-1- ليس لتألق الكتابة عمر معين. فقد يخطئ الطريق إلى هناك التألق كاتب طاعن في الأيام، وقد يقبض على جوهر التألق كاتب ضليع في الفتوة. لا أتوقف عن ترديد هذه العبارة، كلما أسعفني الحظ وقرأت ما يبدعه القلم الرشيق للكاتب البارع نزار القريشي. -2- يستمد نزار القريشي ألفباء الكتابة من أفقه الخاص، ويتعاطى لغة تقول نفسها في منأى عن المعمم، ويتغيا عمق الأشياء. فتيجئ كتاباته، السياسية والأديبة، حاملة سيماء التفرد، ومنتجة لجوهر شخصيته وخيارته الفكرية. نزار القريشي، هذا الشاب الحيوي عمرا وتجربة، يملك موهبة أكبر من عمره، ويكتب أبلغ من تجربته، وحجم تطلعاته تجعله لا يصطاد لالئ المعاني إلا في أعالي الكلام. -3- حين وصفه صديقنا المشترك، المبدع المسرحي رضوان احدادو، بقوله: "يسير بيننا بحثا عن عالم تسكنه الحقيقة"، كان في الواقع يعكس طبيعة هذا المبدع الذي يراهن، بمشيئة الحبر وحده، على الاستمساك المتين بطرح الحقائق على الرأي العام، عبر الانحياز الحقيقي لمبادئ الديمقراطية، واللجوء السياسي إلى مقام التغيير. حين نقرأ كتابه "الملكية- الأحزاب- الحكم" (2009)، ندرك جيدا الأفق الذي يشتغل في ظله الرهان السياسي لنزار القريشي كما نضع يدنا، ونرصد عيانيا، جرأة هذا الشاب في خلخلة السياقات التي تحكمت في الزمن السياسي المغربي وإعادة تأثيثها بمداخلات مغايرة. -4- في يفاعته التي ما يزال يواصلها- أصيب نزار القريشي بما يطلق عليه هو "غواية الكتابة": أي أن تصبح الكتابة ّأوكسجينا" يتنفسه بإدمان - الكتابة رئة للحياة. - الحياة وجه آخر للكتابة. في رسالة بعث بها لي من تطوان (11-08-2011)، يكتب نزار القريشي بطريقته الفريدة: "داخل معبد الشعر كل يصلي بطريقته" في رسالة أبعث بها الآن إليه، أود أن أقول له: في شسوع حقول كتاباتك أنت لا تقطف إلا ما هو ناضج. -5- داخل أفق ما هو مكتوب، نعثر على ما هو مقروء: إنها علاقة سيامية ترفض الإنفصال فالقارئ الجيد هو مشروع كاتب جيد. نزار القريشي ليس قارئا دءوبا فحسب، بل هو قارئ كبير، بالمعنى الذي يفيد أن القراءة عنده تتعدى جانبها النعتوي، لترتقي إلى ما اسميه: قيمة القيم. في الرسالة إياها، يقول لي نزار القريشي، فاضحا تعدد قراءته وعمتها الجميل: "أعيش هذه الايام في قراءة دراسات لنعوم تشومسكي ورولان بارت حول توليد اللغة، تثير في المواضيع والتيمات المرتبطة باللسانيات ولكم حيرني سؤال كان قد طرحه البروفيسور على طلابه: هل يمكن التفكير بدون لغة؟ وفي محاولة افتراضية مني للإجابة عن السؤال، أقول: يمكن أن يفهم من هذا السؤال للوهلة الأولى بحثا عن تعريف اللغة يحدد مهامها تحديدا مباشرا، فنعرف أين ومتى وكيف تبدأ وتستمر، إلا أن طرح سؤال ماهية اللغة، يقتضي ضرورة الدخول في مجالها، واستعمال أداة من أن أدواتها الأساسية وهي السؤال، فالتفكير نمط من لغات يحمل "دلالة اللسان" هكذا يقرأ نزار القريشي. هكذا يفكر قبل أن يواجه غواية الكتابة. -6- يرفض نزار القريشي الذهاب إلى الكتابة بدون أن يكون ممتلئا بنبضها، ومتدثرا بجوهرها، ومتعطرا لاستقبالها. لذلك هو يعتبر استسهال الكتابة رجسا من عمل البلادة. الكتابة كما يفهمها وكما يمارسها، سواء أكان موضوعا متأتيا من طرح سياسي، أو كان هاجسها الإبداع هي صلاة في محراب العشق، وجواز سفر صوب عالم الإجادة، وتحليق فوق السحاب. يقول نزار القريشي، مشركا إياي في مشاغله الأدبية التي تستدعي الإعجاب إليه: أشتغل هذه الأيام بشكل متقطع، على كتابة سيرتي الذاتية، لا أحد يضمن حياته، لن أصبر حتى أبلغ السبعين كي أكتبها، ولكم حلمت أن أكون مثل شحرور لأحلم باستعادة عوالم لطالما أبهرتني. كتبت ثلاثة فصول، لست مستعجلا في إنهائها، وكما قال شكري لك، في إحدى جلساتكما الريتزية، "ما ينمو ببطء يستمر طويلا"...." -7- كتابات نزار القريشي في "القبس العربي"، و"الجزيرة نت"، و "لوموند" تتجاوز القيمة المضافة، لتستوي شهادة حية على قدرة الكتابة المغربية الشابة، الموسوعة بجودة التحليل، وبلاغة الجدل السياسي، والرؤية التي تنفذ إلى قلب التحولات، متبنية قيم التغير. نزار القريشي هذا النورس التطواني الذي يمشي منتصب القامة، ولا ينحني إلا أمام الورق والحبر والأقلام، استهوته القصة القصيرة، فأبدع فيها مجموعته "الحياة في زمن الرصاص" (2009). وشكل تعاطيه مع الجنس الأدبي المراوغ والملتبس (القصة)، يستوي على نفس الخصائص التي تنطبع بها كتاباته في أفقها العام: الحكي المنتبه للتفاصيل الدالة، الوصف الذي يجهر بمحتوياته في منأى عن السائد، التغيير الذي يتزيا بالبعد البصري، ثم التيمات المحتفية بطزاجتها. -8- سافرت نصوص نزار القريشي على العالمية على متن أجنحة اللغة الروسية. إقدام مرٍكز"واتا الحضارية" على قطع تذكرة هذا السفر من تطوان إلى موسكو، هو إقدام على تجسير الهوة بين الابداعات المختلفة ومنحها شسوعا وامتداد بحجم الابعاد الكونية. هو – أيضا- وبدون مركب نقص- اعتراف لا يرقى إليه الشك، بمدى ما تختزنه إبداعات نزار القريشي من مقدرة على تجسيد وإنتاج قيم التأقف. إن صعود كتابة نزار القريشي من أصلها المحلي إلى امتداها العالمي، يؤكد لنا- من جديد- أن الطريق إلى ما هو كوني يبدأ- يقينا- بما زرعناه في مشتل ماهو محلي. -9- "أسائل نفسي دائما: لماذا لا يكون الإيخاء في العالم بين الناس كل الناس؟ لماذا لا يكون الإيخاء في الدنيا طبيعيا مثل الغيم والمطر". هكذا يجهر نزار القريشي بتساؤلاته الحارقة، الممضة، في سطرين من كلماته البهية التي أتحفني بها، فكانت نسائم عطرة في قيظنا الرمضاني. بماذا أجيب عن تساؤلات ياصديقي نزار؟ شوف: - من العبث أن نبحث عن فضيلة الإيخاء بين الناس. - من الأجدى أن نؤسس ما نطمح إليه من إيخاء من خلال الكتابة، وعبر الكتابة وحدها. ....وكل قلم وأنت في كامل تألقك