ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحول معرفي دشن نظام مصرفي لأوراق نقدية في دمشق قبل 9 قرون:
المقدمات، الرؤية الزنكية، الآلة والوعي العربي

في مقالتنا التأويلية هذه سنتحدث عن وميض مبكر من التمدن العربي لم ينل قدرا مناسبا من الإشهار والبحث إلى وقتنا الراهن. وميض أنار للحظات محدودة ليل العالم عندما دشنت المملكة الزنكية (1) من دمشق الآلة (المطبعة) في القرن 12م. وفي محض بحثنا في هذه المرحلة التنويرية المبكرة لا نجد أمام تداخل المحاور سوى التشعب في تساؤلاتنا من أجل اكتشاف أكبر قدر من المعلومات عن هذه الحقبة، وهي:
1) قبل كل شيء علينا أن نعرف أن لا شيء يولد من فراغ. فلم يولد النظام المصرفي ولم تخترع الآلة (مطبعة الدراهم الورقية) في دمشق هكذا بل سبقها انتشار نظام معرفي جديد شجعته المملكة الزنكية، وهو نظام هدف إلى إعادة برمجة الثقافة الإسلامية فنتساءل هنا عن ماهية تلك الدوافع خلف هذا التغيير؟
2) وكلنا يعرف أنه لا يمكن لأي مشروع معرفي من السير إلى الأمام بلا رؤية فعليه ستحاول المقالة جمع الخطوط العريضة للكشف عن ماهية الرؤية الزنكية؟
3) الحياة علمتنا أن تطبيق أي رؤية يكلف ماديا، فستبين المقالة أن طموح الرؤية الزنكية أدى إلى شبه إفلاس لخزانة المملكة الزنكية؟
4) في ظروف الإفلاس سنرى كيف أدى مناخ الإبداع من توليد "الآلة" واستخدامها لطباعة الأوراق النقدية، بمعنى آخر خلق المال من الورق لتغطية عجز المملكة المالي، بمعنى آخر تأسيس لنظام معرفي مالي مصرفي غير مسبوق كنتيجة حتمية للنظام المعرفي الذي دشنته المملكة الزنكية؟
5) في ظل هذا الإبداع سيكون جميلا التطرق إلى قضية الهوية العربية وحصر بعض الخطابات التي شكلت الوعي العربي في فترة الآلة التي طبعت عملات ورقية من خلال محور الآلة، محور المطبعة ومحور النظام المالي الجديد؟
6) أخيرا سنوضح الظروف التي أسدلت الستارة على الآلة؟
الواقع الإسلامي: تقلص حضور الخلافة العباسية في الساحة السياسية وهي في مرحلتها الثالثة إلى حضور رمزي فقط، في تلك الأثناء واجهت الديار الشامية ومنذ مطلع القرن 11م واقعاً جديداً تمثل في الغزو الصليبي الذي اخترق البلاد الإسلامية والذي نجح من تأسيس ممالكه فوق الأراضي الإسلامية. في خضم هذا الفراغ وانعدام الحلول انبثقت عدة مشاريع "دول" و"ممالك" تطمح إلى تبديل الواقع الإسلامي كل حسب رؤيته. من هذه الدول والممالك الإسلامية: الدولة الحمدانية (إسماعلية)، السلجوقية (سنية)، الفاطمية(إسماعلية)، وقوى القبائل (سنية، إسماعلية، مسيحية) (2). كان أحد هذه المشاريع المملكة الزنكيّة الجديدة التي سعى إلى تثبيت قواعدها نور الدين محمود زنكي (1118م - 1174م) فكيف تميزت عن مثيلاتها؟
كيف عرّفت المملكة الزنكية المشكل وما هي رؤيتها وإستراتجيتها التطبيقية؟: أمام هذا الواقع المتنوع والثري بهوياته السياسية، الطائفية والإثنية كان ولابد لأي مشروع على مستوى مملكة يريد النجاح من أن يتمكن من تشخيص المشكل ليتمكن من رسم رؤية واضحة تنير له الطريق ومعالمه (3). يمكن حصر التحديات في الزمن الزنكي كالآتي: أ) قضية الغزو الصليبي، ب) قضية الجهاد، ج) قضية استقرار المملكة الزنكية، ه) قضية الموقف من تعدد الممالك الإسلامية السياسية، ومن التعدد المذهبي والعرقي.
أمام هذه التحديات رسمت المملكة الزنكية رؤيتها. ويمكن تلخيص الرؤية الزنكية بأنها تسعى إلى: إعادة برمجة المجتمع الشامي من خلال إحلال نظام معرفي يتوغل في ثنايا الثقافة الدينية، السياسية والعسكرية من أجل رفع قدرات طريقة تفكير ساسة المملكة وأجهزتها وشعْبها لتتمكن من التعامل مع التحديات والقضايا والمشاكل الموضحة سابقا. عليه فقد:
عالجت الرؤية الزنكية (4) قضية الغزو الصليبي من خلال:
• فهم التعدد والخلفيات الصليبية
• فهم التعدد والخلفيات المسيحية
• القدرة على التميز بين الصليبي والمسيحي (5)
عالجت الرؤية الزنكية قضية الجهاد من خلال:
• تطوير خطاب جهادي يدحر الصليبية
• تطوير خطاب لا يسمح بأن يتحول الحرب ضد الصليبية إلى عداء للمسيحية.
• الاعتراف بالممالك المسيحية تحت حكم الطوارئ والدخول في معاهدات معها إذا هي تركت
صليبيتها (6).
• إنماء وتطوير الجيش واستحداث طبقة الفرسان ليلعبوا دور قيادة عسكرية وسيطة
عالجت الرؤية الزنكية قضية استقرار المملكة الزنكية من خلال:
• نشر العدل
• التنمية الاقتصادية
عالجت الرؤية الزنكية قضية الموقف من تعدد الممالك الإسلامية السياسية، تعدد المذهبي والعرقي من خلال:
• تطوير خطاب يتجاوز عربي-غير عربي ويتجاوز سني-إسماعيلي
• تطوير خطاب مؤيد ومتعاطف مع الجهاد
• توحيد الشتات الإسلامي (دولا وقبائلا) (7) ليس بدمج الدول عسكريا ولكن بدمجها تحت مظلة الاشتراك في دعم الجهاد أو التعاطف مع الدول المجاهدة
النظام المعرفي الزنكي (8) خلق طريقة تفكير وجّهت سياسة العلاقات الخارجية نحو البلاد الإسلامية. حيث نهج القادة الزنكييون سياسة التعامل برفق مع بقايا الدولة الحمدانية دون إثارة نعرات طائفية (سني-إسماعيلي). مثل ذلك اعتمدوا سياسة احتضان المد السني السلجوقي الكردي والتركماني. على الجبهة الغربية فتحوا قنوات حوار مع الدولة الفاطمية وعندما دخل العسكر الزنكيي مصر خلقوا حالة نادرة من الحكم المزدوج مع رموز الدولة الفاطمية لعدة سنوات مما أكسبهم حب الإسماعليين المصريين والذين تحولوا مع الوقت إلى مقاتلين مخلصين في الجيش الزنكي ومن ثم في الجيش الأيوبي. وعلى مستوى العمق الإسلامي بسطوا السيادة على الديار الحجازية.
كما أنهم درسوا الجيش الصليبي وصنفوه على أساس أنه مكون من عدة مراكز قوى صليبية. وعرفوا مبكرا أن الجيش الصليبي غير متجانس ومكون من إثنيات أوروبية متعددة. مع هذه المعرفة لم يتعاملوا مع الصليبيين بفكر معمم ينتهج سياسة واحدة معممة بل انتهجوا سياسة تعدد المسارات والخيارات تسمح بالتعامل مع الصليبيات كل على حسب خصوصيته (9). وفر الزنكييون الأمان الديني للمسيحيين عموما وخصوصا الأرثودكس الذين لم يشاركوا في الحروب الصليبية. شجع الزنكييون الصليبين إلى التحول من صليبين إلى مسيحيين مسالمين. وعزز الزنكييون طريقة التفكير التي أعطت الصليبي عندما يتحول إلى مسيحي حق الاختيار للعيش مع المسلمين في الأراضي الإسلامية على أساس أنه من أهل الكتاب وهو تصنيف أقره القرآن المجيد.
لا رؤية بدون قيم تجدّل الثّابت بالمتغير: كل رؤية بلا قيم معرضة أن تبرر أي وسيلة للوصول إلى غايتها. فما هي القيم التي صانت الرؤية الزنكية من استمراء القتل بإسم الجهاد ومن الظلم بإسم التقشف؟ تحصنت الرؤية الزنكية بعدة قيم منها دعم استقلال وحرية العقل وإبداعه، برمجة المجتمع على قناعات تعالج آنيّاته الحاضرة دون انفصال عن قيم الماضي من صدق، أمانة، إخلاص، مثابرة، صبر، كان مهما على الرؤية الزنكية أن تميز بين القيم والماضي إن هي أرادت الانتصار. فارتبطت بقيم ولكنها لم ترتبط بالماضي، لذلك لم تعق قيم الرؤية دينامكية اللحظة الزنكية (10).
تمويل الرؤية والعجز المالي: أخذت جنبات الرؤية الطموحة تتموضع على أرض الواقع. فكما كان متوقع قادت الرؤية إلى تغيرات هائلة في طرق تنظيم العسكر ومؤسساته ومراكز إعداد وتأهيل كوادره، كما قادت إلى تغيرات في تركيبة المجتمع وثقافته وعلاقاته البينيّة والخارجية. إستراتجيات لا تتحقق إلا بتموين مالي هائل. فحصل المحتوم من تعرّض خزانة الدولة الزنكية إلى نقص مالي شديد.
إذا لم نملك الذهب فلنطبع الورق: في كنف هذا التحدي المركب كيف واجهت دمشق شبح الإفلاس؟ لقد استفادت دمشق من طرق التفكير الإبداعية التي بثها النظام المعرفي الذي ثبتت معالمه الرؤية الزنكية.
فبالتعود على التحرر من قوابض الروتين توصل علماء الديار الشامية من ابتكار غير مسبوق استطاع به من رفع رصيد المملكة المالي ذاتيا. تم لهم ذلك بتأسيس مطبعة لطباعة النقود الورقية. تطرح خزينة المملكة الأوراق إلى السوق وتقايضه مع تجار الشام مقابل ما يملكون من ذهب وفضة. نعم طورت العبقرية الدمشقية نظام الطباعة الآلي المعتمد على قوالب خشبية. قوالب محفورة بدقة متناهية ومع كبسها بعد مسحها بالحبر على قطع الورق أنتج بيت المال (البنك المركزي) النقود الورقية. طباعة آلية تجاوزت ولأول مرة تفاوت الإنتاج اليدوي وضمنت دقة وتطابق كل ورقة نقدية مع مثيلتها مع سرعة الإنتاج للأعداد كبير (11) المطلوبة من الأوراق. فطبع أهل دمشق نقود ورقية تسمى "القراطيس السود" (المطبعة تطبع بلون واحد. اللون الأسود) أو "العادلية" (12) وذلك في زمن السلطان نور الدين زنكي (1118م - 1174م).

تسويق فكرة نظام نقدي ورقي، المطبعة، الآلة: الأمر ليس بهذا السهولة، فلكي ينجح هذا المشروع كان على دمشق ابتداع نظام مصرفي قائم على دعائم فكرية مالية يقبله القطاع التجاري ويتفق عليه الجمهور لكي يتداولوه فيما بينهم. عمدت المملكة الزنكية على الترويج للأوراق على أنها عملة ورقية شرعية مدعومة من المملكة لكي تستخدم في عملية البيع والشراء بدل من القروش المعدنية المصنوعة من الذهب والفضة. بعد ذلك قامت الإمارة بمقايضة الأوراق مع تجار الشام مقابل ما يملكون من ذهب وفضة. ومع توفر الذهب والفضة استطاعت دمشق من الارتباط مجددا بالتاريخ ومن التفاعل مجددا مع تحديات الأحداث. كانت لحظة مفصلية تمثل تحولا نوعيا في هوية العربي. لحظة قدمت إجابات وحلول لمشاكل العالم العربي. لحظة أنشغل فيها الوعي العربي بميلاد الآلة، بمطبعة طبعت عملات ورقية تداولها ولامس منتجها الورقي الطفل، الشاب، المرأة، الرجل والمسن وتحدث عنها الجميع من حضر وبدو، القاصي والداني. استشعر العربي بأن الآلة أعانت عبوره من ثقافة نظام مصرفي تقليدي إلى ثقافة غير مسبوقة تعتمد نظام مالي جديد. خطاب انبثاق الأوراق النقدية أشعر العربي أن هويته مرتبطة بالتغيير وأنه إنسان له حضور فاعل في مجال المعارف والرقي والتقدم.
كل فعل تغييري يولّد حزمة من ردود أفعال: عند دراسة تجربة العرب المبكرة للتعامل مع الآلة سيتضح لنا عدم بروز أي نوع من الهوة بين العلماء ورجال الدين. ولأن العربي هو الذي اخترع حداثته ذاتيا لم يعاني آبائنا من خطاب الأنا العربي الذي يقلد الآخر الغربي كم هو أغلب خطابات عصرنا، بدليل أن الكتب القديمة لم ترصد أي خطاب تطرق إلى صدام بين قيم الأصالة وقيم الحداثة. ولكنها ذكرت خطابات في جوهرها عملت على صياغة الوعي العربي بأن الآلة، كأداة لطباعة العملات الورقية، قد سببت تضخم مالي أضعف قدرته على شراء متطلباته اليومية. تزعّم هذا الخطاب طبقة التجار نتيجة تقلص رأسمالهم كثيرا بسبب تراجع قيمة "القراطيس السود". وعلى ضوء هذه الخلفية أخذت مَرْايّاتهم تتبلور في صيغ مطالب لإصلاح الوضع المالي لا على أسس خطاب ديني بل على أساس خطاب قائم على اعتبارات اقتصادية.
قررت المملكة الزنكية الدخول في حوار مع التجار عسى أن تتوصل إلى تسوية تضمن مصالح المملكة وترضي التجار. فرصد المقدسي (13) انعقاد مؤتمر بين التجار والسلطان نور الدين، دارت محاوره حول تراجع قيمة عملة "القراطيس" أمام قطع الدنانير المعدنية، وبسبب غياب (فكرة) مؤسسة مالية تنظم وتثبت سعر "القراطيس" أمام الذهب والفضة في سوق دمشق، طلب التجار من السلطان إلغاء التعامل بالقراطيس. كان رد السلطان رفض مطالبهم حيث أن إلغاء الأوراق النقدية سيضعف المملكة ماليا.
انقشاع هالة الانبهار أم توقف الإبداع: النظام المالي الجديد لم يعالج قضية منع تزوير الأوراق النقدية، لم يطور قانون يسمح بإبدال الأوراق التالفة بغيرها، ولم يتوصل إلى اتفاقية يتم بموجبها صرف العملات الورقية في المدن الشامية الأخرى ومن تداولها في أسواق الدول المجاورة للشام.
في مرحلة توقف فيها تدفق الإبداع انتقل تشكل وعي العربي الدمشقي في واقع ما بعد الآلة، في واقع معايشة منتجات المطبعة، في واقع متأثر بالنظام المالي الجديد، انتقل إلى الشكوى من الآلة ومن تراجع مستوى حياته الاقتصادي والاجتماعي مقارنة بما كانت عليه حياته في مرحلة ما قبل الآلة.
لم تصمد الآلة أمام خطاب الظلم-العدل: مع استمرار خطاب تظلم التجار تحولت القضية المالية إلى قضية دينية. كيف حصل هذا؟ حصل هذا عندما أبدى الشيخ ابن اليونيني (نسبة إلى "يونين" قرية إلى الشمال من بعلبك) تخوفه من الظلم الذي يقع على الناس بجراء تقلب قيمة عملة "القراطيس" (14). في هذه المرحلة بدأ الخطاب الديني يأخذ موقف من النظام المصرفي الجديد وبطريقة غير مباشرة من المطبعة أي من الآلة. ولأن القضية برمتها أخذت بتوجيه إصبع اللوم نحو ساسة المملكة الزنكية (في تلك المرحلة أنتقل الحكم إلى الفرع الأيوبي وأصبحت تعرف بالمملكة الأيوبية) حيث أن المشروع مشروع الدولة أخذ الأمر برمته ينتقل من خانة اختلاف في انتقاء حلول إلى أمر آخر وخطير جدا في نفس الوقت. فكم ذكرنا سابقا أن قضية استقرار المملكة الزنكية من أساسيات الرؤية الزنكية والتي اعتمدت إستراتجيات نشر العدل و التنمية الاقتصادية لأن السياسة في الإسلام كما ذكر أبو البقاء أيوب الكفوي في "الكليات" تعني " تدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والإستقامة" (15). فقد آمنت الدولة الزنكية بأن الهزيمة تبدأ من الداخل وعليه فهي لا تجامل في أي أمر يزعزع قضية الاستقرار. علينا التوقف عند تشكل وعي العربي الدمشقي. فقد أخذ وعيه يتصور الآلة، المطبعة، العملات كأدوات ظلم. فخطاب العدل-الظلم خطاب عظيم له تأثيره ومداه في زمن الجهاد الإسلامي. وكما ذكرنا فإن الرؤية الزنكية محصنة بقيم ترفض الوسائل التي تبرير الغايات المنافية للقيم. فرضخ سلاطين دمشق لمخاوف الشيخ اليونيني، وهو شخصية موقرة عندهم (16)، وألغيت العملة.
لم تستمر الآلة كمشروع دولة: ساهم دعم المملكة الزنكية للطباعة الآلية إلى توسيع نطاق حدث الآلة وتمكينه من الدخول في كل بيت وفرد في المجتمع الدمشقي. ولكن مباشرة بعد إلغاء دمشق "القراطيس السود" أو "العادلية" ألغيت معه المطبعة أي الآلة. ولم تناط إلى المطبعة مهمة جديدة مثل أن تطبع الكتب. فبفقدان وظيفتها الوحيدة (طباعة الأوراق النقدية) أنهت الدولة رعايتها للآلة. في مثل هذا الغياب تحولت الآلة إلى مشروع فردي. وبغياب الدعم تضاءل حضورها الاجتماعي. ما يدعم ضعف دور الآلة في العالم الإسلامي هو عثور علماء الآثار على أعداد قليلة فقط من نصوص لحوالي خمسين كتابا تم طباعتها بواسطة نظام الطباعة بالقوالب الخشبية. وآخر ما عثر عليه هو كتاب ديني مطبوع يعود إلى عام 1350م وقد عثر عليه قرب مدينة "الفيوم" المصرية (17). وبعد ذلك اختفت تماما.
د. محمد الزكري-المحرق-البحرين
.
هوامش:
1) باعتلاء عماد الدين زنكي سدة الحكم في الموصل قامت الدولة الزنكية وذلك في عام 1127م، كما ورد في " تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام" تأليف د. محمد سهيل طقوش. ولكن في هذه المقالة سنعتبر حقبة نور الدين زنكي هي مرحلة التبدل نوعي للمملكة.
2) من أجل تخيل الزمن الإسلامي قبيل وأثناء الدولة الزنكية اطلع على" تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام" تأليف د. محمد سهيل طقوش.
3) "قصة الدولة الزنكية"،
4) "فلسطين في التاريخ الإسلامي"
5) ميز نور الدين ودرس ولاءات المسيحيين وقرب المسيحي الأرميني "مليح بن ليون" وجعل في يده قيادة لقطاعات الجيش و ولاه إمارة من نواحي الشام. وبرر نور تقريبه ل "مليح" بأنه خبير بالتنوع المسيحي وخبير بالتعدد الصليبي. وأنه أداة مهمة لتفكيك الآخر وتصنيفه بصديق أو عدو. كما أن نور قرب البطارقة وعبن لهم كنائس وأمنهم على ممارسة دينهم بكل حرية. للمزيد أطلع على المصدر رقم (3) وعلى بسام العسلي، "نور الدين القائد".
6) مصطفى وهبة، "موجز تاريخ الحروب الصليبية".
7) تطرق الأستاذ محمد سعيد مرسي في كتابه "عظماء الإسلام عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان" إلى سياسة نور الدين زنكي الجديدة للتعامل مع القبائل العربية وكان من أهمها إيقاف أراضي وحقول زراعية لينتفعوا بدخلها مقابل ولائهم وتقديم الحماية لخطوط القوافل، التجارية والدينية مع منع الصليبيين من التحرش بها.
8) من أدواتها تطوير المؤسسات التعليمية ونشرها ببناء المدارس في جميع أرجاء المملكة. ومن أجل ترويج المعرفة قام الملك بدعم الإقبال على العلم من خلال إظهار حبه وتكريمه للعلماء، كما أنه جعل من نفسه مثالا للمجتمع الشامي بفتح مجلسه الخاص أمام طلبة العلم والعلماء مع حضوره الشخصي لها أربع أيام من كل أسبوع، المصدر رقم (7).
9)"العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي مدلولات التحليل السياسي. للتاريخ الإسلامي ودراسة العلاقات الدولية". ورقة قدمتها الأستاذة دودة بدران. للمزيد ارجع إلى "ندوة العلاقات الدولية بين الأصول الإسلامية وبين خبرة التاريخ الإسلامي"، القاهرة-مصر.
10) عد إلى المصدر رقم (4)، والى ابن كثير، "البداية والنهاية"، ج12.
11) للمزيد ارجع إلى كتاب " ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر" من نشر مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث – دبي.
12) ذكر إبن كثير في البداية والنهاية، ج13 "تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادليّة ثم بطلت بعد ذلك ودفنت".
13) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية. تأليف أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي.
14) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي.
15) الكفوي، "الكليات", تحقيق عدنان درويش.
16) راجع مصدر رقم (14).
17) للمزيد اقرأ ''الكتاب العربي المطبوع: من الجذور إلى مطبعة بولاق''.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.