فجأة استفاق في داخله شعورٌ غريب، عميقُ الغور، لم يسبق أنْ شعر به من قبل ... كان وقتها عائداً من وظيفته التي لطالما كرهها وتمنَّى أنْ يخلص من قيدها ... حتى غدت عبئاً ثقيلاً ناءَ تحته منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، حين تدخَّلت زوجته متواسطة له عند أحد معارف والدها ليعمل في شركته ... فكَّر مراراً بترك العمل، وكان في كلِّ مرة يحسم أمره، ويدخل إلى المدير يتلجلج، ويضيع منه صوته في قاع سحيقةٍ، وينعقد لسانه عن النطق، ويخرج ليزداد شعوره بالتردُّد والقلق، والاحتقار لضعفه. تذكَّر مقولة كان قد حفظها من تلك الكتب الكثيرة التي كانت ملاذه من منغّصاته اليومية : « يناضل القلق كي يصبح خوفاً » ، وأحسَّ أن قلقه قد شقَّ شرنقته اليوم، وراح يحاول تمزيقها والخلاص من سلطتها. ولكن كيف سيكون شكل المواجهة مع زوجته؟ هل سيضطر لشرح ما عزم على القيام به؟ يكفيه ما تحمَّله طيلة خمسة عشر عاماً، يكفيه رائحة الخيانة التي تنفَّسها كلَّ مساء، في سرير الزوجيَّة .. كان يتظاهر بالغباء، وفي كل ليلة يدخل غرفة نومه كان يلعن نفسه ألف مرَّة، ويلعن صمته وإحساسه بالخيانة. اليوم بلغ احتقاره لضعفه وجبنه حدَّاً لا يمكن أن يقف في وجهه شيءٌ ... دخل إلى البيت وصفع الباب وراءه، ومع هذه الصفعة يكتشف أنّه للمرة الأولى يفعل هذا الأمر، لطالما تحمّل العمرَ كلَّه سماع مثل هذه الصفعات دون أن يكون قادراً على اقترافها ... عمَّق هذا الموقفُ إصراره على الثأر لكرامته،... بوجهها المتجهِّم المطلي بمساحيق البراءة الزائفة أسرعتْ زوجته من المطبخ، رمقها شزراً بنظرة باردة، لا حياة فيها، وهو يعبر الممرَّ نحو غرفة النوم، دون أن يكلف نفسه ، كعادته، تبرير ما يفعل، حتى وإن لم تسأله ... وكعادتها هي عادت إلى المطبخ دون اهتمام بالقادم، ولكن بلا تعليق هذه المرَّة، لعلَّها حدست أنَّه لن يحتمل أن تنبس ببنت شفة ... دخل الغرفة، وهو يحدِّث نفسه بصمت : " أخطأ منْ قال: يناضل القلق كي يصبح خوفاً، وكان ينبغي أن يقول : يناضل القلق كي يصبح موتاً وربَّما انتصاراً على الخيانة "، أغلق باب الغرفة، ولكنْ بهدوءٍ بالغ ... خمسة عشر عاماً مرَّت في مخيِّلته، وكأنَّها شريط فيلمٍ ارتسم أمام عينيه ... ارتمى على سريره ، وراح يفكِّرُ ... ينبعث صوتٌ قويٌّ من المسجِّل، آتٍ من ناحية المطبخ : « أنا وانت ظلمنا الحبْ ... بإيدينا ... وجينا عليه وجرَّحناه ... ما حدش منا كان عايز يكون أرحم من التاني ولا يضحّي عن التاني وضاع الحب ضاع ما بين عند قلبي وقلبو ضاع » « لعنة الله عليكِ ...» قالها وهو يبكي بحرقة، إنها الأغنية التي تعرف بأنه يتهرَّب من سماعها، لقد أخبرها أنه عندما قرأ عنوان هذه الأغنية « أنا وانت ظلمنا الحب » ظنَّ أنَّ الحبَّ هو الذي ظلمهما، ولكنَّه بعد أن سمعها اكتشف أنهما هما من ظلما الحبّ ، فسخر من نفسه، وقرَّر أن لا يعاود سماع هذه الأغنية ثانية، ولم توفّر هي الأخرى فرصة السخرية منه في ذلكَ الوقت. لقد تحدَّى أهله ليتزوَّج منها، وراهن العالم كله من أجلها، ولكنَّه خسر الرهان، وجلس على قارعة الندم، يلطمه إحساس عميق بالخيانة. نعم أيتها اللعينة ضاع الحب ... فماذا بعد ...؟ ببطءٍ شديد مدَّ يده نحو الخزانة الصغيرة المتاخمة لسريره، فتح الدرج، وأخرج مسدسه ... كانت هي في المطبخ تتلوى كأفعى تتلذَّذ بسماع كلمات هذه الأغنية أمام مرآتها التي لا تفارقها أبداً، وتنظر بين الحين والآخر إلى « الطنجرة » الموضوعة على النار. بعد لحظات ملأ البيتَ صوتٌ مدوٍّ آتٍ من غرفة النوم، أطلَّتْ من نافذتها نحو البناية المقابلة، وأشارت لأحدهم بالذهاب، وأرسلتْ له قبلة في الهواء، ثمَّ انسحبتْ بتكاسل لترى من أين أتى هذا الدويّ..!!