في مدينتي النائمة بحضن الضفة اليمنى لنهر ''سبو''، تبني اللقالق أعشاشها فوق أعمدة النور المعطلة، لهجرتها موسم معلوم بين الشتاء والصيف، نتهامس، تؤذن بربيع محتمل في هذا العام الأغبر!! أراها فتكبر بداخلي رغبة الصعود إليها، أما السواد المحيط بالرقاب، فسرعان ما يتلاشى خلف بياض ناصع يتماوج أمام عيون تعبت من بسط السراب على إسفلت داكن. في الطريق إلى المدرسة، لم أنشغل سوى بردة فعل صديقي المتدين، كعادته سيرعد ويزبد، بعد العلم بخروجي عن جماعته ممن أضربوا أمس. في حالات روقانه، يحلو لي أن أذكره بتمييزه الجميل باستمرار، بين إضراب المؤمنين وإضراب الكفار، قاصدا بالطبع ما تعرفه الساحة النقابية من اختلاف في المواقع على أساس الاعتقاد الديني، بعدما كان الأصل في التفريق على أساس إيديولوجي بين يمين ويسار، الله يرحم أيام زمان، أصارحه بانكشاف اللعبة التي بدأ يجربها حزبه؟ لكنه يبقى لطيفا وديعا في الحوار. ربما أجدد له التذكير بيأسي المطلق من كل المسرحيات غير المتقنة الإخراج، لم يخفف من تهيبي من مواجهته، غير انشغاله ربما، ببيان الحكومة حول تفكيك شبكة من إياهم، كنت موقنا أننا في النهاية سنضحك على الحدث، كما سخرنا ذات يوم، من تفاهة باشا المدينة، حين أقدم على تعليق مؤذن الجامع، بدعوى وجود سلاح في البئر الذي تقوم عليه الصومعة، ضحكنا لأن البناء المقام، كان قد شيد قبل ولادة المؤذن، روى من حضر الواقعة، أن التهمة الحقيقية، إنما هي تبكير الرجل في المناداة على الناس لصلاة العصر، أخطأت عيناه التمييز بين العقارب المتحركة، توهم أن ظله في الأرض استوفى حجم جسده، فقام مناديا في الناس وزاد هذه المرة نغمة جديدة تعكس حال الطمأنينة في النفس. سأعاود تذكيره بالحكاية، وحدها كفيلة بالتخفيف من الهجوم المحتمل لصديقي، بعدما تركته وحيدا في الساحة كما يقول. يصدر خلفي حاداً صوت منبه سيارة، بينما الضوء الأخضر أمامي تحجبه أغصان كثيفة الأوراق، هل شردت في متابعة حال الشرطي الساهم في الرد على هاتفه المحمول. رمقته متوسطا ضفتي إسفلت ساخن، فتجسدت فيه صورة أخي المسكين، دون سابق إعلان، فرقوا بينه وبين أسرته مسافة ألف كيلومتر، فنقلوه إلى ''العيون'' من مدينة ''الناظور''، من رأس الريف الجبلي إلى قاع الصحراء الرملية، قالوا بأنهم وجدوا فيه الصرامة المطلوبة ضمن فرقة التدخل السريع، فرقوه إلى رتبة رقيب، فصلوه عن حضن أبنائه، أتصور أنه يلعنهم في السر صاحيا، وفي العلن كلما نالت منه الخمرة حتى الثمالة. ذات يوم، أسر لي بتفسيره لهذا الانتقال المفاجئ، ربما وجدوا في ملفاتي القديمة أيام الجامعة- هم الذين يقولون بأنه لا تخفى عليهم خافية- ما كنت أعبر عنه حول القضية، فقصدوا أن يضعوني في فم المدفع، لعلي أستبين حقيقة وجهي المخدوش في الذاكرة المنكسرة. انطلقت متراخيا فلحق الضوء الأحمر بمن خلفي، بدت في المرآة العاكسة حركات يدي السائق، بينما تحلل خيال الشرطي فوق صفيحة سراب ساخن، كانت المدينة تخرج من هدأتها فيما اللقالق تحرك جناحيها كي تطير.