منذ شهر ونيّف يعيش معنا في البيت حجر البروة الذي "وقعت سماء ما (عليه...) وأدمته لتبزغ في الربيع شقاشق النعمان". وعلى صفحة الحجر صورة لمحمود درويش وهو يضع يده على خدّه وينظر نحو البعيدوصورة لي تجاوره. والحجر جاء به خالد محاميد من هناك، من بقايا البيت الذي ولد فيه محمود درويش. وهو يعيش معنا في صمت أبلغ من كلّ كلام. ويذكّرني كلّ صباح بالقرية التي أنجبت شاعرًا عظيمًا قبل أن يستبدّ بها الأعداء. والحجر جاء من هناك محمولا على أكفّ خالد ومفلح ، اللذين قدما من الناصرة لكي يشاركا في الحفل الذي أقامته ندوة اليوم السابع وحزب الشعب تكريمًا لي، بمناسبة تشرّفي بالفوز بجائزة محمود درويش للحرية والإبداع للعام 2011. ذهبتُ إلى حفل التكريم ولم أتوقّع أن تكون زهرة الصيف هناك. فقد تركتها في حديقة البيت، وكنت رأيتها رأي العين مسترخية بالقرب من شجرة البرتقال. ولم أقترح عليها مرافقتي إلى الحفل الذي فاق توقّعاتي بما اشتمل عليه من مداخلات نبيلة قدّمها: جميل السلحوت، عبد الله صيام، ابراهيم جوهر، ماجد الماني، خالد محاميد، مفلح الطبعوني، عيسى قواسمي وآخرون. قلت: من حقّها أن تسترخي مثلما تشاء، ومن حقّها ألا تذهب معي أينما ذهبت. لكنها حسمت تردّدها كما يبدو وجاءت. رأيتها وهي تدخل القاعة مع الداخلين وتجلس في مكان قصي تتابع ما يجري بابتهاج. ولم تنقص الحفل مفاجآت أخرى لم تكن في البال. كانت المفاجأة الأكثر بهاء، ذلك الحجر الذي جاء من البروة إلى القدس، لكي يربط الجغرافيا الفلسطينية، والتاريخ أيضًا، والرؤى والمشاعر والتطلّعات والأهداف برباط أبدي لا انفصام له. وليضع على عاتقي مسؤوليات جديدة، وطنية وإنسانية وإبداعية، تضاف إلى المسؤوليات التي وضعتها على عاتقي الجائزة البهيّة التي تحمل اسم محمود درويش. حجر البروة يعيش معنا منذ شهر ونيّف، وسيبقى معنا ما حيينا. وهو يستقرُّ الآن في مكانه المرموق في البيت، يذكّرني كلّ صباح بهموم الوطن الذي يتطلّع إلى الحرية والاستقلال، وبمعاناة القدس التي يتهدّدها خطر التهويد صباح مساء. يذكّرني بالشاعر الذي لم يكن مروره بهذه الدنيا عابرًا بأيّ حال. وها أنذا أراه في طللية البروة التي كتبها قبل الرحيل: أمشي خفيفًا كالطيور على أديم الأرض، كي لا أوقظ الموتى. وأُقفلُ باب عاطفتي لأصبح آخَري، إذ لا أحسُّ بأنني حجرٌ يئنُّ من الحنين إلى السحابة. هكذا أمشي كأني سائحٌ ومراسلٌ لصحيفة غربيةٍ. أختارُ من هذا المكان الريحَ... أختارُ الغياب لوصفِهِ. جَلَسَ الغيابُ محايداً حولي، وشاهده الغراب محايداً. يا صاحبَيَّ قِفا... لنختبر المكان على طريقتنا: هنا وقعت سماءٌ ما على حجر وأدمته لتبزغَ في الربيع شقائق النعمان... (أين الآن أغنيتي؟). هنا كسر الغزال زجاج نافذتي لأتبعه إلى الوادي (فأين الآن أغنيتي؟) هنا حملت فراشات الصباح الساحرات طريق مدرستي (فأين الآن أغنيتي؟).