مع اقتراب موسم الحصاد في شهر يونيو من كل سنة ، و قبل أن تبدأ العطلة الصيفية حتى ، كنت أطير إلى البادية ، إلى ضيعتنا ، إلى موطني ، أين خرجتُ ذات فجر مطير أتلمس ذاتي بالصراخ مع أول نسمات الوجود . امتزجت فيه أناة أمي مع هدير الميازيب . المطر ! المطر ! الكل كان يحب المطر و يخاف منه . " اللّهم حوالينا " . تنكر والدي للضيعة مضطرا . تركها لأخيه ، و رحل بنا إلى المدينة للدراسة ، في وقت بدأ فيه الشلل يسري في أراضي البور و شحت مياه الآبار و الوديان . و بقي عمي و أبناؤه أوفياء للضيعة الموروثة. و بقيتُ وفيا أنا أيضا لذلك المزيج بين الأرض و الإنسان . معظم أحلامي كانت تدور حول ذلك المزيج الهلامي، كنت إما أحلم بأحداث كانت قد وقعت أو أرى أخرى ستقع. أذهب إلى البادية و أنخرط في كل الأعمال. أحس برجولتي ممسكا المذراة و المعول و المحراث . أو أركب الفرس ملطاء . أتفقد كل حيوانات الضيعة . و أتفقد الأرنب الذي عينته لي زوجة عمي . كان لا يزال لم يفتح عينيه بعد . قالت لي : - هو لك ، تذكره و لا تنساه !! حلمت به مرات عدة . و قلت لزملائي في المدرسة أني أملك أرنبا مبرقشا بالأبيض و الأسود . سألوني عن اسمه. فأعطيته اسما حضرني بسرعة البرق و لم أكن قد فكرت فيه أبدا . و إذا كان موضوع الإنشاء حول البادية ، كنت أحصل على النقطة الأولى و إطراء المعلم . و يوما حصلت على هدية فوق النقطة . لا زلت أحتفظ بها. كان موضوع الإنشاء : " الفلاح و أعوانه " . قصد المعلم بالأعوان وسائل الإنتاج من أدوات و دواب . علمت أن زملائي سيكتبون حول هذا . و لأخالفهم كتبت عن أعوان آدميين من لحم و دم ، لكن في تماس مع الدواب .. " الشوالة " . كانوا يأتون متلفعين بجلابيب صوفية رغم الحر الشديد ، و يعتمرون عمامات بيضاء هلامية أو " مْضَلاتٍ " مصنوعة من الدوم ، حاملين على أكتافهم مناجل و " صَبّاعِيات " من القصب ، ُيلْبِسونَها - عادة - الخنصر و البنصر أثاء عملية الحصاد لاتقاء ضربات المنجل الحادة . كان هؤلاء يقطعون مسافات طويلة قادمين مشيا على الأقدام . منهم من ينتعل " بومنتل " ، و منهم من كان يمشي حافي القدمين ، فتنتفخ قدماه و تتفلّح حتى يخال لك من بعيد أنه ينتعل خُفاً جلديا بالفعل . تبدو وجوههم الضامرة ، و قد لفحتها أشعة الشمس ، ذات لون برونزي داكن . تراهم يمشون كالمعتوهين في الطرقات و المسالك ، يهرشون بأظافرهم الطويلة السوداء رؤوسهم و أطرافهم و بطونهم و ظهورهم ،من فرط لسعات القمل . كان القرع يصيب أكثرهم فيداوونه بالزيت سوداء تشبه القار . تسيل مع الحر على وجوههم و رقابهم . كانوا يستنقعون في البرك الآسنة في الأودية الشحيحة . يغسلون ملابسهم بالماء و ينفضون عنها القمل في الشمس الحارقة ، أو يتحلقون زمرا تحت الأشجار في " تويزة " سحق هذه الحشرات الملعونة المتكاثرة و المتنقلة من الواحد إلى الآخر . كانوا ينامون في البيادر ، و يقضون حاجتهم أينما وجدوا ، أمام الملأ ،كالحيوانات . كان قلب عمي يرق لهؤلاء ، و ينعتهم بالمساكين . إذا استأجرهم ، يكرمهم و يجزل لهم أجورهم وافية . و كان ينهرنا إذا ناديناهم بذلك اللقب المُشين " عزي قْليقلْ " . أو تكرار تلك الجملة الآتية من زمن استبداد قواد البوادي : " الله يرحم أبا حيدو " . إذا سمع مثل هذا الكلام ، كان يستشيط غضبا ، لدماثة خلقه و تدينه الشديد . و في المقابل كان هؤلاء الشوالة يكدون في العمل عنده ، كأنهم يعملون في حقولهم التي تركوها لنسائهم و أولادهم . تساءلت أكثر من مرة عن هؤلاء، إن كانوا آدميين.