صَعَدتْ إلى المترو في محطة الكسندر بلاتس وبدَت أنحف مما اعتدتُ أن أراها عليه فتساءلت ما إذا كان الربيع يكشف من نحافة جسدها ما غطّاه شتاء برلين القارس، أم أنها كانت على هذا القدر من النحافة منذ أن رأيتها ولفتت إنتباهي لأول مرة قبل عامين. على الرغم من وضوح نحافتها في الشتاء، إلا أنها لم تبد آيلة للسقوط على النحو الذي تبدو عليه اليوم في ملابسها الخفيفة، وكأن ملابس الشتاء التي كانت تلفها كانت تمسك خصرها وتحميها في إنحنائها إلى الأمام من السقوط على وجهها في عربة القطار الأرضي التي تتأرجح بكل من فيها وخاصة الواقفين. تحدث البعض بشراهة المقبل على الربيع بعد سبات الشتاء في حين كان البعض الآخر مسافراً بصمت في عوالمه. كان صوتها يحارب ضوضاء عربات القطار المسافرة وثرثرة الركاب الذين لم يكترثوا بداية لكلامها. لكن صوتها الخافت سرعان ما استجمع كل قواه وتصاعد فجذب الرؤوس تجاهه فالتفتت تبحث عن مصدره ومأربه. بدا صوتها أقوى من جسدها الهزيل حتى أن أولئك الذين كانوا يتحدثون على هواتفهم خفضوا أصواتهم مصوبين أعينهم نحوها، وهم غالبا لا يكترثون بمن حولهم ويصرخون في آذان سماعات هواتفهم وكأنهم يقذفون بأصواتهم داخل بئر لا قاع له. مالت بجسدها إلى الأمام ويدها اليمنى تقبض على عامود العربة الخردلي اللون، واليسرى تحتضن نسخة يتيمة من صحيفة يصدرها المشردون تضمها إلى صدرها، وكأنها الدليل الوحيد على تشردها. عندما مالت بجسدها إلى الأمام بقيت مؤخرتها على بعد بضعة سنتمترات عن باب العربة الزجاجي المغلق. «أيها السيدات والسادة عمتم مساءً، إسمي هايكه وأنا عاطلة عن العمل ومشرّدة منذ بضعة سنوات. يومي كان شاقا جدا وأدرك في هذه الساعة المتأخرة من المساء أن يوم بعضكم كان شاقّا أيضا. لكني لم أتناول الطعام منذ ساعات الصباح وأحتاج لبعض النقود كي تساعدني على شراء شيء يروي عطشي ويسد رمقي بعد هذا اليوم المتعب. ساكون شاكرة لكم إن قمتم بمساعدتي. شكرًا لكم، شكرًا لكم، شكرًا لكم.» كانت تتوقف عن الحديث بين جملة وأخرى عندما يهزمها صوت ضوضاء العربة مؤقتاً ولكنها سرعان ما تعود لتكمل جملها من حيث توقفت. أدركتْ أن الوقت يداهمها، فبعد أقل من دقيقة سيصل القطار الأرضي إلى محطته القادمة وسيكون ظهرها عرضة لهواء المحطة النتن ولمسافرين يتزاحمون على الفراغ وهم يدخلون إلى العربة غير آبهين بمن يقف خلف الباب وآخرين يريدون المغادرة على عجل لكن لا أحد منهم سيختارالخروج من الباب الذي تقف بجانبه. كانت تعي أن عليها أن تنهي جملها هذه قبل أن تنتهي الدقيقة وتجوب بين المسافرين لعلها تجد من يشفق عليها ويعطيها بعض النقود. توقفت بالقرب مني، لكنها وجّهت حديثها لشاب كان يتكلم بالهاتف ويجلس بجانبي. نظرت في عينيه وسألته «هل يمكن للسيد أن يساعدني بشيء؟» إرتبك بعض الشيء وأخذ يبحث عن نقود في جيبه وهي تقف أمامه بيد مفتوحة تنتظره وهو يحاول الإسراع بإخراج النقود. تحاشيت النظر إلى وجهها. عرفت بأن دوري قد حان. فكّرت بإخراج بعض القطع النقدية من محفظتي لعل فيها ما يساعدها. لكني تذكّرت بأنّ إخراج المحفظة سيستغرق وقتاً لأنها محشورة بين أغراضي المتكدسة في حقيبة يدي. خجلت من أن أبقيها واقفة أمامي بيد ممدودة، فهززت رأسي بالنفي بعد أن قالت لي «هل يمكن للسيدة أن تساعدني بشيء؟» وما إن تحركت بساقيها النحيفتين كعصا المكنسة تجاه المسافر المجاور لي حتى داهمها الوقت وتوقف القطار الأرضي. خرجت أنا مع من خرجوا واستغربت من خجل كساني لأنها كانت ستنتظرني طويلا بيد ممدودة تريد النقود وكأن في ذلك الإنتظار إهانة لكرامتها. ولم أفهم كيف لم يغلب هذا الخجل على خجلي من فقرها. ووعدت نفسي بأن اعطيها شيئاً المرة القادمة كما كنت قد وعدت نفسي بذلك في مرات أخرى كثيرة.