العالم يودع ضمير أمة على صدر صفحتها الأولى كتبت كمسمولسكايا برافدا الروسية - الاثنين 4 أغسطس - تحت عنوان "ألكسندر سولجينتسين يفارق الحياة" تقول: "في ليل الثالث من أغسطس توفي الكاتب الروسي الكبير الحائز على جائزة نوبل ألكسندر سولجينتسين وحلت الوفاة في الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة حسب تصريح "ستيبان" ابن الكاتب بسبب أزمة قلبية، ولم يكن يفصل الكاتب الكبير عن بلوغه التسعين سوى عدة أسابيع، وكان الكاتب الكبير يعاني من المرض في الفترة الأخيرة، وفي أبريل من هذا العام صرحت زوجته ناتاليا ديمتريفنا للصحفيين بقولها إن الكاتب يعاني من مشاكل حادة في العمود الفقري بسبب نقص إحدى الفقرات مما جعله عاجزا عن السير والحركة، وإن لم يمنعه ذلك من مواصلة حياته وإبداعه الأدبي". وكان ناشره يعمل مع زوجته على إعداد "الأعمال المختارة" للكاتب لطبعها في ثلاثين جزءا. وقد توجه الرئيس الروسي ديمتري ميدفييف ببرقية عزاء لأسرة الكاتب، وكذلك عدد من رؤوساء الدول الأخرى، وأرسل الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين برقية تعزية إلى نجل الاديب الكبير وأرملته جاء فيها: "إن الشعب الروسي كله، ونحن الذين عاصرناه نشعر بالفخر لأن سولجينسين كان إبنا لشعبنا، وسنظل نذكره باعتباره إنسانا قويا وجريئا ينطوي في داخله على الشعور الهائل بكرامة الإنسان، أما إبداعه الأدبي، وحياته، فستظل مثالا حيا لنا على التفاني في الدفاع بنزاهة وشرف عن قيم الحرية والإنسانية". كما نقلت وكالة أنباء "انترفاكس" عن الرئيس الأسبق ميخائيل جورباتشوف قوله إن سولجينتسين "كان واحدا من قلة من الناس الذين تحدثوا بقوة عن فظائع نظام ستالين وعن الشعب الذي عاني من غير أن ينكسر". وكتبت صحيفة "ليتراتورنايا جازيتا" أكبر الصحف الأدبية الروسية تنعي الكاتب الكبير مستعرضة تاريخ حياته وأثر أعماله الأدبية تحت عنوان "مؤلف أرخبيل جولاج لم يتم التسعين عاما". وصرح دامير عزاتولين نائب رئيس مجلس المفتيين الروس بقوله: "كان المسلمون في روسيا يعتبرون الكسندر سولجينتسين وسيعتبرونه إنسانا عظيما دافع عن كرامته في أصعب الظروف، وأعطى مثالا لضرورة أن يبقى الإنسان إنسانا مكافحا من أجل حقوقه، وسوف نتذكر الكاتب العظيم دائما بأطيب الكلمات". وكتبت صحيفة "صباح روسيا" تحت عنوان "روسيا تفقد ضمير الأمة" تقول: "فقدت روسيا إنسان هذا العصر، الكاتب، والمؤرخ، والشاعر، ألكسندر سولجينتسين" وكتبت الصحف الروسية كلها تنعي الكاتب الكبير. وتلقت أسرة الكاتب الراحل برقية من الرئيس الفرنسي ساركوزي جاء فيها: "إن سولجينتسين أحد أعظم مفكري روسيا في القرن العشرين.. وسيدخل التاريخ بصفته الكاتب الذي واصل طريق دوستيوفسكي"، ونوه ساركوزي بدور سولجينسين الاجتماعي في المرحلة السوفيتية قائلا إنه كان "تجسيدا لكل حركة المعارضة"، كما تلقت أسرته برقية عزاء من الرئيس الأمريكي جورج بوش، وأصدر مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي على لسان ممثله الأعلى للشئون الخارجية خافير سولانا بيانا أعرب فيه الاتحاد عن أسفه الشديد لرحيل الكاتب الروسي، وجاء في البيان" لقد فقدنا أحد أعظم كتاب أوروبا في القرن العشرين، وسيظل التاريخ يذكره ككاتب أثر في مجرى التاريخ العالمي". ونشرت صحيفة التايمز نعيا كبيرا للكاتب الروسي واعتبرته "ضمير أمة"، منوهة بأن إبداعه وكتبه هي التي ألهمت المعارضة السوفيتية في صراعها ضد الشمولية، كما ألهمت الملايين من أبناء وطنه. وكتبت "الأسوشيتد برس" تقول إن إبداع سولجينتسين أيقظت في القراء الإيمان بأن جرأة وشجاعة إنسان واحد يمكنها أن تقف في مواجهة إمبراطورية شمولية كاملة. ونوهت "ديلي تلجراف" بأن سنوات غربة سولجينتسين الطويلة في الخارج لم تحوله إلي مواطن غربي، كما أن عداءه للاتحاد السوفيتي لم يحوله إلي نصير مخلص للنظام الأمريكي، ولهذا فإن وسائل الإعلام الأمريكية التي أطلقت على سولجينتسين لفترة طويلة صفة "البطل – المنشق" سرعان ما تراجعت عن ذلك واعتبرته "ناكر للمعروف ومضجر". سولجينتسين.. أسطورة المواجهة رحل إذن عن عالمنا ألكسندر سولجينتسين، الكاتب الروسي العظيم، والفلاح البسيط الذي عاش حياة فقيرة وشاقة، وضرب خلالها مثالا نادرا للمدى غير المحدود للقوة الروحية التي يمكن لفرد أن يتمتع بها في مواجهة العالم. كان البحث عن الحقيقة والعدل همه الوحيد، فاعتبره النظام السوفيتي "عدوا"، واعتبرته الديمقراطية الروسية الجديدة "مجرد وهم"، حين بحث عن الحقيقة ثم أعلن أنه لم يجدها لا في تلك "الشيوعية" ولا في هذه "الرأسمالية والديمقراطية". وخلال رحلته الطويلة لم تستطع الدولة السوفيتية أن تحطمه، ولم تتمكن الرأسمالية الروسية من أن تشتري قلمه، وظل كما اعتبره الشعب الروسي "ضمير أمة". كان سولجينتسين بلا شك آخر الكتاب الروس العظام، الذين كان لكل منهم مشروعه الاجتماعي والإنساني لتغيير وجه العالم، وكان مشروع سولجينتسين الفكري يعتمد على إحياء القومية الروسية، وترسيخ النزعة السلافية، على المسيحية، وعلى التطور العلمي والثقافي، على تقديس كرامة الإنسان، والحرية والعدالة. وعداء سولجينتسين للدولة السوفيتية أمر معروف، فقد اعتقل بسبب انتقاده لسياسة ستالين في خطابات إلي أحد الأصدقاء، وفي معسكرات العمل عاين الكاتب الكبير قسوة وفظاعة الشمولية والاستبداد، فقرر أن يكافح ضد النظام حتى النهاية، والأجدر أن نقول إنه قرر أن يكافح ضد كل ظلم يقع على شعبه حتى لو تقنع ذلك الظلم بالديمقراطية. وفي مرحلة "ذوبان الثلوج" عهد خروتشوف، سمحت السلطات بنشر أول أعماله الروائية "يوم من حياة إيفان دنيسوفيتش" في مجلة "نوفي مير" عام 1962، وصرح الزعيم الروسي خروتشوف خلال لقاء له بسولجينتسين في 12 أكتوبر 1962 بقوله: "لقد قرأت رواية" يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش". نعم. وأعترف أنني في البداية كنت أقرأ بروح متحاملة على العمل.. لكن الرواية اجتذبتني بعد ذلك شيئا فشيئا.. وأعتبر أنها عمل قوي للغاية، وهي لا تستدعي المشاعر الثقيلة مع أنها مليئة بالمرارة.. هي رواية تدعو للثقة بالحياة ومكتوبة حسب ظني من منطلق حزبي". لكن مساحة الحرية الصغيرة سرعان ما توارت، فلم ينشر بعدها سولجينتسين سوى أربع قصص، وأغلق الباب من جديد أمامه. وعندما نشر الجزء الأول من روايته "أرخبيل جولاج" في باريس، ثم منحه الغرب جائزة نوبل عام 1970، اعتبرت السلطة السوفيتية أن الجائزة جاءت في إطار الحرب الباردة، وضاقت بالكاتب، وفي 7 يناير 1974 صرح الرئيس السوفيتي ليونيد بريجنيف في اجتماع للمكتب السياسي للحزب بقوله: "صدر عمل جديد لألكسندر سولجينتسين بعنوان - أرخبيل جولاج- وحتى الآن لم يقرأ أحد هذا الكتاب الجديد، لكن محتواه معروف مسبقا. إنه هجاء فظ معاد للسوفيت.. ومن ثم فإن لدينا كل المسوغات الكافية لنضع سولجينتسين في السجن.. فقد تجرأ على تاريخنا السوفيتي وعلى السلطة السوفيتية.. لقد تمادى كثيرا هذا العنصر المعربد المسمى سولجينتسين.. ولم يعد يأبه بشيء.. وإني لأعتبر أنه من الضروري تكليف جهاز "كي . جي . بي" ونيابة الاتحاد السوفيتي بوضع سولجينتسين تحت طائلة القانون". وعلى الفور يتم القاء القبض على الكاتب في 12 فبراير 1974 وتوجه إليه تهمة "خيانة الوطن" إليه، ويتم نفيه إلي ألمانياالغربية. وقد استقبله الغرب بترحاب بالغ، فقد كانت أعماله مترجمة إلي كل اللغات الأوروبية، وتوقع الغرب خاصة الأوساط الأمريكية أن يقابل سولجينتسين ذلك الاحتفاء بإحناء رأسه، لكن الغرب ما لبث أن رأي في الأديب الكبير شخصية لا تهادن، وفاجأ سولجينتسين الجميع عندما صرح في خطاب له في هارفارد عام 1978 بقوله: "إن ديمقراطية التعددية الحزبية لا تصلح نموذجا بالحتم لكل البلدان"، وتعددت مثل تلك التصريحات التي كان سولجينتسين يعرب فيها عن أن التجربة الديمقراطية الغربية ليست مرضية ولا تمثل ما كان يتخيله من حرية. وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي وزواله، أعاد الرئيس الأسبق جورباتشوف الاعتبار لسولجينتسين، والجنسية، ودعاه للرجوع إلي بلاده، فعاد عام 1994، برحلة طويلة منهكة بالقطار عبر قرى روسيا لكي يرى أحوال بلده وفلاحيها. واحتفلت الأوساط الرسمية الروسية كلها بمجيئه، أي بوصول الكاتب الذي هزم الدولة السوفيتية على حد ما نشرته صحيفة إزفستيا، أما صحيفة "سيفودنيا" فقد استقبلته بعنوان عريض "إنه آخر المعلمين الذين أشعلت كلماتهم النار في قلب البشر". وتوقع الجميع من الكاتب الذي عرف بأنه خصم عنيد للدولة الشمولية أن يعلن تأييده للدولة الديمقراطية. لكن سولجينتسين تأنى طويلا، ورفض أن يلتقي بالرئيس الروسي حينذاك بوريس يلتسين، إلي أن ألم بأوضاع روسيا، فأذهلته الحقائق الجديدة وفي مقدمتها أن هناك نحو أربعين مليون مواطن يعيشون تحت حافة الفقر. وكان من الممكن للكاتب العنيد أن يستظل بمواقفه الماضية وحدها، فلا ينشغل بالحاضر، وأن يتجمد في أسطورة معاداة النظام السوفيتي، وأن يتكسب من تلك الأسطورة، لكنه سرعان ما أعلن للصحف الروسية– موسكوفسكي نوفستي - عن موقفه من البريسترويكا والإصلاحات السياسية قائلا: "إن عملية إنقاذ الدولة المنهارة في عهد جورباتشوف لم تتضمن سوى إسقاط لمفهوم الدولة ذاتها" أما في عهد بوريس يلتسين فإن الإصلاحات على حد قوله لم تتجاوز: "الفوضى ونهب ثروات روسيا بلا حدود". وعام 1996 قرر الرئيس يلتسين أن يمنحه أرفع وسام في الدولة، فرفض الوسام معلنا أنه لا يستطيع قبول الأوسمة من "سلطة قادت روسيا إلي الخراب". وأدهش العجوز العنيد الجميع في روسيا، وكل من ظن أنه قادم لكي يتاجر بقصة نضال قديمة ضد الدولة، فإذا به مازال يبحث عن الحقيقة والعدالة. ويعلن الكاتب الكبير رفضه لما يسمى إصلاحا سياسيا واقتصاديا في روسيا قائلا: "إن نسبة الوفيات في روسيا فاقت منذ عام 1993 نسبة المواليد بنحو مليون نسمة تقريبا. ترى هل كنا نخسر مليون نسمة سنويا لو أننا اشتبكنا في حرب أهلية؟ إن روسياالجديدة لم تطرح نفسها كوطن لشعبها". وهكذا سرعان ما يخبو الاهتمام الرسمي بالكاتب الكبير، كما خبا الاهتمام به من قبل داخل أمريكا. ويدلي الكاتب بحديث في يونيو 2006 إلي صحيفة "موسكوفسكي نوفستي" يثير غضب الغرب، فيقول إن حلف الناتو "ينمي بشكل حثيث قواه العسكرية في شرق أوروبا، ويفتح في الجنوب الطريق للثورات الملونة، ويمد اهتماماته إلي وسط آسيا، كل ذلك بهدف محاصرة روسيا. ولا يدع كل هذا مجالا للشك في أنهم يعدون لحصار روسيا بالكامل، لكي يسلبوها سيادتها". ويهاجمه الديمقراطيون الروس الجدد، وتكتب فاليريا نودوفورسكايا أن موقف الكاتب "خيانة.. وعودة للنغمة السوفيتية القديمة"! وهكذا يجد سولجينتسين نفسه متهما بما عاش طيلة حياته يحاربه، أي بأنه سوفيتي! وذلك لمجرد دفاعه عن استقلال روسيا في مواجهة الحصار الأمريكي لبلاده. وشيئا فشيئا يتم عزل سولجينتسين داخل روسيا، خاصة بعد أن أصدر كتابه "مائتي عام معا" الذي يناقش فيه العلاقات بين الروس واليهود، فيثير ضده الأوساط الصهيونية التي تعتبر أنه يقدم الذرائع "لمعاداة السامية"، وتصدر تلك الأوساط كتبا كاملة تفتري فيها على الكاتب الكبير وتختلق الحكايات القذرة عن أنه كان عميلا للأجهزة السوفيتية في محاولة لتحطيم أسطورة الكاتب ضمير أمته. لقد نال سولجينسين شهرته لأنه كان أول من تجرأ وكتب عن المعتقلات السوفيتية ومعسكرات العمل الإجباري ووصف تلك السجون وطرق العقاب ومقاومة الإنسان لوطأة الدولة المرعبة، وقدرته رغم ذلك كله على الانتصار. وستظل أعمال الكاتب الكبير علامة لا تمحى لأنها جزء حي من تاريخ الشعب الروسي، الذي كان سولجينتسين أول من بادر إلي وصفه، وستظل أعماله أيضا علامة حية على كاتب عظيم أدرك أن الكاتب لا يمكن أن يحيا بمعزل عن هموم وطنه ولا عن الأخطار التي تتهدده. وقد عاش ذلك الفلاح الروسي البسيط، الذي لا يتكرر، يحتضن تلك الهموم بطريقته التي لم تعجب أحدا، ولم ترض أحدا، بحيث أنه عاش غريبا منفيا داخل الشيوعية، وغريبا منفيا داخل الرأسمالية ، لأنه لم يجد ما كان يبحث عنه، لا هنا، ولا هناك. ولعل سر ذلك الكاتب الكبير يكمن في العبارة التي أطلقها الشاعر الروسي نيكراسوف ذات يوم حين قال: "لست ملزما بأن تكون شاعرا عظيما، لكنك ملزم بأن تكون مواطنا عظيما". وقد كان مواطنا وأديبا عظميا، ويحق لزوجته أن تقول عند رحيله: "لقد عاش حياة صعبة ، ولكنها سعيدة". حياة كاتب لد ألكسندر إيساييفتش سولجينتسين في 11 ديسمبر 1918 في مدينة كيسليفود بالقوقاز، توفي والده – وكان فلاحا روسيا بسيطا – قبل مولده، وعاش مع والدته في فقر مدقع، ثم انتقل مع والدته وهو في السادسة إلي مدينة "رستوف على الدون" وفيها أنهى الكاتب مدرسة متوسطة، ظهر اهتمام سولجينتسين بالأدب في سنوات الدراسة حين بدأ يكتب الشعر. ثم التحق الكاتب بكلية الرياضيات والفيزياء بجامعة روستوف، وفي التاسعة عشرة من عمره فكر في كتابة الرواية. وعام 1940 درس في بالانتساب الآدب والتاريخ في كلية الأدب التابعة لمعهد الفلسفة بموسكو، ومع إندلاع الحرب العالمية الثانية 1942 تم استدعاء سولجينتسين للخدمة العسكرية، وفي أغسطس 1943 حصل على وسام الحرب الوطنية من الدرجة الثانية، وفي فبراير 1945 تم اعتقاله وهو برتبة نقيب بسبب تصريحات حادة أدلى بها ضد ستالين والقيادة السوفيتية في رسائل متبادلة بين وبينه نيكولاي فيكتيفيتش. وحكم عليه بثمانية أعوام سجن وفق المادة رقم " 58 " الشهيرة حينذاك. وقضى سولجينتسين فترة من الحكم في سيبيريا ثم نقل إلي ضواحي موسكو في قرية مارفينو بمعسكرات العمل الإجباري، وأخيرا قضى ثلاث سنوات من 1950 – 1953 في معسكرات عمل مماثلة بكازاخستان في ظروف قاسية. وعام 1953 يكتشف سولجينتسين أنه مصاب بسرطان في المعدة، وتجرى له عملية جراحية داخل المعسكرات، وفي يوم خروجه من مستشفى المعسكر خطر له مشروع روايته الشهيرة التي كتبها فيما بعد "جناح السرطان" التي تصور انتصار الإنسان على الموت مستحضرا تجربته الخاصة وانتصاره على المرض العضال في ظروف شاقة. وكان المثقفون والقراء يتبادلون روايته "جناح السرطان" في السر، مع روايته الثانية "الدائرة الأولى"، وتولى البعض تهريب الروايتين خارج الاتحاد السوفيتي وهناك تم نشرهما ووجدتا صدى كبيرا في الغرب الذي تعرف بشكل أدبي على حقيقة معسكرات العمل السوفيتية. عام 1956 تم الإفراج عن سولجينتسين فانتقل إلي مقاطعة "فلاديمير"، وخلال عامين من إقامته فيها قام بتدريس الرياضيات والفيزياء في مدرسة القرية، وعاش في منزل بسيط لفلاحة كتب عنها فيما بعد قصة بعنوان "بيت ماترينا"، ثم عمل في "ريازان"– على بعد مائتي كيلومترا من موسكو - بالتدريس فترة واصل خلالها الكتابة الأدبية. وكانت تلك مرحلة ذوبان الثلوج التي أعقبت وفاة ستالين عام 1953 وصعود قيادة جديدة بزعامة نيكتا خروتشوف إلي الحكم والإعلان عن مرحلة "ذوبان الثلوج"، وفي تلك الفترة، وتحديدا عام 1962 سمح خروتشوف بنشر رواية سولجينتسين "يوم من حياة إيفان دنيسوفيتش" في مجلة "نوفي مير" الأدبية فظهرت على صفحاتها، ونشرت بالفعل في نوفمبر من ذلك العام، وهي رواية تصور كفاح نجار روسي بسيط من أجل البقاء على قيد الحياة في معسكر للعمل الإجباري أرسل إليه في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتحول اسم "ألكسندر سولجينتسين" إلي علم، وسارعت دور النشر الغربية بترجمة الرواية ونشرها على أوسع نطاق، وأصبح سولجينتسين أحد أشهر الكتاب الروس في الغرب. وأحدثت الرواية أثرا يشبه الانقلاب الأدبي والفكري في حياة الاتحاد السوفيتي، وأصبحت رسائل القراء والمعتقلين السابقين في تلك المعسكرات وتجاربهم أساسا وأرشيفا اعتمد عليه سولجينسين لاحقا عند كتابته روايته الشهيرة "أرخبيل جولاج" التي اعتبرها النقاد عملا روائيا تاريخيا يرصد عمليات الاضطهاد والتنكيل السوفيتية مابين 1918 حتى 1956. في السنوات اللاحقة لم ينشر سولجينسين سوى أربع قصص، ومنعت أعماله بما فيها "يوم من حياة إيفان دنيسوفيتش" التي سبق نشرها . وظل سولجينسين بدأب وصبر، وفي السر، يكتب تلك الرواية نحو تسعة أعوام كاملة ما بين 1958 – حتى 1967. في عام 1969 قام اتحاد الكتاب السوفيت بطرد ألكسندر سولجينسين من عضويته، وبعدها بعام واحد، سنة 1970، يمنح الغرب جائزة نوبل في الأدب لسولجينسين نظير: "القوة الأخلاقية التي يواصل بها تقاليد الأدب الروسي" كما جاء في حيثيات الجائزة. لكن سولجينتسين يرفض السفر إلي ستوكهولم لاستلام الجائزة، خشية ألا يتمكن من الرجوع إلي بلاده عهد الرئيس ليونيد بريجنيف الذي عرف بعهد الركود. واعتبرت السلطات السوفيتية أن منح سولجينسين جائزة نوبل عمل سياسي عدائي. ولم يستطع سولجينسين أن يحصل على القيمة المالية للجائزة إلا بعد نحو خمس سنوات من حصوله عليها. وفي 12 فبراير 1974 تلقى السلطات السوفيتية القبض على الكاتب على الكاتب الكبير وتوجه إليه تهمة "خيانة الوطن" إليه، ويتم بعدها بليلة نفيه إلي ألمانياالغربية. وفي الخارج قرر الكاتب أول الأمر أن يعيش في "زيورخ" بسويسرا، ثم رحل إلي باريس التي صدر فيها الجزء الأول من روايته "أرخبيل جولاج" عام 1973، ثم شد رحاله إلي أمريكا حيث استقر فيها. وكما فتح صعود زعامة خروتشوف الجديدة في حينه الباب لنشر أعمال سولجينتسين، فإن صعود قيادة جاربتشوف الجديدة، وسياسة البريسترويكا، فتحت الباب لإعادة نشر أعماله في الاتحاد السوفيتي عام 1989، وفي أغسطس عام 1990 أعيد الاعتبار لسولجينتسين وأعيدت إليه الجنسية التي أسقطت عنه، وفي سبتمبر من العام ذاته نشر سولجينتسين كتابه الشهير "كيف نعيد بناء روسيا؟" فطبع منه سبع وعشرون مليون نسخة داخل الاتحاد السوفيتي، وهو رقم لم يصل إليه أي عمل لآي كاتب من قبل. وفي مايو 1994 عاد الكاتب إلي وطنه برحلة طويلة في القطار مر عبرها بقرى بلاده كلها. واستقبله الشعب الروسي ووسائل الإعلام بترحاب وضجة وبإجماع على أنه "ضمير روسيا الحي"، لكنه خلافا لما كانوا يتوقعونه منه أخذ ينتقد الإصلاح الروسي على الطريقة الأمريكية وقال إن الشيوعيين على مدى سبعين عاما لم يفعلوا بروسيا ما ارتكبه في حقها الديمقراطيون الجدد. عام 1997 أنشأ جائزة أدبية باسمه تمنح لكل: "عمل أدبي تتوفر له المقدرة الفنية الراقية، ويساعد في الوعي بروسيا، ويسهم بقسط كبير في تطوير الأدب الروسي والحفاظ على تقاليده". وفي عام 1998 منحه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين أرفع وسام روسي، فرفضه قائلا "لا يسعني أن أتقبل وساما من السلطة التي قادت روسيا إلي الخراب الحالي". وسرعان ما خفت اهتمام السلطات والإعلام بالكاتب الكبير حتى أن أعياد ميلاده في السنوات الأخيرة كانت تمر دون احتفال أو إشارة إليها. وضرب الكاتب على نفسه نطاقا من العزلة في بيت بضواحي موسكو، عاش فيه كما عاش في "فيرمونت" الأمريكية، خلف أسوار عالية بعيدا عن الأضواء، لا يغادر مكانه. ***