الديانة والأخلاق إذا نحن انطلقنا من وجهة نظر الشاعر التي كانت، تتمثل عنده في الرفض والتمرد، فإن الانتقاد الذي سيوجهه، في هذه الأثناء للكنيسة كما لأخلاقياتها، سيكون حكما، أكثر منه إدانة. ومسألة الاعتقاد عند "رامبو"، أو الانتصار لرأي معين، تعززه مواقفه من حركة "الكمونة". وهنالك أيضا شهادة أخرى، بهذا الخصوص، نحصل عليها في إحدى الدفاتر الإفريقية. و تتعلق هذه الشهادة بذاك النقاش الذي دار بينه وقس "إغريقي"، حيث فاجأه الشاعر بحدة رأيه، إن لم نقل بكل بساطة، بل أرعبه بموقفه الملحد. ويعزز هذا القول، مقولة وردت في بعض المصادر اللاحقة، وتتعلق هذه الأخيرة بمقولة " بول كلوديل" الذي نعته قائلا:" إنه قديس في حالة توحش". وهذا الموقف من "كلوديل"، كان في الحقيقة، كما يرى بعض المتخصصين في أدبيات رامبو الشعرية، يخفي رغبة دفينة لدى هذا الأخير، في إلحاق الشاعر "رامبو" بشعراء المسيحية. والكنيسة في نظر "رامبو" كانت تحرف عقائد الناس الطبيعية، وتحول ما تدّعيه حبا، بحب روحاني مغشوش. ولهذا ستأتي أبياته الشعرية حادة من قصيدته "القربان". وهو هنا يقف موقفا ثوريا من السفاهة الأخلاقية بكل أنواعها حسب رأيه، وبالخصوص تلك التي تباع في حلل دينية. ثم إننا نلمس هذه الثورة العارمة، في قصيدته "الشر"، والتي جاءت معبرة عن رفضه للحرب (الفرنسية-النمساوية) التي عاشها، بكل رعبها، وأخلاقياتها الدينية، والتي نسوق منها هذا المقطع التالي: بَيْنَما كان ذاكَ الجُنون المُرْعِبُ يَحْصُدُ، ويَجْعَلُ مِن أَلْفِ مائَة رَجُلٍ كَوْمَة مُدَخِّنَة، - فُقَراء مَساكين ! في الصَّيْفِ، في العُشْبِ، في ابْتِهاجِك، أيّتُها الطّبيعَة ! أَنْتِ مَن كَوّنَ قَداسَة هؤلاء البَشَر ... ! ثَمّة إِلهٌ يَضْحَكُ مِن غِطاء المَذْبَح الدّمَقْسي، ومِن مَوْجاتِ البخور، والكؤوسِ الذَّهَبِيّة، ذاكَ الذي يَنامُ على تَسْبيحاتِ المَجْدِ العُلْوِيّة. وفي مقابل كل هذا الشر، يستنجد الشاعر بقداسة الطبيعة، هذه الأخيرة التي سيمنحها الشاعر أجمل أنفاسه الشعرية وأصدقها تعبيرا. ونسوق بهذه المناسبة قصيدته " نائم الوادي"، التي جاءت معبرة بنفس شعري مرهف عن هذه المأساة الحربية: ثَقَبٌ أَخْضَر حَيْثُ يُغَنّي النّهر، عالِقٌ بِجنون إلى العُشْب، خِرَقُ فِضّة، حَيثُ الشّمسُ مِنَ الجَبَلِ الفَخور، تَلْمَع: إنّه وادٍ عَريض يُزْبِدُ بالأَشِعّة. *** جُنْدِيٌّ شابّ، فارغ الفَمِ، عارِيَ الرّأس، والرّقَبَة سابِحَة في زُرْقَة بُقْلَةٍ نَدِيّة، ينَامُ، تَحتَ غَمامَة، مُتَمَدّدا على العُشْب، شاحِبا في سَريرِهِ الأَخضَر، حيثُ يُمْطِرُ الضّياء. ظاهرة المكان إذا نحن تتبعنا ظاهرة المشي عند الشاعر "رامبو" لتبين لنا فورا، بأن إيقاع المشي لديه، كان يرتبط ارتباطا وثيقا بامتداد المكان. وهذا الارتباط كان يولد لديه، توازنا شاعريا باتجاه الطبيعة. فالمكان إذن، خصوصا في قصائده الأولى، سيتجلى في شعره كقوة روحية عالية، تجلت في تجاوزه للمظاهر الوصفية، من أجل التغلغل عميقا، في جماليات الطبيعة، عبر حركة المشي المعتادة لديه. فلنستمع إليه من قصيدته " انطباع": عَبرَ مَساءاتِ الصّيْفِ الزّرقاء، سَأمْضي عَبرَ الطُّرُقات، مَوْخوزًا بالقَمْح، داهِسا العُشْبَ الدّقيق، حالِمًا، وشاعِرا بِرُطوبَتِه عِندَ قَدَمَيّ، سَأَتْرُكُ للرّيحِ تَحْميمَ رَأسي العارِيَة. وكذلك هذا المقطع الآخر من قصيدته "تشردي": كُنْتُ أَمْضي وقَبْضَتيّ في جيوبي المَنْهوكَة، وسُتْرَتي أَيضا قد أَصْبَحَت مِثالِية، أَمْضي تَحتَ السّماء، مُلْهِمَتي، وكُنْتُ وَِفِيّك، آه ! هناك، هناك ! كَم مِن حُبّ رائعٍ حَلمْتُ بِه. *** وكُنْتُ أُصْغي إلَيْها، جالِسًا على حافَةِ الطُّرُقات، مَساءات سِبْتَمْبَر الجَميلَة، حَيثُ أَسْتَشْعِرُ بقَطَرات، النّدى عِنْدَ جَبْهَتي مِثلَ خَمْرَةٍ شَديدَةَ العُنْفُوان. وكانت أوجه المكان متعددة لديه، تتدرج من وصف الفضاءات والممرات، والأودية والحقول، لتتوقف عند وصف المخامر، وخصوصا الأثاثات التي تزينها، أو تشكل منها، تدل على هذا، بضعة قصائد نسوق منها على سبيل المثال: "في الكباريه الأخضر" و "المقصف". مَغْمورٌ بالسّعادَةِ، مَدَدْتُ رِجْلي تَحتَ الطّاولة، الخَضْراء: كُنْتُ أَتأمّلُ الأَشْياء السّاذجَة، المُزْدانَة بِنُجودٍ حائِطِيّة. ويا لَها مِن لَحْظَةٍ رائِعَة ! حينَ قَدِمَتْ تِلكَ الفَتاة الضّخْمَة الثّدْيَيْن. *** فهَذِه لَيْسَتْ مِمّن قَد تُرِْعُبها قُبْلَة، ضاحِكَةً قَدّمَت لي قِطَعَ خُبْزٍ و زُبْدَة، "وجانْبونَة" دافِئَة في صحْنٍ مُلَوّن. ومن قصيدته "المقصف": مقْصَفٌ عَريض، ومَنْحوتٌ، خَشَبُ سِنْدِيان داكِن، غارِقٌ في القِدَمِ، قَد اتّخَذَ لَهُ هَيأَةَ هؤلاء الناس المُسِنّين، فاتِحٌ هذا المَقْصَفُ، ويَصُبُّ في ظِلالِه، مِثلَ تَيارٍ جارِفٍ لِخَمْرَةٍ عَتيقَة، عُطورًا جَذّابَة. *** آه مِنْكَ !مَقْصَفُ الأَزْمِنَةِ القَديمَة، كَم مِن حِكايَة تَعْرِف، ولَكَم تَرْغَبُ في سَرْدِ حِكاياتِكَ، ولَكَم تَضِجُّ، حينَ تَنْفَتِحُ بِهدوء، أَبْوابُكَ العَريضَة السّوْداء. لقد كانت هذه الأبيات الأخيرة، عين "فوتوغرافية" وفية للأماكن التي زارتها، ولكن عين، هي قبل كل شيء، شاعرية ساحرة. -3- الفضاء الشاعري سوف نحاول في هذا الفصل، أن نتناول الأماكن المرجعية الأساسية، التي لعبت دورا هاما في تجربة الشاعر ونقصد: الضاحية الأم، باريس، الطبيعة، وفضاءات أخرى. الضاحية الأم قلنا الضاحية الأم قياسا على الوطن الأم، ولم نقل القرية. ونقصد بالأولى ضاحية "لي زاردين"، الضاحية التي كانت تشكل بالنسبة للشاعر "رامبو" نقطة الانطلاقة والرجوع في آن. فمنها كان ينصرف هائما على وجهه في الطرقات، وكان يقطع مئات الكيلومترات مشيا على الأقدام، ثم يعود إليها في نهاية المطاف. فمن هذه الرقعة كان الشاعر يتطلع برؤاه إلى الفضاءات الشاعرية، ومنها أيضا كانت الطبيعة التي تحوط به، في هذه البقعة الريفية البعيدة عن العالم المتمدن، تمنحه رغبة في التطلع نحو المطلق الرؤيوي، نحو الجمال الساذج، ونحو الفطرة البشرية. وكانت تمنحه رغبة أشد، في التحرر من قيد كل عبودية بشرية تحكمها مدنية الأخلاق ومؤسساتها الدينية. ولقد كان لشدة قربه من هذه الطبيعة المألوفة لديه، يعرف حتى عدد الأشجار التي تجاور محطة القطار، بالإضافة إلى الحدائق والممرات، والمقاصف، والمجتمع البسيط الذي يتشكل منها، وذلك من أبسط مخلوق بئيس لأكبر متبرجز. ولربما كانت هذه المظاهر القروية، تبدو له كمظاهر مبتذلة وقبيحة، في مقابل الجمال الفطري للطبيعة، التي كانت ما تزال حاضرة حول هذا التجمع السكني البشري. فلنصغ إليه ينشدنا من قصيدته إلى "الموسيقى":
عِنْدَ السّاحَة المُقَطّعَةِ ببُؤْس، إلى مُرَبّعاتٍ رَبيعِيّة خَضْراء، حَديقَةٌ كُلُّ ما فيها صَحيح، الأشْجار والزُّهور. كُلّ البورجوازيين المَبْهورين بِأَنْفُسِهِم، هؤلاء الذين تَخْنُقُهُم الحَرارَة، يَحْمِلونَ كُلّ مَساءاتِ الخَميس، بَلاهَتَهُم بِكُلّ عِنايَة. *** وعلى طولِ المُرَبّعات الخَضْراء، يُقَهْقِهُ السّفَلَة، واقعينَ في الحُبّ، بأَناشيدِ أَبْواقِ الجوقَة، وبِسَذاجَة كَبيرَة، ومُدَخّنينَ لِلورود، يُداعِبونَ الأَطْفال، لِمُداهَنَةِ المُرَبِّيّات. أما أنا، فَإنّني عاطِلٌ مِثلَ طالِب، تَحتَ أَشْجارِ البَلّوط الخَضْراء، الآنِسات اليَقِظات، إِنّهن يَعْرِفْنَ ذلك ... ! ويُدِرْنَ ضاحِكات، نَحْوي، عُيونَهُنّ، المَليئَة بالتّطَفُّل. لا أَنْبسُ بِبِنْتِ شَفَة: أَنْظُرُ دائِمًا، بشَرَة أَعْناقِهِنّ البَيضاء، مُطَرّزَةً بِعَقائِصَ مَجْنونَة، وأنا تَحْتَ الصّدْر، والفِتَن الواهِيَة، الظّهْرُ الإلهي، بَعْدَ تَقْويسَةَ الأَكْتَاف. ومن هذا الفضاء الطبيعي، كان "رامبو" يحوك عالمه الرؤيوي، مندمجا منذ هذه الفترة بروعة الطبيعة، وآفاقها، وألوانها، وأنفاسها الطاغية على مظاهر المكان. باريس وفي مقابل هذه الضاحية الريفية المنسية، كانت باريس، عاصمة الأدب والفن، تجلب إليها من الجهة الأخرى، تطلعات الشاعر الذي كان يحلم بأن يصبح هو الآخر شاعرا معترفا به، كباقي كوكبة الشعراء، التي كانت تجتمع بأعالي "البارناس" الباريسية. وشاءت الصدف أن تلقى الشاعر، الذي لم يكن ينتظر مفاجأة كهذه، ردا على رسالته، من قبل الشاعر الباريسي "بول فرلين"، الذي ناداه في خطابه قائلا :" تعالي أيتها الروح الكبيرة، والغالية ! إننا نناديك، إننا في انتظارك". ثم إن باريس بدورها لم تستجب لتطلعات الشاعر، ولم تغير من حقده، ولا من غضبه على هذا العالم المتقلب ببخار آلاته، وضجيج عماله، وبؤسهم وفقرهم المدقع. ويقول بخصوص "المتروبول" العاصمة من مطولته النثرية "إشراقات":" المدينة بدخانها وضجيج آلاتها، كانت تتبعنا من بعيد على الطريق. ال"أكروبول" الرسمية، علاوة على التصورات البربرية الحديثة الأكثر ضخامة". لقد كان يرى في هذه الحداثة البنائية، تحولا ميكانيكيا، وفوضى تاريخية. ولقد تبنى في هذه الأثناء مثل الشاعر "شارل بودلير" موقفا سياسيا وتاريخيا محددا، إزاء هذه المدنية المتذبذبة. فباريس التي كان يحلم بها، قد أصبحت عبارة عن "بارِيميرْد" كما صار يلقبها. ولقد صورها في قصيدته "الحداد" بالمدينة ذات الجدران المصابة بالبرص. وكذلك كان موقفه من "الباستيي" التي وصفها بمركز السلطة القاهرة. ويكون ملخص هذا أن باريس الحرة، قد أصبحت لديه باريس القاهرة للحريات في قصيدته "نشيد الحرب الباريسي". ولقد وصل إلى قمة السخط في قصيدته "مجون باريسي" حيث يصفها تارة ب"القديسة"، وطورا ب"العاهرة". ونستشهد بهذا المقطع من هذه القصيدة الأخيرة: آه، الأَنْذال ! افرِغوا حَناجِرَكُم في المَحَطّات ! الشّمْسُ قد نَشّفَت مِن رِئَتِها المُلْتَهِبَة، الشّوارِع التي طَفَحَت بها البرابِرَة ذاتَ مَساء، ها هي ذي المَدينَة المُقَدّسَة جالِسَة عِندَ الغَرْب ! *** "سِفْلِسِيّون"، مَجانين، مُلوك، مُهَرّجون، مُتَكَرّشون، ماذا بإِمْكانِه أَن يَضُرّ بها باريس العاهِرة، أَرْواحَكُم وأجَسادَكُم، سُمومَكُم وخِرَقَكُم؟ إنّها سََتْنُفضُكُم عَنها، أنتم الشّرِسون، القَذِرون. ونخلص من هذا النص الحاقد، بصورة الحرية التي كان قد صورها الشاعر لنفسه بخصوص باريس مثل الثورة والحرية والتي ستتحول إلى قامعة للثورة والحرية، والإشارة هنا ل"كمونة" باريس، لانتفاضتها الجمهورية، وقمعها من طرف السلطة الرجعية آنذاك. الطبيعة ومن جديد نعود إلى استحضار الطبيعة بشكل مفصل. الطبيعة، وليس البادية بمظهرها القروي البسيط. ونقصد الطبيعة الأم بآفاقها الكونية، التي أحدثت لدى الشاعر رؤية تعجب وانبهار. ولقد أدخلها الشاعر، إلى فضائه الشاعري عبر شبكة تصفية وتقطير في قوالب ملونة. أي ليست تلك الطبيعة التي نعهدها، وإنما طبيعة مركبة تركيبا رؤيويا. بحيث انه يصبح في إمكان الشاعر، والحالة هذه، أن يسقط عليها رغباته العميقة اللاشعورية، ويسوقها برؤية نموذجية، كيما تصبح قابلة لمعانقة رغباته وشهواته الدفينة. ونسوق بهذا الخصوص، شهادة الكاتب والشاعر الفرنسي الشهير "رنيه شار" حيث يقول:" لدى "رامبو" طبيعة ليست بجامدة، وهي أقل اعتبارا بجمالها الاصطلاحي، ولكنها مشرَكة بتيار القصيدة حيث تتدخل بتواترها كمادة، وكعمق منير وقوة مبدعة..." وهكذا ستصبح الطبيعة بالنسبة لرامبو مثل معبر لعالم الخيال، وصاحبة طعم للحرية، ومولدة للرؤى العلوية. خصوصا بالنسبة له، هو الشاعر الجوال، الذي لا تعرف قدماه طعما للراحة. ونشعر هذا بهذا في قصيدته "بوهميتي": وكنتُ أَسْتَمِعُ جالِسًا، على حافاتِ الطّرُقات، مَساءات سِبْتَمْبَر هذه الجَميلَة، حيثَُ كنتُ أشْعُر بِقَطَرات، النّدى على جَبيني، مثلَ خَمْرَةِ بَأْسٍ وشِدّة. ونلاحظ في أكثر من نص، توحد فعل المشي بمناظر الطبيعة التي يعبر بها، وكأن هذا التوحد قد أصبح طبيعيا لديه. ونستحضر من جديد هذا المقطع من قصيدته السابقة الذكر "انطباع" عَبْرَ مَساءات الصّيْفِ الزّرقاء، سَأَمْضي عَبرَ الطُّرُقات، مَوْخوزًا بِالقَمْح، داهِسًا العُشْبَ الدّقيق، حالِما، ومُسْتَشْعِرًا بِرطوبَتِه عِندَ قَدَمَيّ، سَأتْرُكُ للرّيحِ تَحْميمَ رَأسي العارِيَة. أو هذا المقطع الرائع الذي سقناه من قصيدته "المركب السكران": أَعْرِفُ السّماواتِ المُتَصَدِّعَة بِالبروق، وأَعْمِدَةِ الماء، واصْطِداماتِ الأمْواج بِالحَواجِزِ والتّيارات، أَعْرِفُ المَساء، والفَجْر المُتَحَمِّس كَشَعْب من اليَمام، ورَأَيْتُ في بَعْضِ الأحْيان، ما اعْتَقَدَ المَرْءُ رُؤْيَتَه. وهذا المقطع أيضا، المقتبس من قصيدته "أوفيليا": هاهي ذي أَكْثَر مِن أَلْفِ سَنَة، وأوفيليا الحَزينَة، تَمُرّ، شَبَحًا أبْيَض، على النّهْرِ الأسْوَدِ المَديد. هاهي ذي أَكْثَر مِن أَلْفِ سَنَة، وجُنونُها اللّطيف، يُوَشوِشُ حِكايَتَه، لِنسيمِ المَساء. إننا نشعر بهذا الاختراق الرؤيوي للطبيعة، التي يصورها لنا الشاعر بريشة شاعرية عجيبة. ولا يغيب عن بالنا، هذا الحب الذي لمسناه، والذي يجعل منه رامبو مفتاحا للطبيعة. وإذا كان بعض النقاد يرون فيه، بعض "الإيحاءات الأدبية، الممزوجة بإحساس وثني"، هذا الأخير الذي يتجلى كلقاء مع البداية في أعماقها الضاربة في القدم. ولنذكر بهذا الخصوص،على سبيل المثال، من قصيدته"هدايا رأس السنة لليتامى": الشَّمْسُ بَيْتُ الحَنان والحَياة، تَصُبّ الحُبَّ المُحْرِقَ لِلأرض، وحينَ نَسْتَلْقي على الوادي، نُحِسّ بِأنّ الأرضَ بالِغَةً وتَفيضُ دمًا، وبأن نَهْدُها الهائِل مَحْمولا بِروح، وبِحُبٍّ مِثلَ إله وبِشَهْوَةٍ مِثلَ امْرَأَة. فالطبيعة باختصار، تقف لدى الشاعر، كوجه مضاد لهذه المدنية المفلسة بآلاتها وضجيجها. وتصبح لديه فضاء للحرية الفطرية، التي منحته قوة خيالها وحبها الطبيعي البدائي. فهي إذن أقرب ما تكون، في صورتها المتوحشة، من حقيقة الإنسان الأبدية، بل الروحية التي ضاعت مع الفراديس المفقودة. -انتهت-