بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على أداء سلبي    أسعار اللحوم في المغرب.. انخفاض بنحو 30 درهما والناظور خارج التغطية    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية على مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالقدس    حادث سير مروع يتسبب في وفاة شخصين بعد اصطدام شاحنتين    إطلاق برنامج طلبات عروض مشاريع دعم الجمعيات والهيئات الثقافية والنقابات الفنية والمهرجانات برسم سنة 2025    بنك المغرب يحذر من أخبار مضللة ويعلن عن اتخاذ إجراءات قانونية    انتخاب المغرب نائبا لرئيس مجلس الوزارء الأفارقة المكلفين بالماء بشمال إفريقيا    أمن فاس يوقف 6 أشخاص متورطون في الخطف والإحتجاز    استئنافية مراكش ترفع عقوبة رئيس تنسيقية زلزال الحوز    مجلس جهة الشمال يصادق على مشروع لإعادة استعمال المياه العادمة لسقي المساحات الخضراء بالحسيمة    مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    الضفة «الجائزة الكبرى» لنتنياهو    التفوق الأمريكي وفرضية التخلي على الأوروبيين .. هل المغرب محقا في تفضيله الحليف الأمريكي؟    دونالد ترامب يأمر بتجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا    الوكالة القضائية للمملكة تعلن استصدار 360 حكما ضد المحتلين للمساكن الوظيفية    "مرحبا يا رمضان" أنشودة دينية لحفيظ الدوزي    مسلسل معاوية التاريخي يترنح بين المنع والانتقاد خلال العرض الرمضاني    ألباريس: العلاقات الجيدة بين المغرب وترامب لن تؤثر على وضعية سبتة ومليلية    الركراكي يوجه دعوة إلى لاعب دينامو زغرب سامي مايي للانضمام إلى منتخب المغرب قبيل مباراتي النيجر وتنزانيا    أسعار الأكباش تنخفض 50%.. الكسابة يحذرون من انهيار القطاع في جهة الشرق    القناة الثانية (2M) تتصدر نسب المشاهدة في أول أيام رمضان    مصادر: اغتيال مسؤول كبير بحزب الله    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية بالقدس الشريف    توقعات أحوال الطقس اليوم الثلاثاء    الاتحاد العربي للجولف يطلق سلسلة بطولات تتضمن نظام تصنيف رسمي ومستقل    بنك المغرب يحذر من محتوى احتيالي    المغاربة المقيمون بالخارج.. تحويلات تفوق 9,45 مليار درهم خلال يناير    مبادرة تشريعية تهدف إلى تعزيز حقوق المستهلك وتمكينه من حق التراجع عن الشراء    الصين تكشف عن إجراءات مضادة ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على منتجاتها    جمع عام استثنائي لنادي مولودية وجدة في 20 مارس    فنربخشه يقرر تفعيل خيار شراء سفيان أمرابط    ‬ما ‬دلالة ‬رئاسة ‬المغرب ‬لمجلس ‬الأمن ‬والسلم ‬في ‬الاتحاد ‬الأفريقي ‬للمرة ‬الرابعة ‬؟    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    تصعيد نقابي في قطاع الصحة بجهة الداخلة وادي الذهب.. وقفة احتجاجية واعتصام إنذاري ومطالب بصرف التعويضات    الصين: افتتاح الدورتين، الحدث السياسي الأبرز في السنة    فينيسيوس: "مستقبلي رهن إشارة ريال مدريد.. وأحلم بالكرة الذهبية"    الزلزولي يعود إلى تدريبات ريال بيتيس    الإفراط في تناول السكر والملح يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان    دوري أبطال أوروبا .. برنامج ذهاب ثمن النهاية والقنوات الناقلة    بتعليمات ملكية.. ولي العهد الأمير مولاي الحسن والأميرة للا خديجة يشرفان على انطلاق عملية "رمضان" لفائدة مليون أسرة مغربية    فرنسا تفرض إجراءات غير مسبوقة لتعقب وترحيل المئات من الجزائريين    بطولة إسبانيا.. تأجيل مباراة فياريال وإسبانيول بسبب الأحوال الجوية    الفيدرالية المغربية لتسويق التمور تنفي استيراد منتجات من إسرائيل    مباحثات بين ولد الرشيد ووزير خارجية ألبانيا للارتقاء بالتعاون الاقتصادي والسياسي    سينما.. فيلم "أنا ما زلت هنا" يمنح البرازيل أول جائزة أوسكار    القنوات الوطنية تهيمن على وقت الذروة خلال اليوم الأول من رمضان    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    3 مغاربة في جائزة الشيخ زايد للكتاب    المغرب يستمر في حملة التلقيح ضد الحصبة لرفع نسبة التغطية إلى 90%‬    أحمد زينون    كرنفال حكومي مستفز    وزارة الصحة تكشف حصيلة وفيات وإصابات بوحمرون بجهة طنجة    حوار مع صديقي الغاضب.. 2/1    فيروس كورونا جديد في الخفافيش يثير القلق العالمي..    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    هذا هو موضوع خطبة الجمعة    الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين يستغرب فرض ثلاث وكالات للأسفار بأداء مناسك الحج    المياه الراكدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقامة المصرية
نشر في طنجة الأدبية يوم 24 - 02 - 2011

حدثنا هاشم الرفاعي قال: لقيتُ المُظفَّرَ قُطُز، بأرضٍ جُرُز. فسألني أيّ أرض الله هذه؟ قل
حدثنا هاشم الرفاعي قال: لقيتُ المُظفَّرَ قُطُز، بأرضٍ جُرُز. فسألني أيّ أرض الله هذه؟ قلتُ: أضلَّ الرجلُ أم ما به؟ أرضٌ وُلِّيتَ أمرها، أيخفى عليك سِرُّها؟ قال في عجب: أهذه مصر؟ فأيّ عصر؟ ما عهدتُ الأرض دهناء ولا خلاء، بل واحة غناء، دُورٌ فيحاء، وأسْيَاح وجِنان خضراء، وسَوْمٌ وبيع وشراء. قلتُ: دوام الحال من المحال، وقد صار الرجال غير الرجال، والأيام قُلَّبٌ والدهرُ دُوَل. قال: فأين ذهب الناس؟ أحلَّ بالبلد باس؟ قلت: الناس في الميدان، قد أسقطوا السلطان. قال: ومَن يكون؟ قلت: مبارك الخاتون. حكم ثلاثين لا أبا لك؟ ومَن للثلاثين غير مبارك؟ قال: وما سئم ولا ضجر؟ قلت: ولا مَلَّ ولا نَفَر. قال: وكم عُمر الفتى؟ وأين ومتى؟ قلت: هو فوق الثمانين، وآخِرُ السلاطين، بأرض الفراعين. قال: أمَا بلَغه قول زهير:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش ؞؞؞ ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
قلت: ذاك زهير وهذا المبارك، وأين ابن أبي سلمى مِن والِينا الأسمى؟ ثم قلت: لكن ما الذي جاء بك إلى أرض الكنانة؟ قال: هُتافُ أقوام وأصوات رنانة، شقَّتِ السماء وكانت لها مكانة، فجئتُ أجْلُو الخبر اليقين. قلت: عَزَل الناس الوالي، وهبُّوا لطلب المعالي. وهو الآن في عُزلة، فَالْحَقْ بي أدُلّك على الطريق! قال: بل اسْبقني أنت وألْحَقُك، فإني أوَدُّ لقاءَ الرعية، ونفوسٍ أبيّة.
قال هاشم: فسِرتُ وحدي حتى بلغت شرم الشيخ، قاصدا نُزُلَ العجوز، جامعِ الحِلِيِّ والكنوز، مَن وَعَد بالمَنِّ والسَّلوى، وعصيرٍ وحلوى، فإذا بالفول وليس غير الفول، يُقيم أوْدَ الأكول، ويَصْحَبُ الكريمَ والجهول، والقانعَ والسَّؤول. ولما نزلتُ بجواره، أبى أن يُضَيِّفَني بداره. فقلت: شيمة العرب الكرم، والنَّالُ وحِفظُ الذِّمَم. لكنْ صفحٌ جميل، فأنت العزيز الذليل. ولقد قيل ارحموا عزيزَ قوم ذَلّ، وما أصابك يرفع العَذَل. فما كان والله خَطَر، على قلب بشر. ولَكَأنها ضربة قدر، حلَّت بمن غدر. قال مبارك: بل هي الخيانة، بأرض الكنانة. قلت: فمَن خانك؟ ومَن أهانك؟ قال: وطنٌ حَقود، وشعبٌ حَسود. قلت: على نفسها جَنَت براقش، وما نفعك الحَرافِش، وعلى الباغي تدور الدوائر.
قال: ومن أنت؟ وكيف تتجرأ على فخامتنا؟ قلت: أنا هاشم الرفاعي. قال: بَرِئْتَ من مصر وأهلِها، والآن تحاسبُنا؟ قلت: فأين ذلك؟ قال: ألستَ القائل:
لا مصر داري ولا هذي الرُّبى بلدي ؞؞؞ إني من الحق فيها قد نفضتُ يدي
أمسي نفاق ويومي ملؤه كذب ؞؞؞ فما أؤمل من خير صباح غدي
قد أغمض القوم أجفانا مقرحة ؞؞؞ على الهوان وإن كانوا ذوي عدد
شعب تلذ له أسياف قاتله ؞؞؞ حمرا وتطرِبُه ترنيمة الصَّفد
وقد أراه وسوط الذل يلهبه ؞؞؞ فلا يحس ولا يرثي لمضطهد
قلت: إنما قُلتُه استنهاضا للهِمَّة، وإبراءً للذمَّة. وإنما هو كقول أخينا:
لهفي على العرب أمست من جمودهم ؞؞؞ حتى الجمادات تشكو وهي في ضجر
أين الجحاجحُ ممن ينتمون إلى ؞؞؞ ذؤابة الشرف الوضاح من مُضر؟
وحاشايَ أن أقنط من رَوْحِ الله، أو أقول هلك الناس. كيف وأنا أتمثَّلُ قولَ القائل:
اليأس في ديننا كفر ومنقصة ؞؞؞ لا ينبت اليأس قلب المؤمن الفهم
أمْ لم ترَنا نستنهض الناس قائلين:
هو الظلم يا ابن النيل بالنيل نازل ؞؞؞ تمرُّ بك الأعوام والليل شامل
صباحُك ديجور وحقك ضائع ؞؞؞ وعهدُك مخفور فما أنت فاعل؟
وها هو الشعب قد فعل، وها هو الجَوْر قد بطل. قال: ما كان ظلما ولا كانت سنين، ولا يصبرُ المظلوم على الظلم ثلاثين. قلت: القويُّ من الشجر لا يُعجِّل بالثمر. وهل ترَكَ سيفُك من رأس؟ وهل فوق بأسِك بأس؟ وإني لأعجب كيف بقيتَ إلى يومِك الموعود هذا؟ لقد كنتَ أظلم من حيَّة، وأطغى من السَّيل. ألا ما أصدق القائل:
لا تعجبن من هالكٍ كيف ثوى ؞؞؞ بل فاعْجَبَن من سالمٍ كيف نجا
قال: وهل شكاني الشعب إليك؟ إسأل الناسَ إن كنت جاهلا. قلت: ما أثقلك وما أبرمَك! لقد ملَّ الناس صُحبتك، وأنت جاثمٌ على القلوب تخطب في الناس. "فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث"، أما علمت أنها في الثقلاء نزلت؟ قال: أوَكنتُ ثقيلا؟ قلت: حاشاك، بل أنت الخفيف الظريف، الورِع العفيف. اسمعْ أخاً لنا يُجيبك:
أنت يا هذا ثقيل ؞؞؞ وثقيل وثقيل
أنت في المنظر إنسا ؞؞؞ ن وفي الميزان فيل
قال أبَلغ قنطُ الناس هذا المبلغ؟ ألا ما أضيق صدورَكم!
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ؞؞؞ ولكن أحلام الرجال تضيق
قلتُ: والله لو حال الحَوْل، بَعدَهُ حَوْل وحَول، وطال القول، يَردفُه قولٌ وقول، وفطن أبو الهَول، لبقيتَ كغُول أثقلَهُ الفُول. لقد غششتَ رعيتك، وخفرتَ ذِمتك، وسمتَ الناسَ الهوان، وأطلقت لزبانيتك العنان، والظلم مؤذن بخراب العمران. وحين قيل لكَ ارحلْ، أبَيتَ إلا الجدل. أفتُراك خفيفٌ أم ثقيل؟ فإنَّا وإياك كما قال الشاعر:
يا مبرماً أهدى جَملْ ؞؞؞ خذْ وانصرفْ ألفي جمل
قال وما أوقارها؟ ؞؞؞ قلت زبيب وعسل
قال ومن يقودها؟ ؞؞؞ قلت له ألفا رجل
قال ومن يسوقها؟ ؞؞؞ قلت له ألفا بطل
قال وما لباسهم؟ ؞؞؞ قلت حلي وحلل
قال وما سلاحهم؟ ؞؞؞ قلت سيوف وأسَل
قال عبيد لي إذن؟ ؞؞؞ قلت نعم ثم خوَل
قال بهذا فاكتبوا ؞؞؞ إذن عليكم لي سجل
قلت له ألفي سجل ؞؞؞ فاضمن لنا أن ترتحل
قال وقد أضجرتكم ؞؞؞ قلت أجل ثم أجل
قال وقد أبرمتكم ؞؞؞ قلت له الأمر جلل
قال وقد أثقلتكم ؞؞؞ قلت له فوق الثقل
قال فإني راحل ؞؞؞ قلت العجل ثم العجل
يا كوكب الشؤم ومن ؞؞؞ أربى على نحس زحل
يا جبلا من جبل ؞؞؞ في جبل فوق جبل
قال مبارك: ليس الناس على قلب واحد. قلت: صدقت، فأشِرْ! ودَعْكَ من مدَّاحٍ أَشِر! قال: انظرْ أهلَ الفن! قلتُ: بأرضك فنانان، كلاهما "إمام"، جمعَهُما الفن وفرَّقهما الحق. أمّا "عادل" فيميل مع كل ريح، وأما "الشيخ" فصادقٌ صريح. وغيرهما أهلُ غِناء وطرب، وهُم بين مدح وعتاب، والمداحون يُحْثى في وجوههم التراب. ثم سألت أحد شبان الثورة فقال: أتسألُني عن حسني مبارك أم حسين باراك؟ ففيهما شيء من شبَه، لا يُخطِئه من نَبِه. قلتُ: حُسْنٌ وبَركة. قال: أو لعله نحسٌ وكَرْب، ليس غير لفظٍ قُلِب. أو لعلك يا مبارك بركتَ على العرش ولم تَقُمْ، فقيل حَسُن البُرُوك إذا لم يَدُم. أمَّا شبيهُك إيهود باراك، فتوَلَّى وولَّى وأنت بلا حَراك. فهلاَّ اقتديتَ بصاحبك إذ برَك ثم ترَك؟
قال هاشم ثم أنشأت أقول:
هوى غير مأسوف عليه فلم يدع ؞؞؞ بأي فؤاد للترحم موضعا
وكان سقوط الفرد مصدر فرحة ؞؞؞ فكيف يكون الأمر لو سقطوا معا؟
قال: وبينا نحن على حالنا تلك إذ أقبل المظفر قُطز، فقال: سلامٌ على الحمإ المسنون، خليفةِ العظيمِ أخناتون. قال مبارك: من أنت وما وراءك؟ قال: رُدّ السلامَ ويحك؟ أنا قطز، جئتُ أنصرُ الحق. قال: ومالك ولنا؟ قد حكمتَ دهرا ومضى زمانُك. قال قطز: نُصرَة الحق شرف، ونُصرة الباطل سرف. قال مبارك: وهل كانت رعيتُنا كرعيتك، فنكون مثلك؟ فها هُم العسكرُ قد عصَوا أمرَنا، وارتضَوْا غيرَنا. فعلامَ العِوَل؟ ومنهم العَضَل؟ قال قطز: في أرضك خير الأجْناد، لو وَجدوا شِهامَ القُواد. وانظرْ صنيعَهم في"بارليف"، حين عزَّ النصير والحليف. ولقد أبْلَوا البلاءَ الحَسن في جالوت، فهل كنتُ أنا المَلك طالوت؟ أَصلِحْ نفسَك يَصلحْ لك الناس!
قال: لكنكَ وجدتَ العونَ من "عبدِ السلام"، قال قطز: وأنت منعت الشيوخ من الكلام. فحالُك "كالمغيث عمر" عندنا، فهذا حالفَ المغول وترَك القريب، وأنت قرَّةُ عينك في تل أبيب. بِعتَهُمُ الغازَ بَخسا، أقبِحْ به رِجسا! قال: وما كنتَ تريدني أن أصنع؟ ولا صاروخ لي ولا مدفع؟ قال قطز: أتقول هذا وأنت الطيَّار؟ ويحكَ ما كنتَ تفعلُ لو لقيت التَّتار؟ فهل كنا أكثر من المغول عُدّة وعددا؟ بل كانوا أضعافنا يجدون عونا ومددا. قال مبارك: فما كانت حيلتكم؟ قال قطز: خطبت في الجُند إذ رأيت التردد والنكوص، و"بيبرس" والميمنة كبنيان مرصوص: "يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين". قال قطز: ولمَّا حمي الوطيس، وتململ في رَمْسِه رمسيس، وبلغت القلوب الحناجر، وتكسرت سيوف وخناجر، ألقيتُ خوذتي وناديت واإسلاماه! وما رمينا العدو ولكن الله رماه. قال مبارك: فقد كانت لنا صولات وجولات، وأعمال ثقال. قال قطز: وأولُّها حربُ الرِّمال، وثانيها ابنُك "جمال"، وآخرها ضربُ الحصار. فلقد أوتِي الغزِّيُّون من قِبَلِك، ودُهِي الناس منك بأعظم داهية، فليتَ شعري أفوق سادِيَتك سادية؟ أَهمَّكَ خفرع ومنقرع، وحاصرتَ الوِلدان والرُّضَّع.
قال هاشم: فصحبتُ قطز ومضيْنا، وإذا بالرصافي مقبلاً يقول:
يا ملوك الأنام هلا اعتبرتم ؞؞؞ بملوك تجور في الأفعال
فاتركوا الناس مطلقين وإلا ؞؞؞ عشتم موثقين بالأوحال تُ: أضلَّ الرجلُ أم ما به؟ أرضٌ وُلِّيتَ أمرها، أيخفى عليك سِرُّها؟ قال في عجب: أهذه مصر؟ فأيّ عصر؟ ما عهدتُ الأرض دهناء ولا خلاء، بل واحة غناء، دُورٌ فيحاء، وأسْيَاح وجِنان خضراء، وسَوْمٌ وبيع وشراء. قلتُ: دوام الحال من المحال، وقد صار الرجال غير الرجال، والأيام قُلَّبٌ والدهرُ دُوَل. قال: فأين ذهب الناس؟ أحلَّ بالبلد باس؟ قلت: الناس في الميدان، قد أسقطوا السلطان. قال: ومَن يكون؟ قلت: مبارك الخاتون. حكم ثلاثين لا أبا لك؟ ومَن للثلاثين غير مبارك؟ قال: وما سئم ولا ضجر؟ قلت: ولا مَلَّ ولا نَفَر. قال: وكم عُمر الفتى؟ وأين ومتى؟ قلت: هو فوق الثمانين، وآخِرُ السلاطين، بأرض الفراعين. قال: أمَا بلَغه قول زهير:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش ؞؞؞ ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
قلت: ذاك زهير وهذا المبارك، وأين ابن أبي سلمى مِن والِينا الأسمى؟ ثم قلت: لكن ما الذي جاء بك إلى أرض الكنانة؟ قال: هُتافُ أقوام وأصوات رنانة، شقَّتِ السماء وكانت لها مكانة، فجئتُ أجْلُو الخبر اليقين. قلت: عَزَل الناس الوالي، وهبُّوا لطلب المعالي. وهو الآن في عُزلة، فَالْحَقْ بي أدُلّك على الطريق! قال: بل اسْبقني أنت وألْحَقُك، فإني أوَدُّ لقاءَ الرعية، ونفوسٍ أبيّة.
قال هاشم: فسِرتُ وحدي حتى بلغت شرم الشيخ، قاصدا نُزُلَ العجوز، جامعِ الحِلِيِّ والكنوز، مَن وَعَد بالمَنِّ والسَّلوى، وعصيرٍ وحلوى، فإذا بالفول وليس غير الفول، يُقيم أوْدَ الأكول، ويَصْحَبُ الكريمَ والجهول، والقانعَ والسَّؤول. ولما نزلتُ بجواره، أبى أن يُضَيِّفَني بداره. فقلت: شيمة العرب الكرم، والنَّالُ وحِفظُ الذِّمَم. لكنْ صفحٌ جميل، فأنت العزيز الذليل. ولقد قيل ارحموا عزيزَ قوم ذَلّ، وما أصابك يرفع العَذَل. فما كان والله خَطَر، على قلب بشر. ولَكَأنها ضربة قدر، حلَّت بمن غدر. قال مبارك: بل هي الخيانة، بأرض الكنانة. قلت: فمَن خانك؟ ومَن أهانك؟ قال: وطنٌ حَقود، وشعبٌ حَسود. قلت: على نفسها جَنَت براقش، وما نفعك الحَرافِش، وعلى الباغي تدور الدوائر.
قال: ومن أنت؟ وكيف تتجرأ على فخامتنا؟ قلت: أنا هاشم الرفاعي. قال: بَرِئْتَ من مصر وأهلِها، والآن تحاسبُنا؟ قلت: فأين ذلك؟ قال: ألستَ القائل:
لا مصر داري ولا هذي الرُّبى بلدي ؞؞؞ إني من الحق فيها قد نفضتُ يدي
أمسي نفاق ويومي ملؤه كذب ؞؞؞ فما أؤمل من خير صباح غدي
قد أغمض القوم أجفانا مقرحة ؞؞؞ على الهوان وإن كانوا ذوي عدد
شعب تلذ له أسياف قاتله ؞؞؞ حمرا وتطرِبُه ترنيمة الصَّفد
وقد أراه وسوط الذل يلهبه ؞؞؞ فلا يحس ولا يرثي لمضطهد
قلت: إنما قُلتُه استنهاضا للهِمَّة، وإبراءً للذمَّة. وإنما هو كقول أخينا:
لهفي على العرب أمست من جمودهم ؞؞؞ حتى الجمادات تشكو وهي في ضجر
أين الجحاجحُ ممن ينتمون إلى ؞؞؞ ذؤابة الشرف الوضاح من مُضر؟
وحاشايَ أن أقنط من رَوْحِ الله، أو أقول هلك الناس. كيف وأنا أتمثَّلُ قولَ القائل:
اليأس في ديننا كفر ومنقصة ؞؞؞ لا ينبت اليأس قلب المؤمن الفهم
أمْ لم ترَنا نستنهض الناس قائلين:
هو الظلم يا ابن النيل بالنيل نازل ؞؞؞ تمرُّ بك الأعوام والليل شامل
صباحُك ديجور وحقك ضائع ؞؞؞ وعهدُك مخفور فما أنت فاعل؟
وها هو الشعب قد فعل، وها هو الجَوْر قد بطل. قال: ما كان ظلما ولا كانت سنين، ولا يصبرُ المظلوم على الظلم ثلاثين. قلت: القويُّ من الشجر لا يُعجِّل بالثمر. وهل ترَكَ سيفُك من رأس؟ وهل فوق بأسِك بأس؟ وإني لأعجب كيف بقيتَ إلى يومِك الموعود هذا؟ لقد كنتَ أظلم من حيَّة، وأطغى من السَّيل. ألا ما أصدق القائل:
لا تعجبن من هالكٍ كيف ثوى ؞؞؞ بل فاعْجَبَن من سالمٍ كيف نجا
قال: وهل شكاني الشعب إليك؟ إسأل الناسَ إن كنت جاهلا. قلت: ما أثقلك وما أبرمَك! لقد ملَّ الناس صُحبتك، وأنت جاثمٌ على القلوب تخطب في الناس. "فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث"، أما علمت أنها في الثقلاء نزلت؟ قال: أوَكنتُ ثقيلا؟ قلت: حاشاك، بل أنت الخفيف الظريف، الورِع العفيف. اسمعْ أخاً لنا يُجيبك:
أنت يا هذا ثقيل ؞؞؞ وثقيل وثقيل
أنت في المنظر إنسا ؞؞؞ ن وفي الميزان فيل
قال أبَلغ قنطُ الناس هذا المبلغ؟ ألا ما أضيق صدورَكم!
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ؞؞؞ ولكن أحلام الرجال تضيق
قلتُ: والله لو حال الحَوْل، بَعدَهُ حَوْل وحَول، وطال القول، يَردفُه قولٌ وقول، وفطن أبو الهَول، لبقيتَ كغُول أثقلَهُ الفُول. لقد غششتَ رعيتك، وخفرتَ ذِمتك، وسمتَ الناسَ الهوان، وأطلقت لزبانيتك العنان، والظلم مؤذن بخراب العمران. وحين قيل لكَ ارحلْ، أبَيتَ إلا الجدل. أفتُراك خفيفٌ أم ثقيل؟ فإنَّا وإياك كما قال الشاعر:
يا مبرماً أهدى جَملْ ؞؞؞ خذْ وانصرفْ ألفي جمل
قال وما أوقارها؟ ؞؞؞ قلت زبيب وعسل
قال ومن يقودها؟ ؞؞؞ قلت له ألفا رجل
قال ومن يسوقها؟ ؞؞؞ قلت له ألفا بطل
قال وما لباسهم؟ ؞؞؞ قلت حلي وحلل
قال وما سلاحهم؟ ؞؞؞ قلت سيوف وأسَل
قال عبيد لي إذن؟ ؞؞؞ قلت نعم ثم خوَل
قال بهذا فاكتبوا ؞؞؞ إذن عليكم لي سجل
قلت له ألفي سجل ؞؞؞ فاضمن لنا أن ترتحل
قال وقد أضجرتكم ؞؞؞ قلت أجل ثم أجل
قال وقد أبرمتكم ؞؞؞ قلت له الأمر جلل
قال وقد أثقلتكم ؞؞؞ قلت له فوق الثقل
قال فإني راحل ؞؞؞ قلت العجل ثم العجل
يا كوكب الشؤم ومن ؞؞؞ أربى على نحس زحل
يا جبلا من جبل ؞؞؞ في جبل فوق جبل
قال مبارك: ليس الناس على قلب واحد. قلت: صدقت، فأشِرْ! ودَعْكَ من مدَّاحٍ أَشِر! قال: انظرْ أهلَ الفن! قلتُ: بأرضك فنانان، كلاهما "إمام"، جمعَهُما الفن وفرَّقهما الحق. أمّا "عادل" فيميل مع كل ريح، وأما "الشيخ" فصادقٌ صريح. وغيرهما أهلُ غِناء وطرب، وهُم بين مدح وعتاب، والمداحون يُحْثى في وجوههم التراب. ثم سألت أحد شبان الثورة فقال: أتسألُني عن حسني مبارك أم حسين باراك؟ ففيهما شيء من شبَه، لا يُخطِئه من نَبِه. قلتُ: حُسْنٌ وبَركة. قال: أو لعله نحسٌ وكَرْب، ليس غير لفظٍ قُلِب. أو لعلك يا مبارك بركتَ على العرش ولم تَقُمْ، فقيل حَسُن البُرُوك إذا لم يَدُم. أمَّا شبيهُك إيهود باراك، فتوَلَّى وولَّى وأنت بلا حَراك. فهلاَّ اقتديتَ بصاحبك إذ برَك ثم ترَك؟
قال هاشم ثم أنشأت أقول:
هوى غير مأسوف عليه فلم يدع ؞؞؞ بأي فؤاد للترحم موضعا
وكان سقوط الفرد مصدر فرحة ؞؞؞ فكيف يكون الأمر لو سقطوا معا؟
قال: وبينا نحن على حالنا تلك إذ أقبل المظفر قُطز، فقال: سلامٌ على الحمإ المسنون، خليفةِ العظيمِ أخناتون. قال مبارك: من أنت وما وراءك؟ قال: رُدّ السلامَ ويحك؟ أنا قطز، جئتُ أنصرُ الحق. قال: ومالك ولنا؟ قد حكمتَ دهرا ومضى زمانُك. قال قطز: نُصرَة الحق شرف، ونُصرة الباطل سرف. قال مبارك: وهل كانت رعيتُنا كرعيتك، فنكون مثلك؟ فها هُم العسكرُ قد عصَوا أمرَنا، وارتضَوْا غيرَنا. فعلامَ العِوَل؟ ومنهم العَضَل؟ قال قطز: في أرضك خير الأجْناد، لو وَجدوا شِهامَ القُواد. وانظرْ صنيعَهم في"بارليف"، حين عزَّ النصير والحليف. ولقد أبْلَوا البلاءَ الحَسن في جالوت، فهل كنتُ أنا المَلك طالوت؟ أَصلِحْ نفسَك يَصلحْ لك الناس!
قال: لكنكَ وجدتَ العونَ من "عبدِ السلام"، قال قطز: وأنت منعت الشيوخ من الكلام. فحالُك "كالمغيث عمر" عندنا، فهذا حالفَ المغول وترَك القريب، وأنت قرَّةُ عينك في تل أبيب. بِعتَهُمُ الغازَ بَخسا، أقبِحْ به رِجسا! قال: وما كنتَ تريدني أن أصنع؟ ولا صاروخ لي ولا مدفع؟ قال قطز: أتقول هذا وأنت الطيَّار؟ ويحكَ ما كنتَ تفعلُ لو لقيت التَّتار؟ فهل كنا أكثر من المغول عُدّة وعددا؟ بل كانوا أضعافنا يجدون عونا ومددا. قال مبارك: فما كانت حيلتكم؟ قال قطز: خطبت في الجُند إذ رأيت التردد والنكوص، و"بيبرس" والميمنة كبنيان مرصوص: "يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين". قال قطز: ولمَّا حمي الوطيس، وتململ في رَمْسِه رمسيس، وبلغت القلوب الحناجر، وتكسرت سيوف وخناجر، ألقيتُ خوذتي وناديت واإسلاماه! وما رمينا العدو ولكن الله رماه. قال مبارك: فقد كانت لنا صولات وجولات، وأعمال ثقال. قال قطز: وأولُّها حربُ الرِّمال، وثانيها ابنُك "جمال"، وآخرها ضربُ الحصار. فلقد أوتِي الغزِّيُّون من قِبَلِك، ودُهِي الناس منك بأعظم داهية، فليتَ شعري أفوق سادِيَتك سادية؟ أَهمَّكَ خفرع ومنقرع، وحاصرتَ الوِلدان والرُّضَّع.
قال هاشم: فصحبتُ قطز ومضيْنا، وإذا بالرصافي مقبلاً يقول:
يا ملوك الأنام هلا اعتبرتم ؞؞؞ بملوك تجور في الأفعال
فاتركوا الناس مطلقين وإلا ؞؞؞ عشتم موثقين بالأوحال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.