مرت سنة بكاملها وأنا أسير على الرصيف كل صباح وعند الظهيرة وفي روحة الشمس ،ألتقي رجلا عجوزا يلتحف بزة نتنة عليها بقع مزركشة ،وسروالا خافت اللون تتخلله ثقب هنا وهناك ، كان رجلا أحنف في مشيته ،يميل على رجله اليسرى ويتأبط كتابا أومجموعة كتب عبارة عن مصادر قديمة ،كلما ألفيته في الطريق أذهل لمنظره فأحاول أن أتوجه بسهام عيني نحو عناوين كتبه ، لكن ما تبرحا حتى تستقر على يده اليمنى التي تتقوس تلك الكتب ،فهو رجل خفيف الحركة ، لكن حدسي استطاع معرفة بعضا من تلك المؤلفات الضخمة ككتاب "العمدة" لإبن رشيد القيرواني." الموازنة" للأمدي... ومما أرق السؤال في الحجا وزادني شرودا ،ذلك الحوار الداخلي والخارجي الذي يخلقه مع نفسه والهواء الذي يحيط به ، كثيرا ما أحاول أن أدنو منه لأسترق بعض كلمات تدلني على سر هذا الرجل ،لكن محاولتي تخور دائما، لأن كلام الرجل متقطع ،صحيح تركيبيا لكنه كالأفكار الخضراء التي لا لون لها وتنام غضبانة من حيث التركيب، فهو أكثر تعقيدا من هذر النائم في غطيطه . ذاته تخلق صورة جميلة في خيالي تثير نوعا من التأمل حينا والحسرة أحيانا أخرى ؛إذ في الوقت الذي يملأ فيه الشارع جيئة ،يظهر فجأة على رأس الدرب رجل آخر ،يبعث منظره على ضحك يتحول إلى بكاء يترك شرخا عميقا في نفسيتي ،أنظر إليه على اندهاش وأدْبٍِ كبيرين ، جلباب سوداء تشد انتباهي ، مسبلة ، تغطي قدميه الحافيتين ، وشعر كث ،طويل ،موشح يلوح على كتفيه ، في يديه اليمنى قرآنا كريما يتلوه بصوت عال مصحوب بنغمة شجية على طول الطريق وهو لا يبالي بمن حوله . فالناس أيضا لا يبالون بصنيعه على كثرة مروره في الدرب ، فلم يعد أحد يهتم لأمره أما أنا فلازلت مهوسا بصمت السؤال وعقلي مكبل يعجز عن تفسير قصة هذين الرجلين المختلين.