العنوان مركب إضافي يتشكل من كلمتين: عصفور، ويحيل إلى ذلك الكائن الطبيعي ذي الجمال البديع والألوان الزاهية المتناسقة والصوت العذب الرخيم واللحن الشجي، يضاف إلى ذلك كل ما يتعلق بالطبيعة من فطرة ونقاء وجمال حقيقي، وكلمة " الجنة" وتحيل إلى كل معاني الخلود والسعادة الأبدية والمتعة المطلقة. والحاصل أن إضافة العصفور إلى الجنة يولد عالما دلاليا تتبلور فضاءاته من تشابك الحقلين الإيحائيين لكلا اللفظتين. وستتضح أبعاد هذا التشابك من خلال نبشنا في الممتد الدلالي للنص. يمكن تقسيم النص إلى أربع مساحات دلالية: المساحة الأولى: ( الأبيات من 1 إلى 4) ويمكن اختزال فكرتها العامة في: - دعوة الشاعرالطائر [ المتلقي الممتلك لصفات الجمال والصفاء والخلود، والرمز هنا يؤول إلى الشاعر بصفة عامة لتأشير الكثير من القرائن اللفظية والسياقية على ذلك] إلى عالمه الشعري المفعم بالجمال والموسيقى. والشاعر في هذا المفصل الدلالي يستخدم لغة غير مباشرة، تتوسل بالصورة والرمز البسيط [ولا نقول الرمزية] لإيصال المعنى إلى المتلقي، فعالمه الشعري يرمز إليه بالقلب، والقلب يشبهه بالبستان (تشبيه بليغ)، والطائر مدعو إلى ولوج هذا العالم المؤثث بكل ماهو جميل ومتناسق ومنسجم ومتناغم ( الزهر والماء والغصن الغض المستقيم والألحان ) وهذه الصور والرموز، رغم كونها تنتمي إلى عالم الطبيعة مما يضفى على النص صبغة رومانسية أصبحت معها الطبيعة رمزا للنقاء والطهر والجمال الحقيقي، وأضحى الاندماج معها حلم الشاعر التائق إلى الخلاص من عالم زائف، إلا أنها تحيل إلى مكونات العالم الشعري كما يتصوره الشاعر، سواء على مستوى الموضوع أو على مستوى الشكل ،حيث يبدو كل شيء تعبيرا عن عالم حقيقي وفكر خلاق داخل سيمفونية طبيعية متعددة الألحان. وقد استخدم الشاعر لرسم صورة هذا العالم مجموعة من الآليات الأسلوبية ذات أدوار دلالية تسند بناءه المضموني، من ذلك أنه اتكأ على الجمل الخبرية، عدا النداء في بداية النص المسبوق بأداة استفتاح وتنبيه قيدت وظيفته بوظيفة الخبر [ الخبر هنا يروم إعطاء فائدة للمتلقي ] لتصدير مجوعة من التصورات التي يعتقد الشاعر أنها معقولة وصحيحة، وهي تلك التي توحي بها الألفاظ المندرجة في حقل الطبيعة، كما استثمر الجمل الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار لتأكيد ثبات هذه التصورات وخلود هذا العالم عالم الشاعر، وهي جمل قصيرة من مبتدأ يتأخر غالبا وخبر يتقدم للاهتمام بمضمونه وتثبيت محتواه. غير أن استقاء الرموز من الطبيعة ينم عن تعلق شديد بها، وارتباط ضروري بينها وبين عالم الشعر. المساحة الثانية: (الأبيات 5-6-7-8) وتدور فكرتها العامة حول مفهوم الشعر عند شكري وعلاقته بهذا الطائر[ المتلقي المفترض بكل ثقل الكلمة الإيحائي ] الشاعر في هذا المقطع الشعري يؤسس تصورا للشعر كما روجت له مدرسة الديوان، فمن جهة، الشعر معاناة داخلية مصدرها وجدان الشاعر. وشكري يحيلنا من خلال توظيفه هذا المصطلح النقدي إلى حزمة من التصورات التي يحبل بها، لعل أهمها أن الوجدان عند هذا التيار النقدي يتشكل من الفكر والعاطفة، مما يبعدنا عن اعتقاد كون النص رومانسيا محضا. والشاعر يؤكد على هذا المبدأ من خلال استخدامه لأداة التوكيد في:" إن الشعر وجدان". ومن ثم فلا علاقة للشعر بشيطان الشعر، ولا جدوى من اكتسابه بالمحاكاة والتقليد: " فلا تقتد بالناس". والانتقاد موجه ضمنيا هنا إلى التيار الكلاسيكي. ومن جهة ثانية، الشعر انعكاس لتجربة ذاتية منبثقة من كيان نفسي خاص، لا تعبير عن مناسبة من المناسبات أو ذات أخرى ليست ذات الشاعر، والمؤاخَذُ هنا التيار المحافظ مرة أخرى. وهذا هو المفهوم من قول الشاعر: وفي شدوك شعر النفس لا زور وبهتان والشاعر في هذا المقطع الشعري لا يكتفي ببناء المفاهيم فقط، بل يتجاوزها إلى الدعوة إلى تبني هذه المفاهيم وتطبيقها، لذلك يتخلص من الطابع الإخباري للأسلوب، ويستخدم أسلوبا إنشائيا طلبيا يتوافق مع اتجاه الدلالة، وهكذا يطلب من الطائر الكف عن الإقتداء بالناس، والنهي هنا للنصح والإرشاد، لكن الشاعر يعززه بمبرر ومسوغ يضمن من خلاله استجابة المحاوَرِ، ويتمثل هذا المبرر في الجملة المقترنة بالفاء الرابطة بين الطلب وجوابه: " فما في الخلق إنسان" وفي هذه الجملة حذف لصفة هذا الإنسان، والتقدير إنسان حقيقي (يقتدى به) أو ما شابه ذلك. ولا يخفى على الممعن النظر في هذه الجملة ما في ثناياها من نزعة تشاؤمية مفعمة بالشكوى من عالم لا يبدو الشاعر متصالحا معه، وتلك خاصية أخرى من خاصيات الاتجاه الرومانسي الذي تستمد منه مدرسة الديوان معظم ملامحها. ويطلب الشاعر من الطائر( الشاعر) أيضا أن يجود له بالشعر الذي ينسجم مع طبيعته وفكره مستخدما أسلوب الأمر الذي يفيد الالتماس معززا إياه بنفس الآلية الأسلوبية المستثمرة في البيت السابق، وهي ربط الطلب بجواب يضمن حصوله، خاصة وأن هذا الجواب مصدّر بأداة توكيد "إن": وجد لي منك بالشعر فإنا فيه إخوان وهذا الانسجام التام بين الشاعر والطائر يؤكد رغبة الشاعر في تبني تصوره وتطبيقه إذا كان الطائر متلقيا مثاليا، أو رغبته في الثبات والاستمرار إذا كان الطائر هو الشاعر نفسه، فالشاعر والطائر متلاحمان يؤديان نفس الدور كلاهما يلهم الآخر، ويبحث السعادة والأمان، وينتميان معا إلى عالم ملؤه الصفاء والجمال. المساحة الثالثة: ( الأبيات من 9 إلى 17 ) وفكرتها العامة: -تعبير الشاعر عن معوقات تمنع الانسجام (التواصل) بين الشاعر والطائر في نزعة تشاؤمية تؤول إلى الخضوع لسلطة الأقدار. تبدأ هذه الوحدة المعنوية بنفس اللازمة التي بدأت بها الوحدتين السابقتين: " ألا يا طائر الفردوس " ، والنداء يخرج فيها إلى التمني، والمتمنى المرغوب فيه مصرح به منذ بداية النص، وهو اتحاد الشاعر والطائر في عالم واحد. لكن هذه الوحدة تصطرخ بمفارقة عجيبة، وهي أن الشاعر رغم كونه متيما بحب الطائر مقاسيا صنوف العذاب في اشتياقه إليه وحنينه، إلا أن المخاطب غير مبال بذلك، غير مرتاح إليه، غير واثق منه. وذلك ما أفادته جمل الاستفهام التي خرجت عن اقتضاء السؤال لإفادة التعجب والاستغراب في ثلاثة أبيات متتالية (10-11-12) التعجب من تلكؤ الطائر في ولوج رياضه والتحليق في سمائه. ويحاول الشاعر تجاوز هذا الموقف المتأزم بانتهاج سياسة الدفاع عن عالمه عبر خطاب تبريري جند له جملا خبرية تقريرية تبعد كل ما من شأنه أن يسيء إلى هذا العالم: " فما في الروض ثعبان" " ولا في الجو عقبان"... ولا يخفى أيضا ما في الرمزين الطبيعيين من تلميح إلى خصائص العالم الذي يتشاءم منه الشاعر ويصر على التذمر منه والانفصال عنه. [ يمكن التعامل مع هذه الرموز بطريقة البلاغة التقليدية باعتبارها استعارات تصريحية المشبهات فيها محذوفة، والعلاقة بين طرفي الصورة بعيدة يمكن تلمسها في الكمّ الإيحائي الذي تشع به اللفظةالرمز] ويختم الشاعر استفهاماته الاستغرابية بتأكيد حقيقة بعد المسافة بينه وبين الطائر، وأفول حلمه بتبادل الإسعاد في جملتين خبريتين مسبوقتين بأداتي نفي. ثم تتوالى بعد ذلك جمل خبرية ينحو بعضها منحى الحكمة البسيطة المستمد مضمونها من التجريب اليومي لواقع الحياة ( الأبيات 14-15-16) ، ويقرر بعضها حال واقع الشاعر في علاقته بمخاطبه (المرسل إليه) العلاقة التي حكم فيها القدر بخلاف ما أراده الشاعر وطمح إليه. وهكذا يبدو الشاعر في هذا المنحنى مستسلما لمصيره غير قادر على تغييره. وإذا ربطنا ذلك بسياق خارج النص [وهو تحليل مقبول في المنهج التاريخي، مرفوض بنيويا] علمنا أن الشاعر ومدرسة الديوان كانوا يمرون في فترة نشر القصيدة بمرحلة البحث عن متلقي إبداعهم التجديدي وأنصار مذهبهم الفني، وكانت العوائق كبيرة، خاصة وأن شوقي وحافظ يهيمنون على الأذواق ويسيطرون على الأسماع.
المساحة الدلالية الرابعة (الأخيرة) (الأبيات من 18 إلى 23) ويمكن عنونتها كالآتي: -طلب الشاعر من الطائر أن يحتمي بحضنه إذا نابته المصائب يحاول الشاعر في هذه المساحة ترميم بنائه المتصدع ( رسالته الضائعة) وعلاقته المتدهورة بالمتلقي رمز الجمال والخلود، مجهدا نفسه في التخلص من النزعة التشاؤمية التي شوهت جمال تواصل مثالي دشنه الشاعر في أول النص مع مخاطبه. فراح يمد جسور هذا التواصل من جديد عبر التصريح باستمرار مشاعر الود والمحبة لهذا ( الشبيه ) في قلبه في نزعة تفاؤلية تمتد عبر الحاضر إلى المستقبل، لكنها تظل في نطاق الإمكان والاحتمال مرهونة بظروف ومشروطة برغبة المتلقي. وقد استخدم الشاعر لهذا الغرض جملا شرطية تصور ما قد يعرض للطائر من تصدعات تصيب في الغالب جداره النفسي باعتبار طبيعة المواد المعجمية الموظفة في هذا السياق ( ملّك أحباب – لوعات – أحزان....) وتشترك كلها في جواب شرط واحد مفاده أن عالم الشاعر مفتوح دائما للطائر (الشاعر) ناهيك عن كون جملة جواب الشرط جملة طلبية مشفوعة بجملة طلبية أخرى تبدأ كلتاهما بفعل أمر يفيد التمني متبوع بجواب طلب يقرر شكلا ومضمونا الإتحاد والانسجام الكائن أصلا في طببعة كلا المتحاورين وأدوارهما: " فقلبي منك ملآن"- " فإنا فيه خلاّن"، وهكذا يستمر هذا الالتماس ليفتح باب التواصل على مصراعيه بين الشاعر والطائر. لكن الشاعر يفاجئنا بنهاية غريبة للنص تعكس طريقة مدرسة الديوان في إعطاء بعد فكري فلسفي معقد لأشكال العلاقة بين الذات والآخر في تواصلهما مع الواقع والطبيعة والجمال والفن... لهذا ختم الشاعر النص باستفهام يفيد النفي، نفي تجاوب مخاطبه، والتشكيك في قدرته الذهنية لإدراك الحقيقة (حقيقة الجمال والموسيقى والفن...) رغم ما يمثله من جمال وشاعرية: وهل تفهم ما أعني وهل للطير أذهان؟