يأتيك الزائر(الدافع) باحثا عنك من مكان إلى مكان يتفقد أناسا كثيرين لكنه لا يخطئك أبدا، يسأل عنك الإشارات والجدران والحارات وموزعي البريد. يشي بك قدرك ويخلق لك من العدم سببا يلحقك بما خلقت لأجله ولو ركبت تيار الكهرباء وحلّقت مع الضوء وخرقت عنان السماء، سيطرق بابك ولن تطرح السؤال كما كنت. ستستقبله بلا ورود غير مظهر الاكتئاب، تذوب العناوين وأعمدة المنبهات، على حافة الطريق تخلع رايات الانتظار ويفقد الوقت عدّاده وينسى المكان جاذبيته. يأتيك الدافع مصطحبا معه فكرة لا تعلمها أنت، أكانت قديمة أم جديدة أم تعيش عصرك. لا تعلمها قد تبدو نارا حامية وهي صقيع آكل أطراف أصابعك متسللا إلى رئتيك قابضا روح نشاطك. مجبر تمضي برفقتها، تتبعها دون أن ترسم على ناصيتك الاستفهام، تتريث، تحس أن وقت السؤال لا زال لم يحن بعد، توجهك اليمين ثم الشمال في أزقة الفراغ الخاوية، طرقات البحث الملتوية تلتف بعقلك، تحاصرك المسافة من كل الجهات، يضيق فضاء الفكر الرحب، يتقلص مع الوافد الجديد علّه يتسع أكثر حين انفجار الجدار الحديدي وظهور المخرج والانفتاح على عوالم جديدة. أنت التابع ولن تكون في هذه المرحلة غير تابع مطيع. تصل بعدما جاوزت الأرصفة المصبوغة بألوان عدة صفراء وبيضاء وحمراء، ستكتشف أمكنة جديدة كانت تجاورك، لست الوحيد الغير منتبه لهذه الأمور، قد يحدث وأن تمر على شيء قديم ثمين ثابت في مكانه لسنين، حين يهتدي إليه غيرك حينها فقط تفقد صورة من داخلك ويتهدم الهرم فيك. هي قادتك دون معرفة مسبقة بك لم تختارك حين طافت الأرض وجابت فضاءات البشر وخالطت أجناس الأقوام من الشرق إلى الغرب، إنما قدر سطّرها لتمضي باحثة لتجدك. إنها تملك عوالمها كما تملك كثافة في عددها، تتوزع على القلة لا على الكثرة وعلى الأفراد لا على الجماعة، إنما الكثرة تتبع القلة أحيانا، والأغلبية أحيانا تحاكم من الأقلية، أحيانا كثيرة تكون الأقلية على خطأ وأحيانا أخرى تكون الأغلبية قاتلة روح الصواب عند الأقلية. أتبعها حين تستقر. هي على يقين تؤكد صحتها وحقيقتها. ستتبعها أنت ولا تعلم إن كانت ستأخذك للوادي أو تقودك للبحر أو إلى زنزانة قديمة أو إلى يدي سجان لعين، أو ستعلقك على حبل مشنقة في عتمة غرفة باردة ، قد تنهي أيام كثيرة حلمت بأن ترسم في لوحاتها رسومات كثيرة بألوان زاهية، قد تقودك إلى حيث تخلع الأظافر وتكسّر الرقاب، وتنام الفجائع والمواجع مبكرا على سرير الصدمة. قد يحدث هذا ويأتي من بعده الربيع، واحات خضراء في صحاري قاحلة، نخيل أخضر سامق رشيق يخلب العيون ويسرق بريقها. بادئ ذي بدء قد تقربك قربانا أو تكون هي قربانك تتركك للاختيار. تجعلها رهينتك أو محظيتك، أو تجعلها إن شئت بائعة هوى لمن تجني من ورائهم متعة أيامك. لن تبقى هي بقدسيتها كما كانت لا شك ستجعلها خاضعة لهوى أسيادك، لن يسمّونها حينئذ غير الساقطة وصاحبها الساقط. أما إن كنت عبدها وحارسها الملاك وكنت مستعدا للذود عنها في كل وقت وحين، وقدّست كينونتها وعظمّت من شأن عذريتها ولن تقابلها إلا بالعذارى مثيلاتها وجعلتها مطلب الخيريين والعاشقين كانت لك ترس محارب في الوغى وسرابيل تقيك الحر والبرد معا.. ستمنحك تاجا مطرزا بالشرف ويصير صولجان الحقيقة ملكك ويستوطن الوهم المقلب الآخر من المعسكر. في هذه المرحلة أنت تابع لا غير لكنك تختار نوع تبعيتك. إنها لا تطّلع على الأفئدة إن كانت معبأة بالشر أو ممتلئة بالخير، لكنها تقتحم النفس وتكون بلاءا سعيدا أو سعادة كلها شقاء. تتبعها أنت و تصل مكمنها بعد جهد جهيد وتحدّث نفسك بالهروب أو الخنوع والرجوع عن الموقف، قد يصاحبك قرين يعرض عليك البيع والاستراحة من تعب الرأس وخيبة ما ستجنيه من محصول. تتبعها أنت وتصل برزخا من خلاله تهيأ نفسك لعبور نهجيين لا ثالث لهما. أدخل من أي باب شئت كل الأبواب توصلك حيث هي. إن الأزهار الكثيرة المختلفة تشّّكل الباقة الجميلة بألوانها المتعددة؛ لا تسقط لون على لون ولا تقدم لون على لون، أترك الأمور على طبيعتها وحقيقتها، قدم لها هديتك من تربة حديقتها. ستدخل حينها في اتساع ملكيتها وتتضح لك معالمها، وتتجلى حدود الحمى . حينها فقط تجد نفسك بدأت في نزع علامات الاستفهام من جبهتك، ستضع يد السؤال على خد البحث وتتقسمان مشقة واحدة وتبدأ وقتها مرحلتك الثانية اللاحقة وأنت جالس على كرسي القرار... ترفع و تحط تأخذ وترد هل تمضي أم تتريث، هل تطير محلّقا أم تحط على الأرض إلى أبد الآبدين. إن العلو الشاهق مخيف، مفزع، صاحبه المرتجف بجناحيه الضعيفتين المبللة بالمطر، لكن بالتحلي بالشجاعة يكتشف كم هو جميل النظر من فوق. يحتويك الفضاء وتصير قريبا من خيط النور الذي يشدك أكثر، يحثك على التعريج أكثر. أحرص فقط و لا تقترب أكثر فتحترق إن ذاك الشعاع ساحر يقرّبك أكثر من فهم ماهية الأشياء، ذاك الشعاع من شمس الحقيقة. ستبدأ في رسم هيكلها، تحدق في تفاصيل شكلها، إن تلك الرسوم الكثيرة تحفّز الفكر على الاستمرارية والإصرار، قبل أن يخوض التجربة يسأل نفسه هل أنا على صواب؟ هل حقا مستعد أنا على تحمل التعب والسهر والتضييق والعذاب؟ هل الذي أرسم يستحق مني التضحية؟ قد تكون هندسة رسوماتي خاطئة وكيمياء تفاعلاتي مع الفكرة ناقصة تركيبات مواد أخرى غفلت عنها. قبل حفر أسس بيتها وإقامة قواعدها، أحسن تأشير مقاساتها، وباشر الحفر وكلك همة الملوك والسلاطين والفاتحين، أحذر قد يقابلك صخر أو صنم قاسي أو معدن فينكسر فأسك، أبتعد حيث تجد القسوة ووسع على حواف الصخر الصوان حتى يتهيأ لك تحريكه فإن تمكنت من تحريكه فأقلعه لكن أحذر على أن لا تنكسر عصا فأسك. إن الحفر وإرادة بناء البيت الجديد تعمر القلب والروح ستكون وحدها مفجّرة القوة الكامنة المختفية في أغوار النفس البشرية. قد تتورم كفك وترتسم عليها الجروح، قد تصير خشنة ويتحول التعب إلى أرق يمنعك الراحة فلا تهدأ بعدها أبدا. ستجد طبقات كثيرة من الطين بألوان مختلفة، ستجد قطعة البناء تحمل بداخلها أتربة أكثر من حجمها، وزّع أمكنة الحفر ليستقر عماد البيت وازن بين العمق واتساع الحفر، إنك لن تستطيع الحفر دون أن توسّع المكان الذي تحفر بداخله، قد تتضايق وتلعن هذه الحياة . قد تغير رأيك و تخلد للراحة وتبصق على الطموح، في قرارة نفسك تعلم أنك لا تحفر على كنز عينيِ لست جانيا ذهبا ولا مال، لن تقابل سلطانا، لن يشيد لك قصرا، قد يأخذك القرين بلوم ضميرك لضياع وقتك. إنك بالحفر تصنع أيضا الأشكال، وحدك من تحدد عمقها وطولها، ستشعر بالسعادة حين إنهائها ويستوي التراب مجملا بجانب ما حفرت. من ثمة أسكن الأعمدة حفرك وحدها الأعمدة تصنع صرح الحكمة إن ثابرت على بناء الصرح. أول بيت تضعه لأشيائك سيكون مباركا إن جعلت نيتك خدمة الآخر أين كان وجوده. إن الدافع الباحث عنك هو سائق الفكرة، حامل البداية للتفكير.