ما أكثر الذكريات التي تنقش على جدران شرايننا وتتشبث في عقولنا.. وتغدو عميقة.. عميقة.. لا نستطيع نسيانها أو تناسيها على مر الأيام .. ولعل حياتنا اليومية وما تحويه من مفردات الألم والقهر والمعاناة.. ما تجعل أحداثها السحيقة تطفو على سطح ذكرياتي.. حتى انه ما من يوم يمر إلا وأراها تتهاوى أمامي كقطعة قماش بالية.. هشة عاجزة عن لملمة شظاياها وصورها. ومهما حاولت إتباع قواعد الاسترخاء واستدعاء الصور السعيدة من صندوقي الأسود المحكم الإغلاق.. في أسبار ذواتي الخفية إلا أنها تزداد غورا وسبورا.. ورغم هذا الكل المركز من اجترار الذكريات المتراكمة فوق كاهلي وكأنها الجبال.. إلا أن صورة صديقة طفولتي وعمري (مرام النحلة) تبقى المستحوذة على كل جوارحي وأحاسيسي.. وهي ما انفكت تستقبلني مع ترانيم كل صباح .. تلبس زيها المدرسي الأزرق تلملم شعرها الناعم المنثور.. بطوق من الياسمين.. ليزيدها سحرا ودلالا.. لا تكاد تفارقها ابتسامتها العريضة التي أصبحت علامتها الفارقة المميزة.. نشبك أيادينا.. نتباهى بطفولتنا المفعمة بالحيوية والنشاط.. نقارب ما بين مقاعد الدراسة حتى تحتك الأكتاف بالأكتاف.. ويغدو همسنا أكثر وضوحا. وفي ساعات المساء.. يحضرنا الشوق والحنين.. فنخترع لأهالينا أسبابا واهية لاستعمال الهاتف.. وما أن أسمع صوتها الآتي من الحارة القريبة كوقع شحرور يشدو.. حتى يُطمئنني قلبي بأن عالمي يسير برتابته المعتادة في رسم معالم الغد الحالم بالأمن والأمان.. مرام : - هل سترتلين علينا غدا بعضا من آيات الذكر الحكيم.. - طبعا حبيبتي غدا دوري بالتسميع.. مرام : - يا الله ما أطيب معلمة الدورة وما أحرصها على تحفيظنا القران الكريم وشرحه.. - تريدنا أن نكون على خطى الصالحات من أمهات المسلمين.. مرام : - كم حزنت البارحة على صديقتنا (ملاك) كان الله في عونها - ليس بسيطا أن تفقد الأسرة راعيها.. مرام : - ما أكرم أن يقضي الإنسان شهيدا.. يشفع لسبعين من أهله.. .. وفي ليل ذات اليوم حيث سقط الدم فيها في الدم.. والتاريخ من التاريخ.. ومرام من الياسمين.. اقتحم المغول محيط سكناها.. بحثا عن شباب المقاومة.. فاختلط الرصاص بالدم.. والصراخ بالهدم.. وصوت جريح غير بعيد عن بيتهم.. يستغيث.. ينزف يتألم.. اندفع أبواها نحو الباب غير آبهين لجنود الموت ودباباتهم وآلياتهم.. يحاولون انتشال ما تبقى من الجريح الذي أمسى جثة هامدة.. غير بعيدة عن جثامين رفاقه الأربعة الآخرون.. مرام التي تقف غير بعيدة عن والديها تشاهد ودموعها منهمرة على وجنتيها.. أطلقت صرخة رعب وفزع وفتحت عينيها وفرغت فاها (وا.. ويلتاه....)!!؟؟ عاجلتها رصاصة احتلالية غادرة مرت بالقرب من جبهة والدها وأُذن والدتها.. لتخترق دمعتها ولتستقر بثغرها الجميل.. وتقتل معها كل ما هو جميل. (ولتسجل مرام رقما جديدا في قافلة الدم المسفوح في كل دقيقة..) اليوم وبعد أربعة أعوام على رحيلها.. رزقت والدتها بمرام جديدة غدت تملئ حياتهم بالبهجة والسعادة.. وبعض التعويض ..!! وأنا ما فتِئتُ أسأل باكية.. أو أبكي متسائلة: "من يعوض محمد.. وعبير وفارس وحنان.. وإيمان....؟؟؟؟؟؟؟"