بورصة الدار البيضاء.. الحجم الإجمالي للتداولات يتجاوز 534,9 مليون درهم    كيوسك القناة | قراءة في أبرز عناوين الصحف الاقتصادية الأسبوعية    12 مليار درهم للمقاولات الصغرى مهددة بالتبخر كما حدث مع 13 مليار درهم للمواشي    الصين ترد على رسوم ترامب الجمركية.. وأمريكا تتمسك بموقفها    سقوط طائرة قرب مطار فاس سايس ونقل 3 من طاقمها إلى المستشفى الجامعي    حركة "بي دي إس" تدعو لمقاطعة "جيتكس إفريقيا" بمراكش بسبب مشاركة شركات إسرائيلية    "الأشبال" يواجهون الكوت ديفوار    فوز ثمين ل"الكوديم" على آسفي    الشرطة توقف شابا متورطا في ترويج أجهزة غش مهربة    حكاية مدينتين "التبادل الثقافي بين طنجة وجبل طارق " عنوان معرض تشكيلي نظم بعاصمة البوغاز    تطورات مثيرة في قضية إسكوبار الصحراء وهذا ما قررته المحكمة    مخيمات تندوف... سجن فوق تراب دولة ترعى الإرهاب    مشروع لتصنيف البوليساريو منظمة إرهابية    درك الفنيدق يفك لغز وفاة فتاة عُثر عليها بسد أسمير    نشرة إنذارية: أمطار رعدية ورياح قوية مع تطاير الغبار بعدد من مناطق المملكة من الجمعة إلى الأحد    مهرجان باريس للكتاب.. الخبير المغربي أمين لغيدي يحصل على جائزة تكريمية من مجموعة النشر الفرنسية "إيديتيس"    تأجيل مهرجان تطوان لسينما المتوسط        مجلس المستشارين.. افتتاح أشغال الدورة الثانية من السنة التشريعية 2024-2025    ديربي الوداد والرجاء يخطف الأنظار والتأهل للمنافسات الإفريقية الهاجس الأكبر    نشرة إنذارية.. أمطار قوية منتظرة بالمملكة ابتداء من اليوم الجمعة    حجز أكثر من 25 طنا من مخدر الحشيش بسيدي قاسم    الذئب الرهيب يعود من عالم الانقراض: العلم يوقظ أشباح الماضي    مهرجان 'عرس الصحراء' في قلب درعة تافيلالت: سحر الفن في الراشيدية والريصاني    تونس.. جلسة ثانية لمحاكمة عشرات المعارضين بتهمة "التآمر على أمن الدولة"    الدول المنتجة للنفط في مأزق.. أسعار الخام تهوي لأدنى مستوى منذ الجائحة    الذهب يرتفع ويسجل مستوى قياسيا جديدا    مقتل سائق بعد سقوط شاحنته من أعلى قنطرة بالطريق السيار قرب الميناء المتوسطي    90% من الجماعات الترابية مغطاة بوثائق التعمير.. وتوجيه الوكالات الحضرية لحل الإشكالات الترابية    شراكة بين "اتصالات المغرب" و"زوهو"    محمد صلاح يجدد العقد مع ليفربول    "الاستقلال" يطالب بتخليق الحياة العامة ومحاربة الممارسات غير الشفافة    ألف درهم للمشاركين في برامج الصحة    "الأحرار" يدين الاعتداءات الإسرائيلية ويطالب بتثبيت وقف إطلاق النار    المغرب يدعو إلى تضافر الجهود الدولية لضمان سلامة الأجواء في مناطق النزاع    ملتقى الضفتين بمدريد يختتم فعالياته بتوصيات قوية أبرزها تنظيم النسخة الثالثة بالمغرب والانفتاح على الصحافة البرتغالية    الصين ترد على تصعيد واشنطن التجاري بورقة بيضاء: دعوة للحوار والتعددية بدلًا من المواجهة    السياحة.. المغرب يسجل أرقاما قياسية خلال الربع الأول من سنة 2025    بطولة إسبانيا.. أنشيلوتي وريال مدريد تحت المجهر وبرشلونة للابتعاد    إجراء قرعة جديدة لكأس أمم أفريقيا للشباب بعد التحاق تونس    في غياب الجماهير .. من يحسم صراع الدفاع وشباب المحمدية؟    الاحتكار آفة الأشْرار !    اتهامات للمؤثرة الشهيرة "ميس راشيل" بتلقي أموال للترويج لحماس    نجاة الرجوي: "مشاركتي في حفل تكريم عبد الوهاب الدكالي شرف كبير"    مصرع ستة أشخاص بينهم أطفال بسقوط مروحية في أمريكا    بنسعيد يدشن جناح المغرب ضيف شرف مهرجان باريس للكتاب 2025    وفاة مدرب ريال مدريد السابق الهولندي ليو بينهاكر عن عمر 82 عاما    جامعيون ومسؤولون سابقون يرصدون صعوبات الترجمة بأكاديمية المملكة    عراقجي في الجزائر .. هل تُخطط إيران للهيمنة على شمال إفريقيا عبر قصر المرادية ؟    السلطات الصحية بجنوب إسبانيا تتأهب لمواجهة "بوحمرون" القادم من شمال المغرب    سلطات مليلية تحتجز كلب "مسعور" تسلل من بوابة بني انصار    آيت الطالب يقارب "السيادة الصحية"    دراسة: أدوية الاكتئاب تزيد مخاطر الوفاة بالنوبات القلبية    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبر حزين
نشر في طنجة الأدبية يوم 02 - 04 - 2008

بجوار ذلك المبنى المدمر أحضروا جثتي، وضعوها أسفل قيعان من أرض جرداء، رتلوا معها صلاتهم، ثم أهالوا عليّ التراب الصلد. صمت كئيب كان يغشاهم جميعاً، خصوصاً ولديّ الحبيبين. لحظات مكنونة بهدوء رتل فيها الشيخ آيات من القرآن، بكى خلالها أقاربي وأصدقائي، انتحبوا حتى أغشي علي بعضهم. وأنا بالداخل أتضور شوقاً للخروج إليهم، التحدث معهم بكل ما كنا نقوله دائماً، بكل الأساطير والقصص والأخبار التي نختلقها من أجل قتل الوقت، لكنني كنت عاجزاً عن ذلك، عاجز ولأول مرة عن تنفيذ ما أصبوا إليه. تمنيت أن أعود إلى زوجتي، فراشي لكن هيهات أن يحدث ذلك بعد هذه المصيبة. فقد انطلقوا يتتابعون واحداً تلو الآخر إلى بيوتهم، غير آبهين بوجودي في هذا السكون الموحش، حتى ولديّ الذين لم أترك أياً منهم يوماً، غادروني كأنهم لا يعرفونني، فقط محمد من بكى بجوار قبري ودعا لي بالجنة التي أحب وأشتهي.
هنا بقيت وحدي، لا ألوي على شيء، أتأمل الظلام الذي يحاصرني، الخوف الذي يتملكني من هول المشهد، وبين فينة وأخرى أشعر كأن الأرض تهتز من تحتي، ترتجف كمحيط يوشك على ابتلاع بقايا اليابسة. حاولت بيني وبيني أن أعرف السبب، فلم أصل إلى نتيجة تذكر، طرقت الكوة التي بيني وبين جاري الأيسر فلم يرد، ترددت أن أفعل مرة أخرى، شعرت بأن كبرياءه لن يسمح له بالحديث مع شخص مجهول العظمة، فقبره منمق بأجمل الزخارف واللمسات بينما أنا بالنسبة له لم يظهر مدى نفوذي ونقودي بعد، فظل الصمت يلازم قبري إلى وقت غير قصير.
***
فجأة ولا أدري كيف جرى ما جرى؟ شعرت بجسدي يتهاوى خلف أديم الأرض، كأن الأرض قد تفجرت ألف مرة، وبعثنا من جديد. كان التيار الكهربائي قد انقطع عن كل الأرجاء حولنا، فلم يعد أحد يرى شيئاً. سمعت بجوار رأسي أحد الجيران يهتف لزميله بصوت مرتفع بأن هناك عملية قصف لأحد مواقع الثوار المتاخمة لأضرحتنا. ذهلت، صعقت، لم أصدق ما جرى، وما يجري، كان القبر الذي بجواري قد تفتت إلى ألف قطعة، والشاهد لم يعد موجوداً، كما أن قبري حديث العهد بهذا المكان قد أصبح متسعاً للفراغ.
كم كنت منزعجاً، مستريباً من هول ما قد يحل بي هذه الليلة. هتفت في سري. لقد جئت إلى هنا كي أستريح فلماذا يحدث هذا لي؟! لنا؟! لقد بات موتنا في خطر، ويجب أن نتداركه بسرعة، حتى الكهرباء انقطعت عن كل ما يحيط بنا، تساءلت، ماذا عليّ أن أفعل للخروج من هذا المأزق وأنا لا حول لي ولا قوة؟
خلال تلك العبرات التي كانت تغزوني، اضطرمت الأرض وتزلزلت من جديد، شعرت بجسدي يهتز بقوة هذه المرة أكثر من ذي قبل، وكأن البسيطة انقلبت رأساً على عقب، لم أنتظر حتى يتحدث معي أحد فقد كنت خائفاً بما يكفي كي أموت مرة أخرى، طرقت الكوة بقوة هذه المرة دون أن أبالي بما قد يسبب لي ذلك من إحراج، ولقد وجدت الجميع أيضاً يتملكه الفضول، سألنا عن سبب الانفجار الثاني الذي دوى في المكان، وكانت الإجابة بأنه قصف عنيف لمركز حكومي لمخيمنا يدعم المقاومة والثوار. حينها سألت جاري الأيسر:
- وأين يقع ذلك المقر، عفواً؟
لم يجب، فظننت به صمم، لكنه فجأة قال:
- يبدو أنك لست من هذه المنطقة؟
أجبته ببلى، وليتني ما أجبت، فقد كان جِلفاً، سيء المزاج، رغم كل الكلمات المؤدبة التي ألقيتها في وجهه.
استهجن بأن أدفن بجواره، فحمدت - في سرى - ما جرى معه من تدمير أجزاء قبره المنمق.
قال لي بصوت يغلفه الحزن:
- بجوار هذه المقبرة ثكنة عسكرية، يفصل بيننا وبينها ذلك السور الذي تراه.
- .................
- لقد قصفت هذه الثكنة أكثر من مرة، وها هي تعود مرة أخرى للدمار..
- نعم (بحزن)
- رغم أنه لا يوجد بها أحد إلا أنهم لا يقلعون عن ضربها بطائراتهم.
سألته وقد انتابني ألم قديم:
- ألا يتوقف بنو النضير عن الفتك بنا؟
- إنهم لن يا يفعلوا، زميل.
- ........................
- ........................
- ولماذا يفعلون ذلك بالثكنة رغم أنها خربة، ومهجورة أيضاً؟!
أجاب باقتضاب:
- لأنهم لا يريدون لنا الهدوء.
- أتقصد بأن ما يجري من أجل إخافتنا نحن؟
- ربما، أو من أجل تنغيص موتنا...
لحظتها لعنت بداخلي كل أبنائي وعائلتي، لقد أخبرتهم قبل مرضي بأنني أحب العيش بسلام، والموت بسلام أيضاً، طلبت منهم مطلبي الأخير وأنا أعلم بأنني أموت، فإذا بهم يحضرونني هنا، حيث يرقد شبح الخراب.
***
لكم كنت خائفاً، خوف ليس كمثله شيء، شعرت بأنني قد أموت مرة أخرى وبأن روحي ستتمزق من جديد، تمنيت أنني لم أمت، لم أدفن في هذه الصحراء المرعبة، المتفجرة، فالقذائف لا تهدأ، بل بدأت تتوالى تباعاً حين راودتني رائحتها، حتى الأضرحة بدأت تصرخ، وتصرخ، تناجي بارئها بأن ينقذهم من ألم القذائف التي تساقطت بقسوة في هذا الفراغ، حينها فقدت الإحساس بالرغبة، فأخرجت غضباً مكبوتاً، وبدأت ارتعش ...
***
كنت أعلم بأن الليلة لن تمر على خير، فهي المرة الأولى التي أخون فيها زوجتي وأنام بعيداً عنها، حين تركتها تنوح زوجاً حاصرها بروحه لأربعين عاماً. كنت خائفاً حتى بعد ذلك اليوم، وبدأت أسأل عن أولادي، فلم يعد أحد منهم يزورني، كنت أسمع من زملائي هنا بأن الجميع لا يستطيع أن يكلف خاطره بالحضور لأن في ذلك إزهاق للروح، ولن يجرؤ أحد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة. حتى جارتي الصغيرة -التي اقتنصتها رصاصة غادرة- كانت تعقل ذلك، فقد قالت لي بصوت رقيق جداً:
- يا عم، إنهم لن يحضروا فلا تنتظر أحداً.
بكيت، بكيت ولم أكن أبكي كمثل هذا البكاء، فسمعتها تواسيني:
- إنهم يحبونك، أقسم على ذلك، لكنك تعلم بأن المكان معرض للقصف من جديد.
... كأنها زرعت بداخلي شعوراً غريباً، صمت، ولم أبك كما يفعل الصبية.
***
في الخارج، كانت البسيطة تحتضر، قذائف حاقدة ترتفع نحو سقف سماوي رهيب ثم تسقط في جوف الظلام، حتى بعض زملائي القدامى قد أصابتهم لوثة من جنون، أو لمسة من خوف، وبعضهم تكشفت عن وجوههم حجب الكتل الإسمنتية لتسقط على أجسادهم الخربة.
حينذاك راودتني فكرة طارئة عبثت ببواطن نفسي، أن أعود أبنائي بأي وسيلة أستطيعها، أزورهم ولو لدقيقة واحدة فقط، وفعلت. وجدتهم يغطون في نوم عميق، طرقت عقولهم، سلمت عليهم، قبلتهم وأنا انتحب كعجوز أدرك عامه الألف، ثم رجوتهم بأن يزوروني، يجصصوا قبري، حتى أستطيع الحديث إلى ذلك الأخرق الذي يرقد بجواري، وحتى أستطيع النوم بسلام.
***
جاء ولدي، زارني وفي عينيه دموع كادت أن تنزلق فتملأ ملابسه الفاخرة قطرات لا تمحى أبداً، وعدني بأن يجصص القبر، ويصنع لي شاهداً كبيراً يحمل اسمي الرباعي، وكل بياناتي التي كنت أكتبها مذ كنت في المدرسة، كان صوته شاحباً، حزيناً، بكى وبكى، حتى استفزز كل براكيني فبكيت أيضاً، بكاءً مريراً لم يتوقف، وبعد أن فرغت من دموعي صرخت في وجهه كالأبله، رجوته أن يتوقف، فلم يفعل، ثم في لحظة خاطفة ولى كالمجنون هارباً حين بان هدير طائرة تحلق فوق سحب بعيدة.
***
مرت خمسة أعوام على لقائي بولدي محمد، كان قد وعدني بأن يجصص لي ذلك القبر المزعوم دون أن يفعل، لقد كان خائفاً من تلك الطائرات التي اعتبرتنا منطقة خطره، وأننا نشكل خطراً دولياً على أمنها.
لم أفكر بأن أعود عائلتي مرة أخرى، ولم أفكر بأن أطلب منهم تجصيص ذلك القبر، فأنا لم أعد آبه بتلك الطائرات أو ذلك الفراغ الشاسع المريب.
لأنني ميت في الموت....
وفي الموت أنا ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.