من عوائد البادية التي اجتّرها سكان حيّنا، تلك الدعوات العامّة في الأعراس. كنا صغارا نعرف أسماء العزاب الذين سيتأهلون للزواج في كل صيف. كانت الاحتفالات تقام في الأزقة والجنانات والساحات العمومية المتربة. و"أمين" ابن حيينا و من جيلنا، كان ينتمي إلى أسرة مستورة الحال. تمكنت من الإنفاق على تعلمه العالي حتى حصل على شهادة مهنية مكنته من وظيفة في بنك تابع للدولة. وأمين، كان شبه منبوذ من قِبَلِنا، لنزعة التكبر التي ولدت معه، زاد منها تفوقه في الدراسة، بدعم الدروس الخصوصية. كان يقسم أمام أبناء الحي أنه لن يدعو " الخينتي " إلى عرسه. و استعمال كلمة "خينتي" الاسبانية كان للقدح و التحقير. و برّ أمين بقسمه، إذ دعا عددا محدودا من أقاربه و أصدقائه لحضور حفل زفافه مساء السبت، في منزل اكتراه وسط المدينة خصيصا لهذه المناسبة السعيدة . وكان قد وزّع على المدعوين بطاقات الدعوة، المكتوبة عباراتها بحبر ذهب. وفي أسفل كل منها أشار في ملحوظة إلى احترام الوقت وأشياء أخرى.
فرِحا انتظر المدعوين عشر دقائق قبل الموعد المحدد. دقت الساعة الحائطية دقاتها التسع. أحس بها وكأنها دقات قلبه. نظر إليها فرأى بندول الساعة يتراقص من اليمين إلى اليسار بحماس و نشاط كبيرين. بعد نصف ساعة حضر زوجان من المدعوين، كانا حديثي العهد بالزواج. وحضرت زميلتان في العمل.. ودقت الساعة الحائطية دقاتها العشر و لم يحضر أحد. فقط، رنّ جرس الهاتف، فأسرع أمين إلى رفع السماعة بلهفة شديدة، و قال "ألوووو !". جاءه صوت من الطرف الآخر لصديق، يعتذر له باسمه و باسم ثلة من الأصدقاء المدعوين عن الحضور. وقال له "مبروك". وقطع الخط.. بقي أمين رافعا السماعة مشدوها و الأسئلة تتزاحم في ذهنه حتى أثقلت رأسه. لم يترك له صاحبه فرصة الاستفسار عن سبب الاعتذار.. ودقّت الساعة الحائطية دقاتها المتكررة، حتى دقّتْ دقّة واحدة ونامت.
سأل أمين عروسه بعصبية كتمها بين أسنانه: - لماذا لم يحضروا؟! ردّت مستسلمة : - الغائب حجته معه. - هذه مؤامرة. نطق أخوه الأكبر من وراء ظهره قائلا : - لا يا بن أمي، هذه ليست مؤامرة.. فالغائب حجته معه. وحجة هؤلاء ما تضمنته ملحوظة بطائق الدعوة. ملسوعا، بحث عن واحدة منها كانت ما تزال في جيبه، وقرأ ما جاء في الملحوظة: "الرجاء الحضور دون إحضار الأطفال".