بعد قراءتي لقصتي الأخيرة، توجست خوفا من نشرها، فقد تناولت موضوعا لم يطرح بشكل علني بين كتاب القصة القصيرة ولا الطويلة، وفيها تفاصيل محرجة وقد تربك القراء أصحاب الأخلاق الحميدة! تذكرت أن بعض الكتّاب والعاملين في مجال النقد الأدبي، عرضوا عليّ مساعدتهم في مراجعة قصصي قبل نشرها، ومع أنني لم ألجأ إليهم ولا مرّة، لعدة اعتبارات.. إلا أنني قررت أن آخذ برأيهم هذه المرّة. اخترت بعض الأسماء، اتصلت بأصحابها ورتبت لقاءاتي مع كل واحد في المكان الذي يختاره، والتقيت ببعضهم في مقهى قريب من سكناه وبعضهم في بيته.. أخذت عطلة من عملي ثلاثة أيام، حتى أتفرغ لهذه اللقاءات.. وفي اليوم الموعود انطلقت في رحلتي. في طريقي إلى الناقد المعروف سعد العبد الله، كدت أتراجع عن الفكرة برمتها، والعودة إلى البيت ونشر القصة.. فأنا لم أجبن في يوم ما، ولم أعمل حسابا لأحد.. أقول كلمتي بجرأة وصراحة.. تذكرت جملة كتبها أحد الكتّاب وهي أن "عمود الكهرباء لن يتوقف عن الإضاءة إذا بال عليه أحد الكلاب المارّة".. لكن هاتفي النقال رنّ وكان المتصل الناقد نفسه، أراد أن يتأكد من قدومي.. خجلت من التراجع وأبلغته بأنني في الطريق إليه.. صيت هذا الناقد ذائع جدا، لكنني لا أذكر أنني قرأت له مادة نقدية بعينها فأنا حساسة من هؤلاء الذين لديهم إسهال في الكتابة ويغمرون صفحات وسائل الإعلام المقروءة بنقدهم على كل ما هب ودب.. استقبلني الناقد بحفاوة واصطحبني إلى صومعته قرب منزله، بعيدًا عن زوجته وضجيج أولاده. قرأ القصة وقال: تتناولين المواضيع الحساسة وتكتبينها بسهولة كالمواضيع الجنسية والأخلاقية والنمو الجسدي، أو العلاقات العائلية، وغيرها.. إنها قصة جميلة وهي تذكرني بقصة كنت قد كتبتها منذ عشر سنوات في مجموعتي القصصية الأولى، وما أن أنهى حديثه عن قصته حتى كرّت المسبحة وبدأ يحدثني عن قصصه ومقالاته النقدية ويقرأ لي بعضها.. طال حديثه عن قصصه. حتى نسيت الملاحظات التي أعطاني إياها عن قصتي وأصبحت أنا المطالبة بإعطاء رأيي في ما يكتبه وليس العكس، وكنت ألفظ بين الحين والآخر كلمات إطراء مبتورة، وأصبحت أتحين الفرصة لأدوس على كوابح كلامه حتى أستطيع الخروج من ورطتي.. وشعرت بأن الفرج جاء عندما دخلت زوجته بصحن بطيخ، لكنه لم يعرها انتباها وواصل حديثه حول كتاباته.. زوجته نحيفة مكتئبة، تنساب الرقة على وجهها وشفتاها مطبقتان على ابتسامة حزينة. توجهت إليها بالشكر وسألتها عن مكان الحمام، حتى أستطيع الهروب من كلماته التي تشبه رشاش المياه في حاكورتنا، يرش ويدور، ثم يعاود الدوران بشكل عكسي ولا يتوقف عن الرش والدوران.. عند خروجي من بيت الناقد، كان صوت الرشاش ما زال يرنّ في رأسي، فأقسمت أن لا أذهب إلى أي من النقاد والكتاب. في اليوم التالي، اتصلت بي زوجة الكاتب المشهور عادل الأشهب.. وسألتني إذا كنت أحب الدجاج أم السمك.. ففهمت منها أنها تعد لي وليمة غداء على شرف حضوري إليهم حسب الموعد الذي رتبته مع زوجها الكاتب.. حاولت التملص من الحضور، لكنها كانت أقوى مني بكرمها الأريحي القروي. استقبلني الأشهب بحفاوة. لاحظت بأن حاله قد تغير، وكأن عمره ازداد عشرة أعوام أو أكثر عما كان في المرة السابقة، حين زرته في شهر رمضان قبل عامين، كان صائما ونفسه "فاتحة" على النسوان ونظراته تنز بالشهوة آنذاك. قدمت الزوجة أشهى التضييفات قبل الغداء. التهم الطعام بطريقة أثارت حفيظتي وخفت أن تتسخ أوراق قصتي، التي أغار عليها مثل غيرتي وتملكي لحبيبي. قرأ القصة وفتات الطعام يتطاير على حروف كلماتي ولعابه يتناثر على كلمات قصتي. وقال متجشئا: نهاية هذه القصة غير جذابة، ولا تدل على أي تحول أو تطور درامي أو تغيير مؤثر على الشخصيات، ولا حتى على سير الأحداث. إقشعرّ بدني من تمتعه بطعامه. شعرت بأن فأرا يقبع بين ضلوعي ويقرض خبزا جافا. كنت قد جهزت نفسي لتناول الغداء مع عائلته، لكن أنفاسي صدت عن الطعام. ولاحظت زوجته أنني لا آكل، فألحت وشدّت على إلحاحها لكي أتناول طعامي.. فتصنعت تناولي لبعض اللقم.. قبل أن ينهي تعليقه على القصة ذهب بنفسه إلى المطبخ وأحضر صحنًا كبيرًا من الطعام. وقبل أن يبدأ بالتهامه، سحبت الأوراق من يديه، فقال وفمه منتفخ: تطورت كثيرا منذ لقائنا الأول.. فعلقت: خفف وزنك.. هذه السمنة لا تلائم أديبًا مثلك. عدت إلى البيت ودونت ما حصل لي اليوم وفي الأمس. قررت أن أزور بقية الأسماء التي رتبت معها اللقاءات حتى أسمع وأشاهد ردود فعلهم، من باب الفضول، ليس إلا.. *** جلس خلف مكتبه، ونظارات طبية سميكة على عينيه، وبدأ بتحليل القصة في أبعاد عميقة وتفسيرات لم تخطر على بالي بمصطلحات لا أفهمها، إليكم بعض ما قاله: "تندرج هذه القصة في الجانر الواقعي الكلاسيكي، وتسرد الوقائع بتفاصيلها كأننا ننظر إلى مقطع من فيلم سينمائي. الأحداث تتطور بشكل روتيني وإيقاع بطيء، ولم تقع أي مفاجآت، ولكن جرت محاولة لإبراز الدراما بموت الزوج، وإصابة الابن، والطامة الكبرى بانقطاع الكهرباء.. مما خلق حالة من العبثية التي لا تتماشى مع الخط الدرامي للقصة وكل هذا لم يخدم التأزم الذي يجب أن يعرض أعماق النفس وأبعاد الشخصيات أو تميزها على صعيد تصرفاتها وإبراز اللاوعي بالاعتماد على اللوجيك الذي يسير الشخصيات". تحدث إليّ وكأنه في مقابلة تلفزيونية، بنوع من الابتذال والاستخفاف، وأطلق كلماته بأزيز وطنين يقدحان طبلة أذني. وما زاد الطين بلّة، أنه توقف فجأة عن حديثه التلفزيوني وبدأ يتململ في جلسته، وضوء خجول بث من عينيه، فخلت أن شيئًا ما يكاد يخنقه، إلى أن تفوه بما لم أتوقعه، قال وهو يغمز بعينيه بشدة: أنا أتلقى مالا مقابل هذه الجلسات.. قلت: لا تهتم ولا تبال، سأدفع لك مقابل كل كلمة فهمتها. وبصراحة لم أفهم شيئًا مما قلته، فهل تستطيع تبسيط أقوالك حتى استفيد من البضاعة التي سأدفع مقابلها؟ قال: اللقاء الأول مجانًا.. حاولي أن تفهمي ما قلته لك وأنا واثق بأنك ستستنبطين الكثير! غمرتني فرحة كبيرة، عندما أنهيت هذا اللقاء. ذهبت إلى اللقاء التالي وأنا مستعدة لتسجيل كل واردة وشاردة بشغف كبير. كان شيخًا في سنه، وشيخا في سنوات تعاطيه الأدب. تناول قصتي وقرأها بهدوء تام ثم قام بتصحيح بعض أخطائها اللغوية وقال، وسعاله الحاد يجلجل في الجو: تكتبين في مواضيع حرجة يصعب على أدباء آخرين معالجتها والتطرق إليها، كتابتك مثيرة للإعجاب، ولافتة للنظر، إن كان في مجال الكلمات أو الجمل التي وردت أو حتى الأفكار التي طرحت، وكلها كانت أجمل مما يخيّل للقارئ. ثم قام بوضع كف يده على يدي مهدهدا وملاطفًا، لكن لمسته افتقرت إلى البراءة، ورأيت عيونه تشخص وكأنه يغوص في الماء ويبقبق. أبقيت كف يدي تحت يده. نظرت إليه مشفقة وهو يتضرج بحمرة الانفعال ويتفصد العرق على جبينه. كان اللقاء الأخير مع بروفسور مؤرخ ذي خنجر حاد. باحث مع لقب أكاديمي عال. وأنا من المعجبين به حتى النخاع. قال لي عبر الهاتف: لقد أثارت قصصك الجدل في عدة جلسات بيني وبين بعض الزملاء. طمأنني بأنه مطلع على ما اكتب. فاعتقدت أنه بلا شك سيشرفني ويفيدني بمعرفته. السفر إلى منطقة سكناه جنوبا يتطلب عدة ساعات.. ركبت سيارتي الصغيرة التي لا تحتمل مشقة السفر الطويل. طرت إليه فرحة.. واهتديت إلى المكان بعد أن أعياني التعب، دخلت إلى المقهى المتفق عليه وجلست إلى طاولة تشرف على المدخل حتى أراه فور دخوله. طرطشت وجهي بالماء. ونشفت عرقي وأزلت الماكياج عن وجهي دون قصد بعد أن تجملت خصيصًا له. وصل البروفسور متأخرًا إلى المقهى، مهفهفا يقول بنبرة تأمل عميق خالية من العاطفة: هذا مطعم "طروادة" وطلبت منك أن نلتقي في مقهى "طروادة" المجاور لهذا المكان - وما الفرق بينهما؟! - هذا مطعم يقدم الطعام وذاك مقهى للمشروبات فقط.. - سنطلب قهوة لا غير، وأنا سأدفع.. طلبت من صاحب المطعم بأن يسمح لنا بالبقاء لنشرب القهوة، فرحب بذلك خاصة أن الطاولات خلت تقريبا من الزبائن. افتتح البروفيسور حديثه قائلا: مفرداتك قليلة جدًا قياسًا لأفكارك الغنية. عبرت بهذه القصة عن شريحة اجتماعية صريحة، ونقلت صورة عن واقع يومي منظور، ويمكن لكل قارئ أن يعيشه بكل أحاسيسه وعواطفه. أكرر مطالبتي لك بزيادة المطالعة للأدب القديم مثلا، والانتباه إلى السبك اللغوي، واستخدام المفردات اللغوية، ولا بأس في هذا المجال من الرجوع إلى القاموس، مثل "المنجد" أو "لسان العرب" أو "تاج العروس" أو "الوسيط" وغيرها من معاجم العربية. بعد أن أعطاني محاضرة ليست طويلة عن اللغة والصياغات اللغوية، استأذنني بالذهاب، لأن زوجته تنتظره للغداء. بقيت في المقهى أرتب أوراقي حين رأيته يركب سيارة جيب فورد ضخمة.. فكرت بالساعات الطويلة التي استغرقتها حتى أصل إليه، ونفس الساعات التي سأستغرقها للعودة إلى البيت والمقابل الذي أخذته من كل ذلك، فاجتاحتني رغبة قوية لألحق بهذا المتغطرس.. مططت شفتيَّ، وعقدت حاجبي وارتجفت فرائصي، وأنزلت قبضة يدي من الهواء حين اقترب مني النادل الذي جاء بالحساب، لأني كنت سأسحق بها رأس هذا المتعجرف. فدفعت ثمن ما شربته هذا اليوم! الحقيقة، لم يكن هذا الناقد هو الأخير فقد كان أربعة آخرون من بعد، ولكني آثرت أن لا اذكر ما حدث معهم لئلا تعتقدوا أن ما حصل هو مجرد ضرب من الخيال.