خرج وقد ضاق به المكان حتى أطبق على قلبه .. يتمشى الهوينى على كورنيش النيل، بعد نهار مضني أمضاه في العمل.. رآها تمر قبالته غير منتبهة، توقف فجأة، استدار إلى الخلف يحدث نفسه: هي! إنها هي بذاتها.. زميلتنا في العمل، ليلى، ليلى ..توقفت، تستدير باتجاه مصدر الصوت باستغراب، ثم تبتسم ملوحة بإشارة تساؤل من أصابع يدها، تقترب منه، تكرر على مسامعه تساؤلها: ماذا تفعل هنا؟... - أنا ماذا افعل هنا! يبتسم.. يجيبها: وماذا تفعلين أنت هنا ؟ تساؤل تكرر فيما بينهما بطريقة أوحت بالسذاجة والعفوية، مما أطلق عنان ضحكاتهما.. يتنهد احمد.. يتحسس جيب سترته يخرج علبة سجائره.. تباغته بقولها: لماذا السجائر هنا أيضا ألا يكفيك ما تنفثه علينا في المكتب طوال اليوم ؟ ستتسبب في خرق طبقة الأوزون اتبعتها بقهقهة خفيفة، يخجل من قولها وان كان مزاحا، يعيد علبته إلى مكانها، يبتسم على مضض من زميلته الحشرية، فهو يعرفها حق معرفة، إنها زميلته ، يعملان معا في المؤسسة الحكومية منذ سنوات طويلة، يعلم أيضا بعدائها للسجائر ومن يدخنوها !. يسيران باتجاه كرسي خشبي أسفل شجرة زينة فيجلسان.. تفتح حقيبتها وتخرج منها كيس من النايلون الأبيض وقد امتلأ من بزر البطيخ المقلي والفول السوداني المحمص، يبدأ الاثنان بالتقاط حبيباته بنهم.. يصدران تلك الفرقة التي تخرج من بين الأسنان، حيث يلتقطان نواته الصغيرة بشهية وإقبال متتالي،ويلفظون خارجا قشوره مباشرة على الرصيف !.. تتسارع حركة أناملهما بوتيرة عالية في إيصال الحبيبات إلى ما بين أسنانهما، ليستمر العمل دون كلل أو ملل، فقد تحولت إلى ما يشبه الملقط ؟..فجأة قُطع صمتهما : - ما رأيك في رحلة إلى الهمالايا ؟ سألها. - لم افهم، هل أوضحت أكثر ؟ - لا توضيح، فالأمر في غاية السهولة ! سأمر عليك الليلة !.. جهزي حقيبة صغيرة، فلا داعي لحاجيات كثيرة، رحلتنا لن تستمر أكثر من أسبوع، كان يحدثها بجدية تامة بدت على وجهه. - الهمالايا مكان جميل لاشك، يعبأ بمعتقدي بوذا.. وتفوح روائح البخور في كل مكان، على مرتفعات هي الأعلى في العالم لكن: ألا يوجد مكان ابعد منه ؟ سألته مقهقهة.. - إذا ننطلق منه إلى الصين، المهم أن نبتعد عن ضجيج الناس وكآبة روتين العمل والحياة وصخبها. - تنهدت بصوت مسموع ، معك حق فعلا، نحن نكاد أن نجن من روتين قاتل ،يعصف بنا طوال اليوم، لا يميز بين الأمكنة فكلها على حد سواء. - اتفقنا إذا.. ستكون رحلتنا على دراجة نارية ! فلا عربة، ولا طائرة املكها،نريد تغيير الروتين بكل أشكاله، كان منفعلا لدرجة لم تعد تميز مزاحه من جديته .. ويضيف: ستكون مغامرة، كأننا قد عدنا بالزمن إلى الوراء بسن العشرين.. - تضحك بمليء فيها ، فيتناثر البزر من بين أسنانها البيضاء المصطفة كعقد من اللؤلؤ.. لكن: أسبوع يكفى ؟ موتور ورحلة إلى الهمالايا، كيف تستوي الأمور ؟ هل أفهمتني ؟ تقهقه بصوت مسموع.. - نعم أسبوع إقامة، وشهر في الطريق كي نصل إلى هناك، يقهقهان معا بجنون .. يلتفت إليهما المارة على الكورنيش، يرمقونهما بازدراء واستهجان غريب.. - ما بك يا احمد تبدو غريبا جدا هذا اليوم! فقد أضحكتني كثيرا، وربك يسترها، لأنه في آخر مرة ضحكت فيها من قلبي، وقعت في حادثة كادت أن تنقلب إلى كارثة، لولا ستر ربك.. فلا أحب الضحك بهذا الشكل، لأنهم يقولون: فاله نحس وشؤم !. - أصبتي حقا ليلى، كانت أحلام يقظة، مجرد أحلام.. عبارات لا واقع لها زميلتي الغالية ! فقد أحببت أن أفضفض عن نفسي وأجلو عنا قليلا من هموم الحياة وثقل أعباءنا وروتين قهرنا اليومي .. - شعرت بهذا يا احمد .. وكدت أن اصعق بداية، لاعتقادي بأنك قد تكون ثملا، مما أفقدك السيطرة على منطق الكلام.. فبدأت تهذى.. لكنى تداركت الأمر سريعا وانغمست معك في الأحلام... انتهى كيس البزر المخلوط مع الفول السوداني، وصمتت فرقعاته.. وشارف حديثهما العفوي على نهايته، ولقائهما الجميل على غير ميعاد أن ينفض .. استودعا بعضهما بعضا، فهي تعود إلى أسرتها قبل مغيب الشمس، لظروفها الخاصة في مجتمع لا يرحم !.. بينما هو يعود إلى بيته لينتظران يوم جديد من الروتين. و يبقى حديث الهمالايا على كورنيش النيل، مجرد رحلة أحلام عابرة.. يتكرر وقعها على مسامعهما بكل حيثياتها، وملابساتها، وضحكاتها، حتى بدأت مؤخرا، تؤرق مضجعهما في كل ليلة !!.