قرر مجلس الشعب في مطلع مايو الماضي تشكيل لجنة تقصى حقائق حول مشروع مصنع "أجريوم" الكندي للأسمدة في دمياط، وما نسب للسفير الكندي من أن مسئولين في الحكومة تلقوا عمولات للتصريح بالمشروع بلغت خمسة وعشرين مليون دولار. كما وافق المجلس على وقف العمل مؤقتا في بناء المصنع الذي أطلق عليه الدمايطة "مصنع الموت" لحين إصدار قرار نهائي سيرى النور خلال أيام. ويتوقع أو يأمل الكثيرون أن يأتي القرار لصالح وقف بناء المصنع الذي رأي فيه نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد في مقال بالأهرام أن بناءه يوافق مصالح الطرف الأجنبي لكن "اختيار مثلث رأس البر مكانا لإقامة المصنع يشكل أسوأ الخيارات من ناحية تأثيره الضار على الإنسان والبيئة". وقد حذرت كل الجهات المصرية المختصة في شئون البيئة من أن هذا المشروع الكندي سيضر بالثروة السمكية بالمحافظة التي يمثل أسطول الصيد فيها سبعين بالمئة من أسطول مصر، وسيؤدي إلي كارثة بيئية بما يهدد به من مخاطر على صحة السكان مثل تشوه الأجنة والإصابة بالسرطانات وأمراض الصدر، ولهذا تحظر قوانين حماية البيئة إقامة مثل هذه المصانع في المناطق السكنية نظرا لخطورة مادة "أمونيا بوريا" التي تنتجها. وما بين محاولة بناء "مصنع الموت" وقرار الحكومة بوقف العمل في بنائه، نشأت حركة شعبية قوية معارضة لإقامة المصنع، جددت في الأذهان وفي القلوب صورة مدينة دمياط التاريخية التي تمثل 1 % من مساحة مصر، و 5% من إجمالي منطقة الدلتا ، مدينة عريقة، عرفت لدي الفراعنه باسم "تم آتي" أي مدينة المياه، وفي العصور الإغريقية والرومانية باسم"تامياتس" وقبل الفتح العربي باسم "تاميات" ويقال إن معناها بالمصرية القديمة "الأرض التي تنبت الكتان" . وقد تصدت دمياط لثلاث حملات صليبية، صد الأولى منها عام 1170 م صلاح الدين الأيوبي، وصد الثانية في 1218 م الملك الكامل الذي احتشد بجيشه في المنصورة وقطع الطريق بين الفرنجة ودمياط، أما الحملة الثالثة التي قادها لويس التاسع فصدها الشعب في دمياط في 1249، عندما تركها الأمير فخر الدين وانسحب بجيشه، فوقفت دمياط وحدها، وأحرق أهلها كل متاجرهم ومنقولاتهم وانسحبوا إلي الأحراش والمستنقعات حول المدينة وبدءوا من هناك إحدى أعظم حروب المقاومة الشعبية التي ضربوا فيها أروع الأمثلة في البطولة والشجاعة حتى أجبروا الحملة على الانسحاب في 8 مايو سنة 1250، فأصبح ذلك اليوم عيدا قوميا تحتفل دمياط بذكراه كل عام. وقد ذكر المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" دمياط قائلا: "وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار يلبغا السالمين رحمه الله أنه لم ير في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من هذه فظننت أنه يغلو في مدحها إلى أن شاهدتها فإذا هي أحسن بلد وأنزهه"، وجاء ذكرها عند ابن بطوطة، وعند الطبري في "تاريخ الرسل". وقد وهبت دمياط مصر بعضا من أعظم العلماء والمفكرين مثل د. على مشرفة، وبنت الشاطئ، ود. محمد الزيات، وغيرهم. وتضم دمياط بعضا من أهم الآثار المصرية التاريخية مثل المسرح الروماني، وكنيسة العذراء، وكنيسة ماري جورج، وجامع البحر، وجامع عمرو بن العاص، وغير ذلك. ومدينة تمتد في التاريخ بهذا العمق، إذا أرادت كان لها ما تريد، إذا دافعت عن أرضها في مواجهة الحملة الصليبية، أو تصدت لحملة أجريوم الكندية حماية لهوائها وبحرها وثرواتها وصحة أبنائها. وقد بذل الأديب سمير الفيل وهو من أبناء دمياط كل جهد وطاقة ليصوغ موقف المثقفين هناك في بيان جاء فيه: "إن المثقفين والأدباء الموقعين أدناه يستنكرون الإصرار على إقامة مصنع "أجريوم" الكندي برأس البر، ليس فقط لآثاره المدمرة على البيئة ولكن أيضا لآثاره الاقتصادية حيث يستهلك كمية كبيرة من المياه العذبة والغاز الطبيعي بثمن بخس، ويرفض المجتمع الدمياطي بكافة فئاته وطوائفه إقامة مثل ذلك المصنع". وقد وقع البيان أكثر من مئة وخمسين كاتبا ومثقفا وضموا بذلك صوتهم إلي صوت أهل دمياط .