...لا أتذكر تماما متى دخلت رواية اسمها الحياة، ولا أتذكر متى كنت صفرا أراد تأكيد مكانته وموقعه بين أعداد الزمن المهم أنني على يقين، أن مقدمة حياتي كانت ظلام في بطني أمي، وخاتمتي ستكون ظلاما وسط قبري... ولا يحلو لي الحديث هنا إلا عن الظلام الأول، فعلى الأقل فهو ظلام آمن وظلام كنت أستمتع فيه بالبراءة وحسن السلوك.. ظلام حالك ذو نور خاص محمول، لا !يلمس الأرض أبدا، ولا يحس بجراثيم الثراب تعلمت أن الحياة داخل النور الأسود تسعة أشهر فقط، لكنها كافية كي تعلمني ما أحتاج إليه، وتعطيني زاد ما أقتاته، وتؤشر على جواز المرور إلى حياة ما بعد التسعة ... * الشهر الأول : كانت الأيام الأولى كفيلة بأن أكتشف بأنني موجود بالقوة بعدما كنت عدما.. هي التي أخبرتني أنني على مرأى ممن خلقني لوحده وسط كيس مرن الذي كنت أنا أناجي جداره فيما بعد يدرأ عني صدمات الحياة الخارجية الأخرى... ولأنني مجرد نطفة مكونة من دم فقط ، فلم أكن على وعي بما كان جدار الكيس يخبرني به وينبهني إليه، أو بالأحرى ما كان يوصيني به ... * الشهر الثاني دالت الأيام.. مرت مرور الكرام، حتى أنني لم أحس أبدا في أي اتجاه تدور.. ما زلت لم أقدر على الكلام، فالكلمات خرساء في فمي.. بدأت أشعر لأن أغير أسمي.. من نطفة لعلقة.. هاأنذا علقة معلقة بجدار ضعيف لكنه أكثر أمانا من فولاذ مغشوش بدأت أحس بجوارحي تتكون مع توالي الأيام، وبدأت أعي أن الحياة الأخرى تحتاج لعتاد كبير من الأعضاء، وهذا ما جعل توجساتي تكبر وتنمو وأن في الشهر الثاني... الشهر الثالث * بدأت جوارحي تنمو وتنضج، وبدأت أسمع غمغمات الجدار، لكن صدى الصوت مازال مشوشا بدأت أشغل حيزا أكبر من الفضاء المظلم ليتغير اسمي ثانية من علقة لمضغة.. بدأت أمضغ أيامي بلا أسنان يوما تلو الآخر، وأخذت أتعود على الظلمة الحالكة.. لم أكن أجد في عزلتي مؤنسا سوى صوت الجدار وتحركات أمي من مكان لمكان.. ومع بداية نهاية الشهر الثالث، وجدت نفسي بكامل الجوارح و الأطراف أي بكامل العتاد ... قدمان للتنقل، ويدان للبطش، وأذنان للسمع، وأنف للشم، وجلد للمس، وعينان للبصر، ولسان للتذوق.. أما الحدس فهو الأمر الذي كان بدواخلي وكان الوسيلة التي أتحسس بها عالم ما قبل التسعة مذ كنت مجرد نطفة... الشهر الرابع * أصبحت متكامل الأطراف.. سحنة وجهي تظهر بأنني سأكون حزينا، إلا فسحة الأمل، التي سأعيش عليها.. لم تكن بحوزتي مرآة لكي أرى ملامح وجهي، لكن هذا كلام الجدار الذي بدأت أهتم به، وإن كان يغمغم لمدة ثلاثة أشهر دون أن أعي ما قال ... سرت ذبذبات داخل أوحالي.. قشعربرة هزت كياني.. قوة خفية أحاطتني.. لم أفهم شيئا رغم أن كلمة "الفهم" لا زلت أصغر منها .. هالني إحساس رهيب .. أعضائي أصبحت قوية.. سألت الجدار: ما هذه المعجزة الخارقة التي أحس بها بداخلي الآن ؟ أجابني قائلا: إنها الروح التي ينفخها الملك في الأجساد... !سألته مرة أخرى، هل كنت طوال هذه المدة جسدا بلا روح ؟ أردف مجيب: نعم، بدايتك جسد بلا روح، ونهايتك أيضا ستكون جسدا بلا روح؟ عجيب... حدثني يا جدار، إنني أحس بأن رأسي فارغ، وأريد ملأه ... لا تستعجل، سأحدثك، لكن حتى تبلغ شهرك الخامس.. وأعلم أن العديد من الرؤوس انفجرت لكثرة ما كانت تضج به !! الشهر الخامس * ها أنت إنسان من جسد وروح.. والآن يمكن أن أعطيك بعض الحكم والنصائح ستكون مفتاحا تفتح بها أقفال الحياة بعد خروجك من هنا، "يقول الجدار.. استمع يا جنين: أخي قلبك بالموعظة، ونوره بالحكمة، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فأنظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا أصلح مثواك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لا تكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند خيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ..." إنه كلام جميل يا صاحبي، أنت حكيم فعلا ... الحياة تجعل الإنسان حكيما دون إرادته... الشهر السادس * بدأت أكبر وأنمو، أنا الآن في الشهر السادس.. ولا بد أن صاحبي الجدار أعد حكمة أو نصيحة تنفعني في الحياة الأخرى... هل أعددت شيئا يا صاحبي؟ نعم ألم أقل لك لكل شهر حكمة، استمع إذن: تمر بالمرء في هذه الدنيا ألوان من الناس، وصور تختلف طبائعها، وتتباين أخلاقها، وكثير منها يمر كما يمر الطيف، لا تحس به إلا حينما تجد مكانه فارغا ولا تأبه له، لأنه لم يخلف ورائه من الذكريات ما يعاودك خياله بين الحين والحين أو لأنه لم يكن له من الأثر العميق في حياتك ما يجعل صورته بارزة أمام عينيك كلما فكرت في الماضي، أو لأنه لم يكن لم من الشأن والخطر والمواهب والعبقرية ما يثبته في بؤرة الدماغ ويصون ذكراه من أن تطغى عليها أمواج النسيان أو لأنه لم يكن متميزا بخفة روح أو سرعة بديهة، أو نكتة حارة قل ما يماثله فيها سواه.. الناس مذاهب مختلفة يا جنين، وستعرف هذا لاحقا ... الشهر السابع * بدأت أحس بالمكان يضيق بي.. فأنا أنمو وأكبر والمكان ثابت لا يزيد.. مازالت حكم الجدار تملأ أذني، وهاأنذا في الشهر السابع، يسمعني حكمة جديدة .. يقول: استمع يا جنين، كن رحيما.. ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.. لو تراحم الناس ما كان بينهم جائع ولا عار، ولا مغبون ولا مهضوم، ولا قفرت الجفون من المدامع، ولا طمأنت النفود، في المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع، كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين... يا جنين، لو كنت رحيما، ستجد من يرحمك دائما... الشهر الثامن * بدأ المكان يضيق بي فعلا، أحسست أن حجمي لا يتناسب وحجم الكيس.. لكنني مازلت أستمتع بنصائح ووصايا صديقي الجدار الذي علمته الحياة أشياء كثيرة رغم أنه محجوز في هذا الظلام مثلي.. خاطبني قائلا: استمع يا جنين، حديث هذا الشهر لن يكون إلا عن الإنسانة التي تحملك الآن، إنها أمك التي تحملت مشاق ثقلك كل هذه المدة الطويلة دون أن تضجر منك.. إنها التي تغرد لكآبتك فتطربها.. التي تناجي وحشتك وتؤنسها.. التي تجاور روحك فتضيئها التي تغني لقلبك فترقصه، وتنادم وحدتك فتملأها ألحانا.. إنها أمك التي حملتك وهنا على وهن.. فلا تهجرها أبدا، إنها بيتك في حياتك، ونعشك في مماتك ... الشهر التاسع * لعلني وصلت مفترق الطرق أخيرا، إنه شهر المخاض كما أخبرني صديقي.. الشهر الذي أنتقل من خلاله للبية الأخرى .. زمجر رعد هز عروقي وضخ الدم بسرعة في جسدي، لأنني خائف ومرعوب من الحياة الأخرى التي أجهل تفاصيلها تماما.. يتقدم الجدار نحوي ليوصيني.. يقول: يا جنين، هذا آخر شهر لك في هذا المكان المظلم، فلا تفصلك إلا أيام قلائل لتواجه حياة ثانية بنوامس مختلفة.. لدى لن تبلغ مرادك، وتصل إلى ما أوصيتك به، إلا إذا كافحت وطلبت العلم، إنها آخر وصية لك، أطلب العلم من مهدك إلى لحدك.. فالعلم تهذيب وتأديب للنفوس، وحيازته مساعدة للغير.. والعالم كالعين التي يشرب الناس ماءها.. عصا موسى ستعرف لاحقا تستطيع أن تفجر الماء من الصخور الصماء، وتجد طريقا بين الأمواج الهادرة، فلتكن عصاك أنت هي العلم إذن، لأن الله لم يخلق من العصا اثنتين .. أنت على وشك الخروج، واعلم أن حياة ما بعد التسعة شاقة، والعيش في أدغالها يحكمه الكبد .. وما دمت ستخرج مقلوبا، فتأكد أنك ستجد تقلبات لا حصر لها.. توكل على من خلقك، وسر في الدنيا صافي القلب وقائم الحجة، لتكون بذلك أسعد الناس... خرجت.. لأصطدم بحكمة تفوق كل الحكم !!