصر أجزاء الوطن كلها، وإعلان الانتماء الإسلامي العربي الإفريقي للمغرب المستقل ذلك المغرب الذي يبنيه المغاربة بعد الاستقلال مغربا ديمقراطيا عربيا موحدا المغرب الذي كان دائما امتدادا للشعوب الإسلامية من طنجة إلى جاكارطا. واليوم وبعد سبعين عاما عرف خلالها الشعب المغربي خوض معارك كبرى في مقدمتها ثورة الملك والشعب وإعلان الاستقلال والمسيرة الخضراء، فإن الواجب وفاء لكل تلك المعارك هو مواصلة العمل الدءوب من أجل استكمال البناء الديمقراطي وتمتين الوحدة وتحقيق الرخاء والازدهار للشعب المغربي. الأصول الثلاثة توقفنا في آخر حلقة تحدثنا فيها عن ابن تيمية رحمه الله ونظرياته السياسية والاجتماعية من خلال دراسة "هنري لاووست" عن الدعوة إلى تناول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن ونبذ العنف والالتزام بالرفق وأن هذه الدعوة تتطلب أمورا ثلاثة مترابطة وهي العلم والرفق والصبر. وهي أمر ثلاثة لهذه الدعوة. الاعتماد الخاطئ ولاشك أن من نهج نهجا غير هذا لا يمكنه أن يدعي أنه يسير على منهج ابن تيمية كما بينا من خلال النصوص التي اقتبستاها من فتاويه ان ما يتكئ عليه بعض الناس اليوم من فتاويه كان اعتمادا خاطئا لأن تلك الفتاوي إنما صدرت في شأن التتر ومن ناصر التتر على الإسلام والمسلمين، وهي مقيدة زمانا ومكانا بظروفها التاريخية ولا تقبل الاستنتاج، كما تحدثنا عن رفضه لمقولة التكفير لأنه يتبرأ من تكفير الحكام وكذلك يرفض أن يكفر أحدا من الأمة. الشريعة والسياسة ذلك ما تناولنا في آخر ما كتبناه واليوم نعود للحديث عن ابن تيمية ولكن في موضوع آخر هو ما كتبه "لاووست" تحت عنوان "الأمة والقضية السياسية مما لاشك فيه أن ابن تيمية اشتغل بالسياسة" باعتبارها جزء من الشريعة التي لا يمكن فصل بعضهما عن بعض كما يسعى البعض ليس في عصرنا فقط ولكن منذ زمن بعيد، وقد تعرضنا فيما سبق من هذه الأحاديث لهذه القضية فصل الشريعة عن الحكم وعن المجتمع وهو أمر ليس بالمعنى الذي يصنفه بعض الناس تحت مقولة "الحاكمية" حاليا فهذا موضوع لا يتناوله ابن تيمية بالأسلوب المتداول اليوم، ولكن يعالجه بمنطق عصره ومنطق زمان احتدام الحروب الصليبية وتألب مختلف الأطراف ضد الإسلام والمسلمين. منطق الإصلاح وهذا بالطبع تطلب من كل علماء الأمة وليس ابن تيمية وحده أن يسعى الجميع لصيانة الأمة ووحدتها ونظامها السياسي ليس بمنطق الصراع بين الحكام والرعية ولكن بأسلوب آخر، وهو أسلوب السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية، فابن تيمية يسعى لتكون أحوال الأمة منسجمة مع عقيدتها الدينية ومع أحكام الشريعة التي كان ابن تيمية يرى أنها تتطلب التلاؤم مع النصوص التي جاءت موثقة وثابتة كتابا وسنة. تأويل مغرض ولاشك أن يسعى شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الشأن سعيا متواصلا لم يتوقف لحظة واحدة من حياته حتى لفظ أنفاسه وهو يقضي ما حكم به عليه من حبس في شأن فتوى أفتاها وأولت على غير وجهها وضمنت من الشروح والتعاليق ما يؤكد ما تركه من كتابات وما جاء في الفتوى نفسها، وعلى أي حال فإن الشيخ كان أعد نفسه لمواجهة ما واجهه مع مواصلة الدراسة والتأليف في كل الظروف والأحوال. عمل للتحرير وقد لخص الباحث "لاووست" موقف ابن تيمية من السياسة وربطها بمصالح الأمة والسعي للدفاع عنها ودرء ما يتهددها من مخاطر وتحديات وهذا في الواقع هو الجانب الذي أخذ به الكثيرون من العاملين لتحرير الأمة من النفوذ الاستعماري وليس من أجل تأجيج الصراعات الداخلية والتقاتل بين المسلمين يقول "لاووست" الأمة والقضية السياسية إن "لاووست" يستخلص خلاصة مهمة في الفقرة الموالية حيث يميز بين الأمة عند ما تكون في وضع مثالي قبل أن يتعرض لعوامل كثيرة تؤثر فيها وبين أن تكون قد تعرضت لهزات مثل الهزات التي تعرضت لها الأمة الإسلامية يقول: الأمة المثالية «لم تكن الأمة المثالية في الأصل وفي الصدر الأول حيث كان الناس يتمسكون بالتوحيد الصحيح تعاني أي اختلاف سياسي، فقد كانت الفضيلة الفردية كفيلة بالمحافظة على الترابط والتناسق في المجتمع دون حاجة إلى الالتجاء إلى الإكراه بالقوة، ومع ذلك فمنذ أن انقسمت الأمة الإسلامية بفعل الجهل والظلم، شأنها في ذلك شأن كل أمة دعتها ضرورة الحياة إلى تحديد المراتب الاجتماعية المختلفة التي تجعل لكل فرد مكانا، ومن غير الدور القهري لرئيس يسهر على النظام. ووفاء لطريقته المعتادة في الاستدلال وجد ابن تيمية لهذه الضرورة سندا من النص ومن العقل». الإسلام دولة في الفقرات الموالية يتعرض "لاووست" لأمر تنصيب الخليفة أو الحاكم أو قيام الدولة أو السلطة وفهم "لاووست" من خلال هذه النصوص ما حاول بعض الناس اليوم وحتى من المنتسبين إلى العلم الشرعي أن يتملصوا منه وأن يقولوا أن الإسلام ديانة روحية لا علاقة له بالدولة أو السلطان، ومن خلال النصوص التي اعتمدها ابن تيمية والتي لاشك رجع إليها الباحث "لاووست" للتأكد منها توضح بما لا غبار عليه إن بناء السلطة أو الدولة في الإسلام مما دعا إليه الرسول عليه السلام وأكد عليه الصحابة والخلفاء من بعده، وابن تيمية إنما حاول فيما أنتجه في هذا الصدد أن يحلل هذه النصوص وان يوظفها التوظيف الضروري من أجل بناء المجتمع على غرار المجتمع الأول أو مجتمع السلف كما يعبر ابن تيمية. الروحانية والسياسة ولهذا فإن النص المركز الذي يورده "لاووست" كفيل لينصع من يحاول التنكر أو ادعاء الروحية دون الدنيوية في الإسلام ربما لا يدرك الإسلام الإدراك أو الصحيح أو ينطلق من فهم غير دقيق ولا أجرؤا أن أقول ما يقوله البعض في شأن هؤلاء الناس لأن الأساس هو حمل الناس على حسن النية يقول "لاووست". الأمر بالطاعة فالقرآن يأمر بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر دون أن يوضح الشكل الخاص الذي يظهر به هذه الاختلاف السياسي ويروي أبو داود أن النبي أمر كل ثلاثة رجال في سفر أن يؤمروا أحدهم. وتوجد هذه الأحكام وبنفس العبارات في مسند ابن حنبل حيث يروي عبد الله بن عمر حديثا عن النبي عن ضرورة خضوع كل ثلاثة في سفر في صحراء لسلطة واحد منهم. وفي الأثر السني أيضا أن عليا دعا إلى ضرورة وجود رئيس ولكن هذه الرواية لا تتمتع بالشروط التي تتطلبها الروافض. الولاء السياسي إذن هذا الولاء السياسي الذي نجده عند ابن تيمية ليس مثيرا للدهشة. فهو مألوف عند أهل السنة وعند المحدثين المحافظين. إذ يرى سفيان الثوري –الذي ألف ابن الجوزي ترجمته والذي انتقلت كثير من أفكاره إلى نظام ابن تيمية- أن العبد المخلص لله ملزم بادئ ذي بدء بالطاعة للدولة. ولهذا كان فضيل ابن عياض وأحمد بن حنبل يرددان هذا القول «ستون ليلة مع إمام ظالم خير من ليلة واحدة بغير سلطان» ويفضلان بذلك الاستبداد على غياب السلطة وذلك حبا في النظام الجماعي». ضد الصراع مرة أخرى يوضح الباحث أن ابن تيمية لا يسعى إلى خلق الصداع أو الدفع إليه بين الحاكم والمجتمع وإنما السعي إلى وجود تعاون وتضامن بين الأطراف في المجتمع الإسلامي كلها. السياسة الشرعية هذا ما يقوله "لاووست" في صفحات 269-270-271 من المجلد الثاني من الترجمة العربية دون أن يذكر في صلب النص معتمدا في ذلك، والواقع أن المرجع الأساس الذي المصدرين الأساسيين للحديث عن السياسة عند ابن تيمية لديه كما لدى غيره هما رسالتا السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، والحسية في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية وإذا عدنا إلى هامش الرسالتين وجدنا الشيخ في مفتتح كل واحدة منهما يحدد ما يريد أن يصل إليه وما يراه ضرورة لإصلاح أحوال الأمة والدفع بها نحو الكمال أو الاقتراب منه في أداء وظيفة الدفاع عن الأمة وعن مصالح مكوناتها مهما اختلفت العقائد والمذاهب فالإصلاح هو إصلاح عام وشامل. وإذا عدنا إلى الرسالة الأولى في السياسة الشرعية نجده بفتحها بما يلي: الإنابة النبوية أما بعد، فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية، والإنابة النبوية لا يستغني عنها الراعي والرعية اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من غير وجه: «إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم». آية الأمراء هذه هي الفقرة التي افتتح بها الشيخ رسالته الأساس في موضوع السياسة الشرعية ليوضح بعد ذلك أن هذه الرسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله فقال: وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا». لينتقل بعد ذلك إلى ما قاله العلماء في نزول هذه الآية وفي دلالتها الشرعية والسياسية والتي يعتمد عليها في تصرفات الحكام والرغبة فقال: واجب الأمة «قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولى الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله رسوله. توزيع الأدوار إن الفقرة الأساس في توضيح ما سعى إليه ابن تيمية في كتابة رسالته هذه توضح إن الأمر في شأن علاقة الحاكمين بالمحكومين أو ولاة الأمر مع من هم تحت ولايتهم ليست مبنية على الصراع وإنما على توزيع الأدوار والمسؤوليات ليقوم كل واحد بما أنبط به من المسؤوليات، فمسؤولية ولاة الأمر القيام بشؤون الناس على أساس العدل فيما بينهم وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وسيتوسع ابن تيمية في صلب الرسالة بتوضيح معنى الأمانة وما يجب على ولاة الأمر في ذلك. كما سيتوسع في بيان معنى العدل. التعاون لا الصراع ولكن ابن تيمية فيما إذا لاحظت الرغبة إن هناك ما يشوب الحكم من تقصير فإن الطاعة تبقى واجبه ولا يدعو إلى التمرد والثورة وإنما التزام الطاعة في معروف إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وبجانب الطاعة تؤدي الحقوق التي على الرغبة لولي الأمر، لأن ذلك مما يساعد على تقوية أواصر التعاون بين الحاكمين والمحكومين ويختم الفقرة بآية الأمر بالتعاون والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان… فقال: ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)). ثم يختم الفقرة كلها ب: الولاية الصالحة وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة. ويخلص ابن تيمية إلى اعتبار أن أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل هو جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة، وهنا يتضح أن ابن تيمية ينشد مجتمعا عادلا لأن بذلك تتصلح الأمة وأحوالها وما عداة لد قد يؤدي إلى ضياع الحقوق وضياع الأمة تبعا لذلك. وظيفة الدولة ومن طبيعة الحال فإن هذه المقدمة أوضح من خلالها إجمالا كل ما يتناوله إلى الوصول إلى تلك الخلاصة، وما لم يوضحه في هذه الرسالة أوضحه في رسالته الأخرى التي هي الحسبة في الإسلام والتي يقول في الفصل الثاني منها ما يسعى إلى تحقيقه إجمالا ليفصل ذلك في بقية الفصول، ومعلوم أن وظيفة "الحسبة" في الإسلام من الولايات المهمة والكبيرة والتي من خلالها تتمكن الدولة من أداء وظيفتها ومن هنا جاءت الإضافة في العنوان أن الأمر يتعلق بوظائف الدولة الإسلامية ومن طبيعة الحال فإن هذا المصطلح الدولة الإسلامية لم يكن حينذاك مطروحا بهذا النحو الذي تطرح به اليوم فالمجتمع يعيش في كنف الإسلام وشريعته لأن هذا الوصف إنما جاء مع الدولة الوطنية الحديثة. وتتابع الآن ما جاء في هذا الفصل حيث يقول: تقلب الأحوال «عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولى بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف. ليس لذلك حد في الشرع فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة والأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب في مكان وزمان آخر وبالعكس، وكذلك الحسبة وولاية المال». إن ابن تيمية في هذه الفقرة يقول بوضوح ان تحديد الولايات لا يحدده الشرع بحدود معينة وإنما هو خاضع للعرف ولتقلبات الأحوال ويواصل: المناصب الدينية «وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية، فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين. وأي من ظلم وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين. إنما الضابط قوله تعالى «إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم». الأبرار أو الفجار ينبغي التركيز على مضمون هذه الفقرة فهو أولا لا يطلب المستحيل من حيث الالتزام بالعدل المطلق أو القريب منه وإنما هو العدل والامتثال لأمر الله بحسب الإمكان فيجب هنا التأكيد على هذا والمقياس دائما هو هل الإنسان من الأبرار أو من الفجار. ويشرع ابن تيمية بعد ذلك في توضيح كيف يتم بناء الهيكل الإداري في الأقطار الإسلامية كل حسب ظروفه وما تقتضيه مصالح الناس فيها يقول: النظام الإداري «وإذا كان كذلك فولاية الحرب في عرف هذا الزمان في هذه البلاد الشامية والمصرية تختص بإقامة الحدود التي فيها إتلاف مثل قطع يد السارق وعقوبة المحارب ونحو ذلك، وقد يدخل فيها من العقوبات ما ليس فيه إتلاف كجلد السارق. ويدخل فيها الحكم في المخاصمات والمضاربات ودعاوى التهم التي ليس فيها كتاب وشهود كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود وكما تختص بإثبات الحقوق والحكم في مثل ذلك والنظر في حال نظار الوقوف وأوصياء اليتامى وغير ذلك مما هو معروف. وفي بلاد أخرى كبلاد المغرب ليس لوالي الحرب حكم في شيء وإنما هو منفذ لما يأمر به متولى القضاء وهذا اتبع السنة القديمة ولهذا أسباب من المذاهب والعادات مذكورة في غير هذا الموضع». ضد الجمود هذا ما يقوله ابن تيمية وواضح من كلامه أنه ليس إنسانا جامدا أو إنما هو إنسان يلتزم بتطور الأحوال وتقلب الظروف والسياسة تتقلب مع ذلك مع الالتزام في كل الأحوال بالعدل ويوضح تلميذه ابن تيمية هذه الوضعية أكثر عندما يقول في كتابه الطرق الحكيمة، وذلك حتى نعرف ان للواقع والظروف تأثيرا في سن الأحكام والضوابط لتدبير شؤون الأمة. من أسباب الخلل قلة فهم الشرع، أو عدم فهم الواقع وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا وفسادا عريضا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستفاذها من تلك المهالك. وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وكلتا الطائفتين أتيت من تقصير في معرفة ما بعث الله به رسول صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتبه، ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان: فثم شرع الله ودينه. والله سبحانه اعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها !! ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق: أن مقصوده إقامة العدل بين عبادة، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له. فلا يقال ان السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الإمارات والعلامات. بقلم // ذ. محمد السوسي ابن تيمية ومراعاة الواقع والظروف في الفتوى والولايات الشرعية..؟ بقلم // ذ. محمد السوسي