قبل أن تسربل الشمس عتمة دهاليز البيوت، تأتيني جمانة. بلثغتها الموشومة في الذاكرة تناديني (زلال)، (زلال)، يدا في يد نتدحرج في المنحدر، مرورا بخزان الماء صوب السكة الحديدية. مع انتصاب قرص الشمس متوهجا في الأفق أكون قد استويت جسدا متمايلا فوق القضيب الأمين للسكة الحديدية، بينما تحاول (جمانة) متعثرة فوق القضيب الآخر. المسافة بيننا تطول أكثر، تعاود هي الكرة مرات أخر متوسلة بذراعيها الدقيقتين في الحفاظ على توازنها، فتسقط مع ذلك. *********** في اليوم الموالي، نعود مرة أخرى إلى اللعبة نفسها، (جمانة) كعادتها توفق لبضع خطوات ثم تسقط، أضحك منها فتنيخ عني بوجهها، تنظر إلي ثم تنظر إلى خزان الماء المنتصب كالطود قبالتنا، أنا أتأملها وهي تتأمل الخزان الشامخ أبدا..."إنه هو ما يمنح منطقتنا الذكورة و الفحولة" كما نسمع من الكبار. (جمانة) كل مرة تقع، كانت تخجل من أنوثتها، فكانت تعتقد أن شيئا سحريا يشدني من وسطي فلا أسقط مثلها. شيء ذو قوة خفية لا تدركها هي. ************ ذات ليلة سألني أبي عن ذكورتي، ضحك في وجهي قائلا :"غدا ستطير الحمامة، قمت بجولة سريعة في وجهه الكث اللحية، ثم ركضت نحو (جمانة) ... في الصباح الباكر قبل أن تسربل الأشعة أركان بيتنا الواطئ، طار قلبي من موضعه بضربة مقص واحدة، وبقيت الحمامة متضمخة في عشها. في لحظة وجيزة عج البيت بالجيران وبنات الجيران إلا واحدة ... امتزجت الزغاريد بالتهاني بينما أجهشت أنا بالبكاء، فانسابت دموع حرى على وجنتي، لم أفهم لماذا يهللون لألمي ؟ نقطة صغيرة أنا في عالم الكبار. ************ لما أصبحت يافعا علمت أن أصل (جمانة) من صعيد مصر، وأن أباها آل على نفسه إلا أن تنقرها الحمامة نقرا مبرحا لما وشى بنا الواشون.