الكاتب اليوناني الراحل نيكوس كازانتزاكس، صاحب رواية "زوربا" ، كان يقترب من منتصف عقد عمره الثامن، عندما كان يسابق الموت، وهو يكتب "تقريره إلى غريكو"، وكان يطلب من ربه أن يزيد في عمره قليلا حتى إذا جاء أجله، لا يجد إلا العظام، أو هكذا كان يعتقد. وكتب سيرته الإبداعية بأسلوب سردي متفرد، والمراحل التي قطعها حتى وصل إلى ما يسميه اعتباطا "الإطلالة الكريتية" (نسبة إلى جزيرة كريت التي ولد فيها وينسب إليها) . فهل جفّ جسد نيكوس من الأفكار فعلا، ولم يجد الموت حين أتاه إلا العظام الخاوية؟ الحقيقة التي يدركها كل من قرأ "تقرير إلى غريكو" ، الذي نشر ضمن أهم لغات العالم بعد رحيل نيكوس كازانتزاكس، هي أن الموت عندما جاءه مترجّلا، لم يجد "كومة العظام الفارغة" التي تصورها صاحبها، فالهواجس الموجودة في "التقرير" إلى الجملة الأخيرة منه، وحرارة الكتابة تبيّن أن صاحبها مازال "مملوءا" إلى الآخر وطافحا بالحياة والهواجس التي يكون من خلال الكاتب كاتبا. الرغبة في "تفريغ الذات" ، التي شغلت بال كازانتزاكس، تحيل إلى واحدة من أهم المشكلات التي تؤرق الكتّاب والشعراء والمبدعين على وجه العموم. فقد كان الشاعر نزار قباني يقول بأن مشكلة الفراغ والتفريغ، كان يعاني منها عندما كان في بداياته الشعرية، وكان في بعض الأحيان يصاب بوسواس مرضي، معتقدا بأن "شيطان الشعر" يكون قد طلّقه إلى الأبد، لكنه بعد أن وعى الأمر جيدا، لم يعد يفكر في "شيطان الشعر"، الذي قد يغيب أياما أو شهورا، لكنه سيأتي عندما تتوفر له أسباب المجيء. وبقي نزار قباني متمردا، سائرا في السمت الذي مشى فيه، إلى أن وافته المنية قبل أحد عشرة سنة. والمشكلة نفسها تقريبا طرحها الشاعر والكاتب المكسيكي الراحل أوكتافيو باث، الفائز بجائزة نوبل للآداب في بداية تسعينيات القرن العشرين، وقال بأنه يشعر بخواء كبير، عندما ينتهي من كتابة أي نص، وكان يعتقد بأن ما يجب أن يكتبه، قد كتبه بالفعل، ومن المستحيل العودة إلى حالة إبداعية جديدة بالمستوى نفسه الذي كتب به من قبل. لكنه يعود بعد ذلك في الوقت المناسب إلى الحالة النفسية نسها التي كتب فيها نصوصه السابقة، وساعتها يشعر بالرغبة في القول الجديد الذي لم يكن يخطر على باله قبل تلك اللحظة، وكأنه يمارس فعل الكتابة لأول مرة، فيشعر بأن النص الجديد أحسن من سابقيه. ومن المفارقات أن باث، ومثله كمثل كازانتزاكس الذي بلغ "الإطلالة الكريتية" ، واستقبل الموت بعظام ليست خاوية، لم يكن "يتعض" ، وكان يعود بعد كل عمل إبداعي إلى حالة الخواء التي يشعر بها، لكنه خواء مؤقت، والعظام ما تزال ممتلئة بما يقال أن كان في العمر بقية.