التأطير قضت سنة التغيير أن لا تقف حركية الشعر العربي عند الحدود التي رسمها له رواد حركة إحياء النموذج، فلحقه من التغيير والتطور ما لحق الحياة والفكر، كما انفتح الشعراء على آفاق جديدة مغايرة خصوصا الشعر والنقد الغربيين، حيث تأثر الرومانسيون العرب بشعراء غربيين أمثال شكسبير وكولريدج ولامارتين وفيكتور هيكو وغيرهم، وقد أدى هذا الاختلاف في المشارب وغيرها بالشعراء الذاتيين أن انفلقوا تيارات مختلفة كونوا إثرها مدارس اتفقت جميعها في أن الشعر وجدان، لكنها اختلفت في نظرتها إليه، حتى بين أعضاء المدرسة عينها. ويمكن التمييز بين ثلاث مدارس شكلت أقطابا لخطاب سؤال الذات في الشعر العربي الحديث وهي: -مدرسة الديوان: مثلها عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمان شكري (1921 ). -الرابطة القلمية: تشكلت بالمهجر الأمريكي (1923 ) تزعمها جبران خليل جبران، وميخائيلنعيمة، وإيليا أبو ماضي. -مدرسة أبولو: أسسها أحمد زكي أبو شادي (1932- 1935 )، وانتهى إليها إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأبو القاسم الشابي. ولخطاب الرومانسية أو سؤال الذات خصيصات تميزه عن باقي الخطابات الشعرية الأخرى، نذكر منها: -اللجوء إلى الطبيعة بوصفها عالما للطهر والصفاء والمثل للتعبير عن الأزمات. -استبدال التعبير عن الذات بالتعبير عن الجماعة. -تقديم الوجدان والعاطفة على العقل والأخلاق. -سيادة مشاعر الحزن والتشاؤم والضياع والكآبة والغربة. -الاعتماد على الخيال الجامح الجانح. -طغيان نزعة التأمل الفلسفي والبحث في الوجود والكون. -رفض الواقع المعايش بكل تناقضاته وقيمه والبحث عن البديل في الطبيعة أو في البرج العاجي. -وظيفة الشعر تعبيرية تأثيرية وليست توجيهية كما في خطاب إحياء النموذج. -منبع الشعر ذات الشاعر وليس محاكاة الواقع والتجربة. -توظيف الصورة المركبة والكلية، والتنويع أحيانا في القوافي والأرواء، واستلهام البناء القصصي، واعتماد معجم شعري وسيط يمتح مفرداته من معين الطبيعة، سواء كانت حية أم ميتة. التحليل يندرج النص ضمن خطاب سؤال الذات، فهو وليد مدرسة أبولو الرومانسية، التي تعد الجيل الثاني بعد مدرستي الديوان والرابطة القلمية، ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي على يد أحمد زكي أبي شادي، وانتهى إليها مجموعة من الشعراء أمثال: إبراهيم ناجي، وعلى محمود طه، وأبو القاسم الشابي. كان القاسم المشترك بينهم تبني الرومانسية إطارا و مرجعا للإبداع الشعري، فمالوا إلى النزعة التأملية المعبرة عن الاغتراب في الواقع المعايش، وجسدوا هموم المثقف العربي وانكساراته المختلفة، وابتغاء عالم بديل في الطبيعة والخيال والموت.ويعد علي محمود طه أكثر الشعراء تمثيلا لخصائص المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها والرومانسية عموما، فجاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، معبرا عن الحنين إلى المجهول والحيرة في مظاهر الحياة، ومفعما بالحب والحرية والنغم. فإلى أي حد حافظت القصيدة مناط التحليل على هذا النموذج الشعري؟ وما مدى تمثيلها لخطاب سؤال الذات عموما؟؟ !! يتضح من خلال النظرة البصرية أن النص يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي، فقصيدة "غرفة الشاعر" اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الأرواء، وهي ملامح تجديدية في الشعر العربي. جاء العنوان الموضوع من قبل الشاعر من الناحية التركيبية جملة بسيطة تتكون من مبتدأ محذوف تقدير هذه، و"غرفة" خبر مرفوع وهو مضاف، و"الشاعر" مضاف إليه مجرور، أما دلاليا فالعنوان يمنح إمكانات دلالية عديدة، فكلمة غرفة تحيل إلى مكان مخصوص بالمنازل والديار، وغالبا ما يضطر إليه الإنسان حينما يلوذ إلى الانفراد والانعزال والخلود إلى ما يخالج الذات، إن هذه الغرفة ليست مطلقة، بل مرتبطة بذات الشاعر بقرينة الإضافة، والشاعر كما هو معلوم هو الذي يشعر بما لا يستطيع غيره الشعور به، ويعلم ما لا يعلم غيره.إن وضع العنوان خاصة للشعر الرومانسي.فما علاقة هذا التضايف بمضمون النص؟ وهل تتميز غرفة الشاعر رمزيا عن غيره؟وهل تحقق تحول مواز للبناء على مستوى المضمون؟ اعتمدت القصيدة نظام المقاطع، وكل مقطع عنصر داخل بنية، تعبر عن رؤية شمولية ذات دلالات عميقة، ففي المقطع الأول يصور الشاعر نفسيته الكئيبة، وهو منزو في غرفة، أما المقطع الثاني فينتقل بنا إلى تصوير مشهد درامي جعل كل الأشياء التي تؤثث الفضاء تحبل بالكآبة والضنك، جعل الشاعر لا يبدي اهتماما للجمال والجلال، بينما المقطع الثالث خص بمخاطبة الشاعر المحزون، وهو نفسه، وكأنه انفصم عن ذاته ليعبر عنها لما لم يحاوره أحد، أما المقطع الرابع الأخير ففيه حث لذاته بأن يستفيق من سباته ويعيش حياته كما يجب أن تعاش.جاءت هذه المضامين متمردة على تقاليد القصيدة العربية القديمة، متجاوزة لأغراضها التقليدية، يمكن أن تبأر مجتمعة في نواة دلالية مفادها التعبير عن نفسية الشاعر الكئيب الوحيد والتأثير في المتلقي، دعمت وحدة القصيدة العضوية هذه النواة الدلالية، فلا يملك كل بيت قيمته إلا من خلال الذي يتقدمه والذي يليه، وهي سمة عوض بها الشاعر الوجداني تعدد الأغراض سعيا وراء خدمة مضمونه الشعري. عمد الشاعر إلى إبراز تفاعل ذاته مع الموضوع المرتبط بنفسيته محاولا وضع المتلقي أمام مأساته، ولعل هذا ما يوحي به معجم القصيدة من خلال الألفاظ المستعملة ( الكئيب، الليل، شجونك، السهد، الحزين، ارتعاش، أنين، الشكوى، السراج، النيران...)، إنه معجم بسيط وسيط يجمع بين السلاسة والجزالة، تعتمله بعض الألفاظ التي تمتح من معين التراث (اليراع، يزدهيك، الأرماق، الكرى...)، حاول من خلاله الشاعر إبلاغ المضامين والمعاني السابقة، يتوزع هذا المعجم حقلان دلاليان: الأول مرتبط بالذات الشاعرة ويمكن التمثيل له بالألفاظ الآتية:(الكئيب، شجونك،الحزين، أحزانك، رأسك، الآسي، السهد، الشحوب، الدموع، الخريف...) والثاني دال على محفل الغرفة نمثل له ب:(الليل، الرعد، الإبراق، اللون، السراج، الصمت،السكون، الدجى، ليل الخطوب...).تجمع بين هذين الحقلين آصرة قرابة، فكل ما تجيش الذات به من كآبة وضنك يوازيه كآبة لما يؤثث المكان، فالغرفة انعكاس مرآوي لنفسية الشاعر ومتحدثة عنه بالمشهد التخيلي، إن الرؤية التشاؤمية للشاعر تجعله يرى الغرفة ملاذه للانفراد والانطواء على الذات والحلول فيها. وقد عبر الشاعر عن ذلك بلغة تنزع نحو البساطة واستعمال المأنوس من الألفاظ، فاللغة عند الرومانسيين وسيلة للتعبير عن الذات لا غاية في ذاتها كما كان عليه الأمر عند الكلاسيكيين. هذا من الناحية المعجمية، أما من الناحية التركيبية، فيهيمن ضمير المخاطب على النص(أيها الشاعر، لست تصغي، أنت أذبلت، يا شاعري...). إن هذا المخاطب ليس إلا الشاعر نفسه، فقد انفصم عن ذاته ليخلق منها ذاتا ثانية يحاورها، حيث عدد من أناه، يناجي نفسه ويتحدث إليها يبكيها أحيانا ويعاتبها أحيانا أخرى، إن هذا الخلود إلى الذات أثاره ظلم الحياة والغربة فيه، فالانطواء والخلود والانفصام هي آليات يتجاوز بها الشاعر طه هموم الحياة وتناقضاتها.وقد زاوج الكاتب بين استعمال الجملتين الفعلية والاسمية، فالأولى دالة بذاتها على التجدد والاستمرار، يرصد بها علي محمود طه تحول حالته عبر الزمنين النفسي والفيزيائي(مضى الليل، مازلت غارقا، يهفو عليك، حطمت من رقيق كيانك، أذبلت بالأسى قلبك، فقم الآن، التمس في الفراش...) يصورهما تأثيث الغرفة وما يرتبط بها من محفل زماني دال(الليل)بكل تمفصلاته(الرعد، البرق، الموقد، النيران...)،أما الثانية فتفيد الثبات والاستقرار مرتبطة بوجدان الشاعر الثابت على الكآبة والضنك يعكسها فضاء الغرفة وما يؤثثها(السراج في ضوءه الشاحب، بقايا النيران في الموقد...). أما من الناحية البلاغية فالصورة الشعرية جعلت من الطبيعة ملاذا لها ومرجعا، قامت على تقنيات البلاغة القديمة من استعارة وتشبيه ومجاز، لكنها عضدتها بالاعتماد على الانزياح في تركيب الكلمات والتشخيص، أي أنسنة عناصر الطبيعة بإسناد أفعال وصفات إنسانية لها، كما تتميز بالحلول، ومؤداه حلول الشاعر في الطبيعة واتخاذها معبرا للتعبير عن أفكاره وانفعالاته، فالطبيعة مرآة تنعكس عليها هموم الذات، علاوة على كون الصورة تغرق في الخيال والتجريد.وكل هذا من صميم هذا الخطاب، ففي البيت العاشر استعارة حذف منها المشبه به/ المستعار منه (الإنسان) وأبقي على أحد لوازمه (البكاء) على سبيل الاستعارة المكنية، وهي استعارة مركبة طرفاها مختلفان: فالأول محسوس والثاني مجرد، أما البيت السادس فاشتمل على استعارة كلية/ مشهدية في النص نواته الدلالية: الكآبة، يمكن لف عناصرها لتكون مشهدا دراميا، كما ورد في البيت الثالث مجاز مرسل علاقته الكلية في قوله"ويد تمسك اليراع"، حيث ذكر الكل (اليد) وأريد الجزء (الأنامل) فالقلم لا يمسك باليد، بل بالأنامل. يقوم المقطع الأول على صورة مشهدية هي نتاج تضافر صور جزئية، صورة الشاعر الحزين الغارق في التفكير، ذي الجفون الذابلة، واليد الممسكة للقلم، والأخرى المرتعشة على الجبين... ويمكن القول: إن القصيدة عبارة عن صورة كلية شاملة تتميز بقدرتها على استيعاب وتصوير تجربة الألم والمعاناة. أما من حيث الأساليب فقد جمع الشاعر بين استعمال الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول احتمل الصدق أو الكذب، والثاني ما لم يحتملهما معا، يستعمل طه الأول للإخبار بمعاناته التي يحكيها للمتلقي، وهو منفصم عن ذاته، هذا الانفصال الموحي بصدق هذه الأخبار، حيث يترك النفس تعبر عن ذاتها، إذ يعد أبلغ في الإخبار وأهل للتصديق (مسلما رأسك، يد تمسك اليراع، أذبلت جفونك...)، وهي كلها أخبار ابتدائية خالية من التوكيد بالضرورة التي يقتضيها الانفصام والانفصال إلا ما قل منه (إنها للمجنون)، أما الإنشاء فيرتبط بانفعالات الشاعر والبوح بما يخالجه من مشاعر، يجمع بين الإنشاء الطلبي، ومن ذلك النداء المستلزم حواريا العتاب(أيها الشاعر الكئيب)، والاستفهام(هلا فرغت من أحزانك)، والإنشاء غير الطلبي المتمثل في الندبة (آه يا شاعري)، والتعجب(ليست للشاعر الموهوب!).إن الصورة تتجاوز حدود البعد التزييني الجمالي الذي ساد في القصيدة الإحيائية لتغدو أداة للتعبير عن الذات. ولم يحد الإيقاع عن هذا المنحى التجديدي في هذا النص، فقد نظم الشاعر قصيدته على وزن بحر الخفيف(فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن)، وهو من البحور الخليلية المركبة الخفيفة التي تنسجم وغرض النص، يبرر تعقد نفسية الشاعر، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعورية وتجربته الشاعرية، فهي قافية مطلقة حينا رويها متحرك(المقطع الثاني والرابع) ومقيدة حينا آخر رويها ساكن(المقطع الأول والثالث)، متواترة على طول القصيدة، حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة، كما يوازي هذا التنوع الانفعالي في القافية تنوع في الروي حيث يراوح بين"النون" و"القاف" و"الباء" و"الكاف"، فالنون صوت مهموس رخو ينسجم مع انهيار نفسية الشاعر لما فيه من الغنة والأنين، أما القاف والباء فشديدين مجهورين يصوران شدة معاناة الشاعر وجهره بها، ولعل هذا ما خلق جرسا موسيقيا حزينا دعمه التدوير في أغلب الأبيات، حيث تبدأ الكلمة في الشطر الأول وتنتهي في الشطر الثاني. هذا على مستوى الإيقاع الخارجي الذي جسد انزياحا عن مقومات البنية الإيقاعية للقصيدة العربية التقليدية.أما الإيقاع الداخلي فيتميز بتكرار حروف بعينها أهمها أرواء القصيدة، ثم اللام(37 مرة) وهو من الحروف المجهورة الرخوة، والسين(18 مرة)، وهو حرف مهموس رخو، يضاف إلى ذلك تكرار حروف المد(أيها، آه،...) التي تحمل دلالات التأوه والحسرة، وكلها تعكس الحالة النفسية الكئيبة للشاعر، كما تسهم في التأثير في المتلقي، وتخلق تنوعا موسيقيا أخاذا. ولم يقتصر التكرار على الحروف بل تعداه إلى الكلمات (الليل، الشاعر، جفونك...) وهي كلها تمتح من معين الكآبة، كما تكررت كلمات بالترادف (شجونك/أحزانك، الصمت/السكون، ناضب/ذابل)، وتوازت الصيغ الصرفية (فعيل: جبين/ أنين، فعول/طروب خطوب...) إضافة إلى التوازي التركيبي غير التام(مازلت غارقا في شجونك/ مازلت سادرا في مكانك)، أما التوازي الدلالي فتمثل في جميع الكلمات التي تؤثث فضاء الغرفة والتي تجتمع كلها في نواة دلالية واحدة مرتبطة بنفسية الشاعر الكئيبة. وقد تضافرت عناصر التكرار والتوازي جميعها لخدمة الغرض الأساس وخلق مسحة تزيينية وجرس موسيقي، كما ساهمت في وضع المتلقي أمام معاناة الشاعر وتجربته. يعد هذا النص تمثيلا واضحا لخطاب سؤال الذات، أحدث الشاعر فيه انزياحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، بدءا من معمار النص الذي يقوم على نظام المقاطع وتنوع القافية والروي، مرورا بالمضمون الشعري الذي كان طافحا بانفعالات الذات ومعاناتها، جاعلا من القصيدة لحمة واحدة تمثلت في وحدتها، حيث استبدل تعدد الأغراض بالوحدتين العضوية والموضوعية وصولا إلى المعجم الذي يغترف من مألوف الألفاظ ومأنوسها لدى المتلقي بدل الغريب والعتيق والمهجور، والصورة التي نزعت نحو الخيال والأنسنة والتركيب في التعبير عن الذات، بدل الصور البسيطة الحسية المكرورة، كما أن القيم الذاتية والالتفات إلى الوجدان من صميم هذا الخطاب.