في 31 أغسطس استعادت الحركة الأدبية الروسية ذكرى ذلك اليوم الذي دخلت فيه الشاعرة الروسية الكبيرة مارينا تسفيتايفا إلى حجرة منعزلة وأنهت حياتها بأنشوطة وهي في التاسعة والأربعين، زوجة، وأم لطفلين، وشاعرة ملء السمع والبصر أشرقت في مطلع القرن العشرين مع "آنا أخموتوفا" لتصبحا شمسين منيرتين من قصائد لاهبة ومصير فاجع. ولدت مارينا في 8 أكتوبر 1892 بموسكو، وكان والدها أستاذا جامعيا، ووالدتها عازفة بيان، وتبدت موهبة الشاعرة في محاولات ساذجة مبكرة وهي في السادسة من عمرها، وعام 1910 نشرت أول ديوان "دفتر مسائي". وبعد عامين خرج ديوانها الثاني "عامود النور السحري"، وتوالت دواوينها حتى بلغت سبعة عشر ديوانا، غير المسرحيات والمقالات النقدية والمذكرات، ولم تقع خلال رحلتها الأدبية الثرية في فخ "الأدب النسوي". عاشت تسفيتايفا عهد القياصرة، ثم عاصفة ثورة 1905، ثم ثورة 1917، والحرب الأهلية، ثم استقرار كل شيء في قبضة البطش (ستالين). ورأت أمام عينيها كيف يحترق الشعراء والأدباء من أبناء جيلها مثل آخماتوفا، التي أعدم زوجها الشاعر جوميلوف عام 1921، واعتقل ابنها، ونكل بها، وعاصرت انتحار أو قتل الشاعرين العظيمين سيرجي يسينين في ديسمبر 1925 ومن بعده ما يكوفسكي في أبريل 130، وموت الشاعر ماندلشتام 1938 مريضا في معسكر اعتقال، ثم محاكمة المخرج المسرحي العظيم ماير هولد وإعدامه ضربا بالرصاص عام 1940. وكان عليها وسط الحريق أن تكتب نفسها، والحقيقة، وهي في روسيا، وهي خارج روسيا حين رحلت عنها إلي باريس سنة 1922، وهناك بعد ستة أعوام صدر آخر أهم ديوان لها المسمى "بعد روسيا". وتصف الشاعرة حياتها في الغربة قائلة: "سوء حظي في الغربة أنني لست مغتربة، أنني بكل نفسي، بكياني كله، وامتداد روحي، هناك، إلي هناك، ومن هناك"! أما عن ظروف تلك الحياة فقد كتبت عنها مارينا في مذكراتها تقول: "لا أحد يستطيع أن يتخيل الفقر الذي نحيا فيه. إن دخلي الوحيد يأتيني عن طريق الكتابة. أما زوجي فهو مريض وليس في مقدوره العمل. وابنتي تكسب قروشا زهيدة بما تحوكه من قبعات. ولدي ابني المعتل، ونحن جميعا نعيش على تلك القروش، وبعبارة أخرى فإننا نموت من الجوع ببطء". وفي عام 1939 تقرر الشاعرة الكبيرة العودة إلي روسيا، وتشهد مرة أخرى عنفوان البطش الستاليني، وفظاظته، وتحاول أن تتشبث بالأمل في أن شعبها القوي سيتحمل وطأة الواقع ويتجاوزه إلي عالم آخر، فتكتب في إحدى قصائدها تقول: ستحيا يا شعبي مهما كان.. يحرسك الله ماحييت من وهبك قلبا حلوا كالرمان ومنحك صدرا كالجرانيت. فلتزدهر أيها الإنسان الذي قد من الصخور بقلبك الحار كالرمان النقي مثل البللور الشاعرة التي امتلأت بالثقة في أن شعبها قادر على تحمل الصعاب، لم تستطع هي ذاتها أن تتحمل وطأة الثورة التي ابتلعت عواصفها خيرة كتابها، فأنهت حياتها منتحرة في 31 أغسطس 1941 بأنشوطة كما فعل يسينين. وتركت مارينا ثلاث رسائل واحدة للشاعر "نيكولاي أوسييف"، وأخرى لمن سيتولى دفنها، وثالثة لإبنها جريجوري تقول له فيها: "عزيزي، اغفر لي، لكن الوضع كان سيصبح أسوأ لو استمرت هذه الحال، إنني مريضة بشدة، حتى أنني لم أعد أنا. اعلم أنني أحبك بقوة، وافهم أنه لم يكن بوسعي أن أعيش أكثر من ذلك. انقل لبابا و ل "آليي" إذا رأيتها أنني أحبهما حتى آخر رمق، ووضح لهما أنني بلغت طريقا مسدودا". هكذا رحلت الشاعرة، أما الطريق المسدود، فلم يكن مأزقها الخاص، لكنه مأزق تاريخي تكثف كقطرات الماء على جدران روحها العظيمة. وفي عام 1990 ، تقدم عدد من الكتاب والشعراء برسالة إلي البطريرك الروسي ألكسي الثاني، ليغفر للشاعرة انتحارها، ففعل. خلال إقامة مارينا تسفيتايفا في باريس كانت تراسل الشاعر النمساوي المعروف راينر ماريا ريلكة، فكتب لها ذات مرة "نحن الأعماق العائدة إلي السماء يا مارينا". ومن هناك تطل الشاعرة كل عام على روسيا، وتنشر من جديد رائحة الحريق القديم. ...