كعادته خلال شهر رمضان أمتعنا التلفزيون المصري بالكثير من الإعلانات الفنية الراقية التي كنت أتابعها باهتمام وتشوق يوما بعد آخر . وعلى سبيل المثال لا الحصر لا ينسى أي منا – حتى لو حاول - ذلك الإعلان الجميل الذي نبهنا فيه النجم أحمد السقا إلي أفضل شرائح البطاطس المقلية . أو الإعلان عن السمن البلدي الذي تفوق فيه الممثل حسن حسني على نفسه في دور بطولة مطلقة . ثم حاول أن تنسى الإعلان المبتكر الذي قدمه مسحوق غسيل عن ابتسامة رجاء الجداوي! الإعلانات كانت جميلة من دون شك ومفيدة ، لكن لنا عتابا على التلفزيون وكلمة حق ينبغي أن تقال : لماذا أفسد التلفزيون علينا جمال الإعلانات بفواصل من مسلسلات لم أعرف لها اسما ؟ . أذكر بمرارة أن منة شلبي قطعت علي استغراقي في إعلان السمن البلدي بظهورها مرتين ، واحدة في القاهرة ، والثانية في تل أبيب ، وكانت حسبما أذكر تجري – لا أعرف لماذا - من رجال أشرار بنظارات سوداء لا أدري من هم . القصد أننا شاهدنا كمية إعلانات مهولة أبعد ما تكون عن رسالة وزارة الإعلام ودور التلفزيون ورسالته . نعم لقد جلبت الإعلانات للتلفزيون المصري هذا العام نحو نصف مليار جنيه أي مئة مليون دولار ، بينما بدت المسلسلات مجرد وسيلة للإعلان عن كل شيء ، عن السلع الغذائية والمبيدات والسيارات وشركات المحمول ، وتروج معظم تلك الإعلانات لمبدأ استهلاكي يصل حد الضرر البالغ . فقد أغرقتنا شركات المحمول بدعوتها العجيبة إلي التكلم ليل نهار في المحمول ! كأن الناس لا عمل لها سوى الكلام ! فهل يضحي التلفزيون بدوره من أجل الفلوس؟ وهل تهدر وزارة الإعلام طاقة التلفزيون في الترويج لفكرة " تكلموا ليل نهار في المحمول ولا تهتموا بغير الثرثرة " ؟! لمجرد أن هذه الفكرة مربحة لشركات المحمول ؟! . السؤال المطروح هو : هل مؤسسات الدولة مؤسسات ربحية ؟ أم أنها مؤسسات ينفق عليها الشعب وواجبها هو الاهتمام بحالة المجتمع وبتثقيفه وبتطويره ؟ . لقد ظهرت وزارة الإعلام في مصر للمرة الأولى بعد الثورة ، في نوفمبر 1952 وزارة الإرشاد القومي ، وكان أول من تولاها هو المثقف الكبير فتحي رضوان ، وجاء في تحديد الغرض من إنشائها : " توجيه أفراد الأمة وإرشادهم إلي ما يرفع مستواهم المادي والأدبي وتقوية روحهم المعنوية وشعورهم بالمسئولية وحفزهم إلي التعاون والتضحية خدمة للوطن ، وتيسير سبل الثقافة الشعبية " ، واستمرت وزارة الإرشاد القومي على حالها حتى عام 1970 حين تقرر ضم قطاعي الإعلام والثقافة إليها فظهرت وزارة الدولة للإعلام ، وفي عام 1986 صارت وزارة الإعلام فحسب ، ووفقا للقرار الجمهوري رقم 310 لعام 86 تحددت مهام الوزارة في ثلاثة عشر بندا أتوقف عند أهم بنودها القائل ب : " توجيه أجهزة الإعلام لتبصير الشعب بمكاسبه والدفاع عنها في مواجهة التحديات وتنمية المبادرات الفردية والحفر على العمل وإبراز القيم الروحية " . هذه هي مهام وزارة الإعلام والتلفزيون ، فما الذي رأيناه خلال شهر رمضان ويمت بصلة لموضوع " تيسير سبل الثقافة الشعبية " ؟ هل شاهدنا حملة لمحو الأمية ؟ هل شاهدنا حملة للتوعية بأخطار الفتن الطائفية ؟ هل شاهدنا حملة للتوعية الصحية ؟ . لاشيء سوى طوفان من المسلسلات التي يتسم معظمها بالسطحية وقد أغرقتها الإعلانات ثم الإعلانات التي تخلق بالصورة والكلمة وتأثير حاجة مصطنعة لسلع استهلاكية ، وإعلانات عن فن تضييع الوقت ، وأخرى عن أحدث أنواع السيارات في الوقت الذي لا يدري الناس فيه كيف يصلون لأعمالهم بالمواصلات من شدة الزحام والتدافع والتقاتل على أبواب الميكروباصات العشوائية . وإذا كانت الدولة تكف يدها تدريجيا عن دعم الثقافة ( مع الاحتفاظ برقابتها على المؤسسات الثقافية ) فلا ينبغي لتلك السياسة أن تمتد إلي التلفزيون لأن ما يقدمه هو الغذاء الفكري المباح للملايين في بلد تنتشر فيه الأمية .