هي إحدى ليالي طنجة الباردة التي أجبرتني على الإنزواء في ركن أمام المحطة الطرقية .ليالي طنجة قاسية بشتاءها وأناسها الليلين .قطعت تذكرتي إلى مدينة الرباط .العاصمة السياسية للمملكة .نظرت إلى ساعتي اليدوية كأني أعد زمنا استغرق كل حياتي .أنا باحث عن دنيا أخرى أكثر إشراقا في عالم مليئ بالمخادعين .تعلمت ألا أنتظر من الناس شيئا لأن وعود الناس وهم وسراب في دنيا القذارة. أحسست بالدوار من كثرة التحديق في عوالم تختفي وتمر وكأنها فيلم تحكي قصة ضياع الذات أي دنيا هذه التي أسقمت روحي في عز الإغتراب ؟ . لا يسعني الكلام. أشردُ فجأة ثم أستيقظ على إيقاع كلمات بلكنة داخلية : _ خويا شي درهم . الحق الحق أني لن أزيف شخصيتي فقد أبانت قسمات وجهي عن عنفها وأنا أنهره بقسوة : _ معنديشي سير فحالك . هم مشردون يتقدمون إليك واحدا تلو الأخر يطلبون منك إحسانا .خفت إن أعطيته إحسانا أن يفترسني الأخرون .في عالم الليل لا توجد شفقة ولارحمة .الشفقة ضعف وهزيمة تحوّل صاحبها لفريسة سهلة . منظر هؤلاء المشردين مقزز .أوساخ.وأحذية بلاستيكية وقنينة " الدلوان " متدلية من خصره .ذكرتني بمسدسات أفلام " الكوبوي " الأمريكية التي تتدلى من خصر أبطالها .كان زعيمهم يتجول في المحطة بافتخار كأنه قائد أوكيسترا غنائية يلعب فيها المسافرون الحيرى دور الجمهور المتفرج .يبحث عن فريسة تائهة أو شردت في مكان ما .تذكرت أيضا مقولة فيكتور هيجو " حين نبني مدرسة فإننا نهدم سجنا " . قبالتي مركز امني يتيم بداخله شرطي وحيد لا يملك حولا ولاقوة .توقظه فتاتان من عالم الدرك الأسفل . في ملابسهما وحركاتهما رائحة البغي .إحدهما كانت تكلم الشرطي .فهمت أنها تشكي إليه عدم قدرتها على استكمال ثمن التذكرة إلى وجهتها المحتملة . أحسست بالرغبة في طرد النوم من جفوني .فطلبت فنجان قهوة سوداء بعد أن اشتريت جريدتي المفضلة وأنا أمعن التحديق فيها تارة وتارة أخرى أسرق نظري إلى حيث يفترش المسافرون المقاعد المتسخة والمهترئة وقد التحفوا بأغطية بسيطة . قبالتي يافطة مكتوب عليها " حقوق المسافر وواجباته " وغير بعيد مشرد يتبول على حائط وأخر يصرخ والسكر قد أخد منه كل وعي بعد ان أبرقت على وجهه ضربة " زيزوار " عميقة . عالم غريب بأناسه الأكثر غرابة ومفرداته البعيدة عن كل القواعد . زمني في المحطة يوشك على الإنتهاء بعد أن دقت ساعتي على الواحدة والنصف .إنه موعدي مع عوالم .