نجم مضيء في سماء الأدب المغربي، وشاهد عصر هو أشهر من نار على علم. عشق الحياة حتى النخاع، وغاص في بحر الكتابة فأتى بكل جميل وإبداع. آمن بالتنوع الثقافي، وانحاز لكل ما هو مبتكر جديد؛ لكنه أخلص للقصة، التي لا تنبع من فراغ. إنه الكاتب والأديب القدير إدريس الخوري، أو "بّا دريس" كما يحلو لأصدقائه، تحبُّبا، أن ينادوه، ويحلو لي، هذا المساء، أن أناديه به أيضا، إذا شاء. هو صاحب مسار حافل بالإبداع والعطاء، خبر الحكاية حين أجاد الإنصات لنبض الوطن والإنسان، فتبدى عالما منسجما مع ذاته في الجهر وفي الكتمان. كان من الأوائل الذين لعبوا أدوارا طلائعية في إغناء المشهد القصصي، منذ بداية الستينيات، وطبعه بميسمه وحضوره الوازن، حيث أهدى الخزانة المغربية مجموعات قصصية بهية منها: "حزن في الرأس وفي القلب، "ظلال"، "البدايات"، "الأيام والليالي"، "مدينة التراب"، "يوسف في بطن أمه"، ثم "بيت النعاس"، علاوة على مقالاته الرائقة في الفن والتشكيل والرحلة والسينما والمسرح، وكذا نصوصه المفتوحة على التأمل والتفكير والحياة.. سافر بين المقالة والقصة وراوح بينهما، جيئة وذهابا، واعتبرهما معا، وجهين لعملة واحدة، هي الكتابة. لقد صنع لنفسه فسحة أدبية للتحرر من اليومي القاتل. فسحة قوامها اللغة والمجتمع والمتخيل. أثث، خلالها، مشاهده بما يليق من توضيب العناصر وترتيب البناء، أحداثا وشخوصا وأمكنة. رسم حالاته الإنسانية المختلفة وبسط مستوياتها الاجتماعية، في دقة متناهية. كان قريبا من كل شرائح المجتمع، البدوي منه والمديني. تفاوتت تجربته حينا وتقاربت حينا آخر. في قصصه كثير من الحزن، وكثير من الفرح. عوالم فسيحة لا متناهية من الدهشة والإمتاع والمؤانسة. لقد تفاعلت نصوصه مع الواقع وارتبطت به ارتباطا قويا، فعبرت بذلك عن مشاعر الإنسان أصدق تعبير، في صمته واحتجاجه، وفي تواطئه واعتراضه؛ لكنه وهو يتابع ويسائل هذا اليومي والهامشي أيضا، لم يتخل عن متعة الحكاية ، في صورها المتألقة والمحلقة. فمن يا ترى من قرائه الكثيرين لم يطرب لسرده ولم يفتتن بسحره؟ قال يوما عن الكتابة إنها "نميمة"، وبرر الرأي في كونها تطمح دوما إلى كشف وفهم جدلية الأشياء والعلاقات. رآها نميمة مزدوجة، لأنها نميمة في الأنا ونميمة في الآخر. كتابة تستمد طاقتها التعبيرية مما تمنحه الحياة من مشاهد وأحداث وما تفرزه الذات من مواقف واختيارات. أو ليست القصة القصيرة سوى لحظة من لحظات هذه النميمة؟.. لقد قرأت له، في بداياتي، نصوصا متفرقة من هنا وهناك، وشدتني، وأنا ما زلت في الأدب غضا طريّا، لغته وموضوعاته وصوره التعبيرية، لقربها من القلب والوجدان. وشاءت مصادفات الزمن في الثمانينيات من القرن الماضي، أن أتطلع إليه مليّا، ذات أمسية قصصية بالرباط حين تم تقديم مجموعته "مدينة التراب"، فازداد اندهاشي وإعجابي به كثيرا، إنسانا ومبدعا ذكيّا. ولم تقف مطالعاتي ومتابعاتي لقصصه ومجموعاته، عند هذا الحد؛ وإنما امتدت وتعمقت حين اخترت الاشتغال، فترة الجامعة، على متن سردي من متونه تمثل في مجموعة "البدايات"، حيث توقفت عند أحد مكونات العمل الأدبي، هو مكون "المكان". واجتهدت ما أمكنني الاجتهاد في استقراء هذا المكون وسبر أغواره وأسراره. عندها تبدى لي عن قرب، أنني أمام كاتب من عيار ثقيل؛ بل فارس من فرسان القصة القصيرة، وسيد من سادتها المطلقين، ومرجع من مراجعها العليا، بامتياز. كاتب يحسن السرد ويتقن الوصف ويدعمهما، حسب الضرورة، بغير قليل من السخرية اللاذعة والعجائبية المدهشة. لقد كان عميقا ودقيقا، وهو يصوب عينه القصصية إزاء شخوصه وأمكنته، المتعددة والمتنوعة، بما سمح لمجموعته تلك، أن تكون غاية في التمثيل والسبك والبراعة. مجموعة استطاعت، على غرار سابقتيها، أن تكون كتابة ممكنة لما ينبغي أن يكون. ولأن "بّا دريس" لم يكن كاتبا مهادنا، فقد اعتبر الكتابة جزءا من النضال والمواجهة ومقاومة العبث والصمت والنسيان. ولأنه ظل وفيا لذاته ومبادئه وتطلعاته، فقد جاءت نصوصه مضمخة بدم مغربي أصيل، سرى ويسري في شرايين موضوعاته واختياراته. دم يخترق دروب البوح ويقاوم بلادة الصمت. دم يتجدد باستمرار. تلك شهادة خلف لخير سلف، دبّجتها ذائقة استهواها القص وسفر اللغة في مواطن متخيلة تحرك الساكن والمسكون فينا، تقلب الغوامض وتسائل الأزمنة الذاهب منها والحاضر والآتي... فهنيئا للقصة القصيرة ببّا دريس، وهنيئا لنا به، أصدقاء وقراء، كاتبا كبير.