رويدا .. رويدا كان يتهادى على جناح الانكسار برقة في غاية العذوبة والهدوء، لكن سرعان ما هوى وانكمش في بكاءٍ صامت. غاب لحظة.جَرَفَتْهُ ذكريات حارقة، وعاد يتلفّظ فقاعاتٍ نَبَتَتْ في الفراغ، لتنعكس في عينيه الذابلتين فيبدو غيابه وشخوصه كما لو أنه مَسّتْهُ نفحةٌ من رعشة الدهر. يا إلهي .. متى يرحم القلب هُرَاءَاتِه ؟ مُحَنّطٌ ينعم مُذَبْذَباً في الأوهام، غارقٌ في خلودٍ ممُتدٍّ في دنياه فقط، وهكذا لا ألبثُ بعد ذلك أن أُرفرفَ رَفرفةً مُوجعةً يَجيئُني أُوَارُها مُحمَّلاً بأنفاس مكدودة. استقبلتُ كل ذلك بابتسامة باهتة، أرسلتُ نظري إلى العالم من حولي، لم يعد يسعني وكأنه مجموعٌ في سمّ الخياط، أزحتُه من أُفُقِهِ، ثم استقرّ في شجرة عظيمة، فأطلتْ من خلف الشجرة بابتسامة عذبة، وقالت باهتمام: - ماذا بك؟ - أطمح إلى زلزلة الوجود من أساسه. - وجودكَ أم وجود الناس؟ - هما معاً. أشرقتْ بابتسامات تجعل القلب ثاملاً في ما لا يعلم، ثم قالت كأنها تعاتبني: - اِخْتَرْ ألفاظكَ يا رجل. - أنا ممزقُ القلب .. - لأن الذي يجتاحُه يأكل كلّ الأشياء التي تجتاحه كيفما كانت .. - خَبّريني كيف أُبْعِدُ ما يجتاحه؟ ابتسمتْ في رقة ودلال، وقالتْ وهي تُرَبّتُ على موضع قلبي وتخاطبه وكأنه ليس لي وليس فيّ: - ما أقسى ما يجتاحكَ أيها الصغير الكبير ! - ما ذنب القلب إن كان يتسامى بالألم؟ - كلامكَ أَوْهَمَ بالخطيئة لكنها تكفي لتجعلكَ ملسوعا بفوضى الوجود إلى الأبد. - حبيب .. أ..أ..أنا .. - أنتَ ماذا؟ - .. خُذُوا فُؤادي وفَتّشُوه .. لحقتها بتمتماتي وشرودي مثل طفل مشدود إلى ثدي أمه، لكن خيالها كان قد طار وتوارى خلف الشجرة، ثم ما لبثَ أن هبط إلى الأرض ودخل فيها، وانكمش فيها كما ينكمش الحلزون في صدفته، ورويدا رويدا أجد قلبي ساقطا مثل تلكم الورقة الصفراء .. فتعالَ نستمتع بالسقوط مجددا يا حبيبِ ..