بات فيليب لوجون ذاك المتخصص الذي لا يختلف بشأنه اثنان في مجال السيرة الذاتية وكل أشكال الكتابة الحميمة. ولد فيليب لوجون سنة 1938 في أحضان أسرة من الجامعيين ودرس في المدرسة العليا بشارع أولم Ulm . ويعتبر هذا الحاصل على دكتوراة الدولة والعضو بالمعهد الجامعي لفرنسا (l'Institut universitaire de France) مرجعا مطلوبا ومعترفا به في كل بقاع العالم. كان بإمكانه الاستفادة من شهرته من خلال جعل الكتابة الحميمة ميدان بحث مثل باقي الميادين، لكنه فضل الاستسلام لنشوة الكلام الشخصي والتحول إلى مناضل من أجله من خلال الجمعية من أجل السيرة الذاتية وتراثها(APA)؛ فأولئك المجهولون الذين يكتبون اليوم يهمونه دون شك بنفس قدر اهتمامه بكبرى شهادات الماضي، لكنهم يثيرونه أكثر. نشرت له مجلة Magazine littéraire في عددها لشهر ابريل سنة 1988، ضمن ملف أعدته عن اليوميات الخاصة، مقالا انتهى بتوجيه دعوة لتقديم شهادات حول ممارسة كتابة اليوميات. تولّد عن هذا المتن كتاب "Cher Cahier" (دفتري العزيز)، ثم اتسع البحث وتنظم وفق منهج محدد بفضل الجمعية من أجل السيرة الذاتية وكذا بفضل بلدية أمبريو-ان-بوجي (Ambrieu-en-Bugey) التي جعلت محلاتها رهن إشارتها. وأضاف منذ ذلك الوقت إلى خصال هذا الجامعي الذي اختار أن لا يترك جامعته أبدا صفة الوسيط الذي لا يعرف الملل والمجمع الذي يملأه فضول تلك الاعترافات التي تكتب في كل أطراف العالم. ميشيل دولون : تشتغلون منذ ثلاثين سنة حول كتابة الذات (L'écriture de soi) فهل بقي موضوع اشتغالكم هو نفسه دائما؟ لقد اقترحتم عدة تعريفات ممكنة للسيرة الذاتية... فيليب لوجون : كنت في الأصل أحلل جنسا أدبيا وكان اشتغالي يتمحور حول الأدب الرفيع والأعمال المعيارية(Les oeuvres canoniques) ، وهو أمر مشروع تماما بل أني لم أتخل عنه: فليس هناك أجمل من روائع الأعمال. لكني لاحظت مع مرور السنين - لعله اكتشاف ساذج- أن السيرة الذاتية لم تكن جنسا أدبيا إلا بدرجة ثانوية؛ فكتابة السيرة الذاتية هي أولا ممارسة فردية وجماعية ولا يقتصر أمرها على الكتاب وحدهم. فليس من الصواب الاقتصار على دراسة السير الذاتية الأدبية، فكل النصوص السير-ذاتية مهمة. من هنا أتى توسيع أول لمجال الاشتغال شمل ممارسة عامة الناس. لقد كنت أنا نفسي من عامة الناس، بل قد أزعم مازحا أني لست جامعيا متخصصا في السيرة الذاتية،لكني بالأحرى كاتب سيرة ذاتية متخصص في الجامعة؛ والسبب الذي دفعني إلى الاهتمام بالسيرة الذاتية دافع شخصي قبل كل شيء. لقد مارست هذه الكتابة منذ مراهقتي، وكان يلزمني بعض الوقت حتى أتحقق من إمكان التقاء موضوع الدراسة الجامعية والممارسة الشخصية. لقد قمت -إن صح القول- بالالتفاف عبر الأدب لكي أعيد ضمه هو نفسه ضمن منظور انتربولوجي أرحب؛ ولم يقدني هذا التوسيع إلى ترك الأدب بما أني استمرت في الاشتغال حتى اليوم على كتاب كبار، بل قادني ذلك إلى الجمع بين دراسة الأدب ودراسة كتابات الأشخاص العاديين. هناك صنف آخر من التوسيع هو الانتقال من السيرة الذاتية الى اليوميات، وهما جنسان متقاربان لكنهما متمايزان. إن ممارسة كتابة السيرة الذاتية أقل بكثير من ممارسة كتابة اليوميات،فهناك في فرنسا على وجه الاحتمال ثلاثة ملايين شخص يمارسون كتابة يومياتهم. إننا نعلم بما يُنشر من سير ذاتية بينما تبقى اليوميات -المخطوطة والخاصة- ممتنعة عن القراءة. وتبقى يوميات الكتاب المنشورة ذات أهمية قصوى لكن لا يمكنها أن تمثل هذه الممارسة الجماهيرية. هناك إذا توسيع أول شمل الناس العاديين، وتوسيع ثان شمل الأجناس، أي الانتقال من السيرة الذاتية الى اليوميات الشخصية. وهنالك أيضا توسيع آخر يضم مختلف المتون (supports) ؛ فليس في الكتابة وحدها يمكننا رسم صورة عن ذواتنا أو استخلاص تقييم عام لها بل نجد هناك وسائط أو وسائل أخرى غير الورق والكتابة. فقد اهتممت بمسألة تمثيل الذات من خلال الرسم والصور الشخصية(autoportrait) ثم بمسألة السينما؛ فنشرت دراسة حول الموضوع وشاركت في لقاء حول موضوع السيرة الذاتية والسينما سنة 1999 في مدينة أمبريو-ان-بوجي (Ambrieu-en-Bugey) . كما اهتممت- لكن بعجالة أكبر- بالسيرة الذاتية في الرسوم المتحركة، وهو الجنس الذي يعرف في وقتنا الراهن أوج امتداده. ولكي أعود للغة المكتوبة لكن من خلال وسيط مختلف، شغفت مؤخرا باليوميات على شبكة الانترنت. لقد سار التوسيع إذن في مختلف الاتجاهات: تخليت عن الدراسة الأدبية المحضة لهذا الجنس لكي أتبنى وجهة نظر أكثر شمولية، ولست أدري مدى جواز نعتها بالانتربولوجية. وعلى كل حال فمنذ عشرين سنة كنت أتردد أحيانا، في أطار اشتغالي،على مؤرخين وعلماء اجتماع وانتروبولوجيين أكثر من ترددي على الأدباء. ميشيل دولون :عندما تتحدثون عن منظور انتربولوجي أرحب فالامر لا يعني أن ممارسة الكتابة السير-ذاتية لا يجب أن تحدد تاريخيا.. فيليب لوجون: بالقطع لا بما أن إحدى أفكاري التي طالما انتقدت من أجلها هي أن السيرة الذاتية لم توجد دوما وأنها ليست نزعة إنسانية أصيلة. لقد استعملت في كتابي الأول السيرة الذاتية في فرنسا(l'Autobiographie en France) عبارات مستفزة لم تمر دون إثارة ردود فعل؛ فتاريخ السيرة الذاتية كما كنت أتصوره يبدأ في أوربا مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر فقط،، واعتبرت جان جاك روسو (Rousseau) الأب المؤسس لهذا الجنس. كنت أعتقد أن كل ما سبقه لم يكن غير مرحلة لما قبل التاريخ، وقد بدا هذا التصور المنحاز صادما لبعض العقول...التي كانت درايتها تاريخية أفضل مما تيسر لي! ميشيل دولون : إن جورج غوسدورف (Georges Gusdorf) تحديدا قد هاجم تحليلكم في كتابه الذي خصصه لكتابات الأنا(Ecritures du moi) فيليب لوجون: لا بد لي أن أّذكر أني معجب بهذا الكاتب كثيرا. لقد كانت قراءتي لمقاله "شروط وحدود السيرة الذاتية" المنشور سنة1956 أحد أصول تفكيري حول السيرة الذاتية؛ فأنا أكن شديد الاحترام والتقدير للوجه والعلم والذكاء الذي يمثله جورج غوسدورف، لكن يبدو جليا أنه لم يكن له نفس الموقف اتجاهي. مجمل القول أن رؤى مختلفة للتاريخ هي التي تضعنا في وضع التقابل؛ فهو في كتابه الضخم من مجلدين المنشور سنة 1990 يرجع بالسيرة الذاتية إلى بدايات الكتاب المقدس، أي إلى آدم وحواء، وهو ما يبدو لي وهما: وهم القول بأن كل شيء قد وجد دوما. إن التاريخ يغدو في هذه الحال إتماما لأصوله وبداياته، وفي نفس الوقت انحطاطا وتقهقرا. ونجده في كتابه هذا يقضي وقته في تسويط انحطاط العصور الحديثة. أما أنا فلي رؤى أكثر تدقيقا وتمييزا وأعتقد أن كل شيء لم يوجد دوما، وأن أمورا حدثت متأخرة؛ وأعتقد كذلك أن الأجناس الأدبية، كما الأشخاص، تصنع لنفسها عالم أساطيرها وتبني خرافاتها الخاصة. لقد حاولت مقاومة هذه النزعة، لكنني ربما رضخت لها أنا أيضا عندما ربطت أمورا كثيرة في حداثنا بجان جاك روسو. رغم ذلك يبقى صحيحا أن النصف الثاني من القرن الثامن عشر هو الفترة التي صار فيها النزوع السير-ذاتي ظاهرة اجتماعية مهمة؛ وقد صار الأمر كذلك بالتدريج إثر تطورات متعددة. هناك تقاليد فلسفية وأخلاقية أتت من العصور القديمة: فمسألة مراقبة النفس التي دعا إليها ومجدها فيتاغورس ومن بعده الرواقيون، قد تمت أعادة تناولها داخل الإطار المسيحي، وأمر هذا التقليد المسيحي جلي بين. ومن جهة أخرى شهد العصر الوسيط بروز أدب فردي؛ ذلك الأدب الذي، وإن لم يكن حميما بحق، سمح بإمكانية حصول كل ما حدث في القرن الثامن عشر. إن كل ما حصل لم يخرج من فراغ، بل حدث آنذاك تحول عميق،و سآخذ مثالا على ذلك - يتعلق الأمر ببحث أنجزه حاليا حول أصل اليوميات- يبين تعدد العوامل الفاعلة في التطور. كيف يمكن تفسير أن ممارسة مثل كتابة اليوميات الشخصية لم تكن توجد قبل عصر النهضة؟ لقد كانت هناك العديد من كتب التقارير ومن حوليات الأحداث العامة، أي أن فعل الكتابة يوميا كان حاضرا لكن فكرة جعل هذه التقنية في خدمة الفرد لم تكن كذلك. ليس للأمر علاقة مباشرة بالدين، فاليومية الشخصية صارت ممكنة بفضل تحولين كبيرين عرفتهما المجتمعات الغربية: التغير في العلاقة بالزمن المرتبط بابتكار الساعة الميكانيكية في بداية القرن الرابع عشر، ثم انتشار الورق الذي لم يعوض رقوق الكتابات الرسمية والعامة فحسب، بل عوض كذلك تلك الألواح الشمعية المؤقتة والضيقة التي كانت تستعمل في الكتابات الخاصة، والتي ستختفي حوالي سنة 1500. و لم تكن اليوميات الروحية التي ابتدعها إينياس لويولا (Ignace Loyola) و معه اليسوعيون إلا نتيجة من نتائج هذا التحول الكبير. أما نحن فنشهد اليوم تحولات جديدة، وذلك من بين الأسباب التي جعلتني أدرس بشغف اليوميات على شبكة الانترنت. فهذا وسيط جديد يحوّل بعضا من شروط إنتاج نصوص السيرة الذاتية ويولّد بالتالي أشكالا جديدة. إن مبدئي هو النسبية والتطور. ميشيل دولون:هل تضعون ضمن هذا التوسيع الذي تصفونه لمجال اشتغالكم النصوص التي تم الاشتغال عليها وبناءها لغاية أدبية وبرغبة في التواصل في نفس المستوى مع نصوص كل تلك الأسماء المجهولة في الماضي والحاضر؟ هل يجب استحضار نوع من الاختلاف ومن الحكم الجمالي أم لا ينبغي ذلك؟ فيليب لوجون: لماذا لا نبدأ بوضع الكل في نفس المستوى؟ أنا أعتقد أنه يستحيل معرفة أين يبدأ الأدب وأين ينتهي. ولا يجب الخلط بين الأدب وبين ما يُنشر. أما من جهة أخرى، فإننا عندما نتحدث عن الأدب غالبا ما نخلط بين التصريح بالنوع والتقييم للجودة. وتبقى النقاشات حول هذا الموضوع محيرة وبلا طائل. يُقصد بالأدب الرغبة في بناء موضوع يكون له تأثير على شخص آخر- وهو ما نسميه تقليديا الفن الذي لا يقتصر على كونه موضع تقديري الكبير، بل إنه يثير لدي الرغبة الكبرى. فإذا ما تعلق الأمر ببناء أجمل وأجدى وأصوب موضوع ممكن، فإنه من الواضح أن يكون للسيرة الذاتية رابط بالأدب؛ لكن المثير في الأمر بالنسبة لي هو أن السيرة الذاتية كانت في غالب الأوقات، وإلى غاية القرن العشرين، موضع احتقار من طرف أولئك الذين يبجلون الأدب. فقد توحدت حول هذا الأمر أصوات أناس لا شيء يجمع بينهم ، كما هي حال برونتيير(Brunetière) و مالارميه (Mallarmé) ، إذ اعتبرها الأول هراء بينما رأى فيها الثاني تقريرا صحفيا (reportage). ولا تزال إلى يومنا هذا مستثناة من الأدب لدى بعض الشغوفين بالأدب(les beaux esprits) الذين يعتقدون أنه يستحيل اعتماد خطاب حقيقة وخطاب جمال في نفس الآن. لحسن الحظ أن الأمور تغيرت خلال القرن العشرين، إذ باتت السيرة الذاتية بالتدريج -لدى بعض الكتاب على الأقل- ممارسة طليعية ومجالا يحتوي أشياء جديدة للاكتشاف، وأشكالا أخرى للإبداع. سأضرب مثالا على ذلك بميشيل ليريس(Michel Leiris): لقد تبنى في كتابيه "عمر الرجل" (L'Age d'homme) و" قاعدة اللعبة" (la Régle du jeu) موقفا نموذجيا يبتغي من خلاله التوفيق بين مسار بحث (Quête) على طريقة روسو، أي التضحية بشخصه هبة للحقيقة الأنتربولوجية، وبين اشتغال شعري على اللغة. وهذا الاشتغال لا يندرج ضمن التخييل (fiction) والخيال، ولا يكسر مشروع الحقيقة، بل يصاحبه من أجل تحققه على أفضل وجه. هذا الميول المزدوج نحو الحقيقة ونحو الجمال سنجده لاحقا عند كتاب آخرين يعتبرون أن الوصول إلى الحقيقة يمر من خلال إبداع أشكال جديدة، وهم ينزعون السيرة الذاتية من الأشكال السردية والحجاجية التقليدية بغية تمييز وتفضيل الاشتغال على اللغة. تلك حال جورج بيريك(Georges Perec) وكلود مورياك(Claude Mauriac) -على سبيل المثال- الذين أبدعا آليات لغوية بسيطة في مظهرها، لم يفكر فيها أحد من قبل، والتي تحدث أثرا شديدا لدى القراء دون الخروج عن مجال الحقيقة. إننا لا نجد في النصوص الجديدة لدى بيريك أدنى رغبة في التخييل بل نجده يرغب في الاقتراب بقوة من واقع لا يطاق. نفس الأمر نجده لدى كلود مورياك الذي يشتغل انطلاقا من نصوص يومياته الخاصة بغية إدراك ما لا يدرك: أي جوهر الزمن. وتحترم تجريبيته تمام الاحترام مبدأ التاريخ وروحه: الحقيقة. فهذان مثالان لعمل فني يتحقق خارج مجال التخييل. وإنه من عيوب عصرنا الاعتقاد بأنه لا تحقق للفن إلا داخل مجال التخييل، وبأن كل شكل فني هو بالضرورة تخييل. ميشيل دولون: إنكم تتقاطعون هنا مع تعريف يرى أن الأدب هو ما يمكّن من فهم أفضل للناس ولعصرهم من خلال اشتغال على الشكل.. فيليب لوجون : أجل فالأمر بين. إننا نفكر من خلال الأشكال التي تعلمناها والتي نكررها؛ وبالتالي لا يمكننا بلوغ حقيقة جديدة إلا بابتكار أشكال جديدة. لكن للأدب نجاحاته إخفاقاته، كما أن في نصوص السيرة الذاتية قوة لا تستمد من الأدب وحده. إن لها موارد أخرى وهي تحديدا : كلام الشهادة وقوة التزام الشخص المتحدث. أود إضافة توضيح ربما لم أؤكد عليه سنة 1975 بخصوص الميثاق السير- ذاتي (le Pacte autobiographique) : فهذا الميثاق ليس مرجعيا (référentiel) فقط بل إنه علائقي (relationnel)كذلك. فالسيرة الذاتية ليست نصا يلتزم فيه الكاتب بقول الحقيقة فحسب- على عكس التخييل حيث لا يرتبط الكاتب بأي التزام-، بل إنه يدعو القارئ إلى أن يبدي التصديق لما يقال ويقوده بالمناسبة إلى مشاطرته لعبة ممتعة وساحرة. فالسيرة الذاتية بخلاف التخييل، وكذا التاريخ و السيرة الغيرية ،(la biographie) نص علائقي يطلب فيه الكاتب من القارئ أمورا ويطرح عليه أخرى... ميشيل دولون: أكثر مما في التخييل؟ فيليب لوجون: أجل،فهناك أمر متميز جدا: إن الكاتب يطلب من قارئه أن يحبه باعتباره إنسانا وأن يوافقه بناء على ذلك؛ فالخطاب السير-ذاتي يقتضي طلبا للاعتراف، وهو ما لا يوجد في التخييل. فمؤلف التخييل يسأل قارئه ما إن كان تخييله جيدا وسليم البناء؛ أما من يكتب سيرته ويقدمها لك، فهو ينتظر منك اعترافا وإبراء ورضى لا يخص نصه فحسب، بل شخصه وحياته كذلك. يصير القارئ بذلك محط طلب للحب، أو قد يكون بمثابة قاض في محكمة وهو ما من شأنه أن يُربك، خصوصا وأن كاتب السيرة الذاتية قد يطلب-الأمر الذي يربك أكثر- أو يلمح بمبادلته هذه المواقف. نجد روسو في مقدمة اعترافاته (Les Confessions) يتحدى قارئه أن يأتي بمثل ما أتى به هو: وهذا من بين الأسباب التي تجعل جنس السيرة الذاتية جنسا جذابا وساحرا، لكنه لن يصير أبدا جنسا شعبيا. فليس كل الناس مستعدين لقبول ولو حتى فرضية هكذا مبادلة. إن السيرة الذاتية... معدية، لكن كثيرا من القراء يبدون ردود فعل محصنة ضد هكذا تهديد. نقول كل هذا لنؤكد أن هناك دينامية خاصة بالتلفظ السير-ذاتي (L'énonciation autobiographique). فحتى لو لم يكن نص ما من روائع الأعمال،فإن قوة القول السير-ذاتي (L'émission autobiographique) من طرف شخص يحسن الكلام عن حياته يمكنها أن تحدث تأثيرات شديدة؛ ذلك أن قارئ السيرة الذاتية شخص يبحث عن الاتصال المباشر وعن سحر الدخول في كينونة إنسان آخر؛ التالي يكون من الصعب تحديد قوة نصوص السيرة الذاتية اعتمادا على مقاييس شكلية أو أكاديمية. ميشيل دولون: صحيح أنه لا يمكن حصر الأدب فيما هو مدرسي وأكاديمي، لكنكم عندما تذكرون شخصا يحسن الحديث عن حياته ولو من خلال تراكيب نحوية خرقاء فإنكم تقيمون تراتبية باسم فاعلية النصوص ... فيليب لوجون: أنا لا أود إقامة تراتبية، بل أبحث أن أفهم ما يحدث حين نقرأ: إن قارئ السيرة الذاتية حساس وضعيف أمام مجموعة من الأمور؛ فهو قد لا ينفتح إلا على ما يوافق تجربته الخاصة،أو قد يأخذه الفضول تجاه تجارب حياتية تختلف عن ما يعيشه هو. كما أنه قد يمارس قراءة من الدرجة الثانية، أي أن يقوم من خلال نوع من الإصغاء بترميم نص لم يُبن إلا جزئيا في ما يُقدم للقراءة. فهذه المشاركة، وهذا التورط، وهذه الاستراحة تجعله في وضع يختلف عن وضع قارئ نصوص التخييل. ميشيل دولون: إنكم تعقدون مقابلة بين السيرة الذاتية ونص التخييل، لكن هناك كتابا جربوا كل مستويات التدرج التي تمكن الانتقال بين السيرة الذاتية والتخييل، مثل بنجامين كونستان(Benjamin Constant) أو ستاندال (Stendhal) . فيليب لوجون: بكل تأكيد، فالمقابلات ضرورية من أجل البناء :إنها تمكن من تحديد أحسن للحالات البينية (les états intermédiaires)،على تعقدها؛وهي تلك الحالات الملتبسة والغامضة والممتعة في غالب الأحيان. من الممكن أن يختار نفس الشخص،مثل كونستان، التعبير عن ذاته بقدر كبير من القساوة الحميمة في يومياته السرية وأن يمارس كل الأشكال البينية التي تبلغ مستوى التخييل في كتابه أدولف(Adolphe). لقد حصلنا منذ وقت يسير على كل ألوان نصوص كونستان التي تشكل ما أسميته بخصوص جيد(Gide) فضاء سير- ذاتيا(espace autobiographique). إن كونستان، وكذا ستاندال وجيد وآ خرون، يلعبون على إمكانية التنويع والتجريب على الذات وإبداع وضعيات افتراضية والدفع بها إلى أقصى مدى في هذا الاتجاه أو ذاك -من دون الالتزام بخطاب الحقيقة-،لكن مع إدماج تلك الافتراضات كصور بلاغية ضمن فضاء تمثيلي للذات. وتقتضي منطقة التجريب هذه بعض المسافة، إذ لا يطلب من القارئ تصديق كل ما يروى فيتم بذلك الابتعاد عن مبدأ التصديق المرتبط بالسيرة الذاتية لتطرح على القارئ مسارات لعب. وهو ما أحسن سيرج دوبروفسكي (Serge Doubrouvsky) تسميته من خلال لفظ-إحاطي جميل: التخييل الذاتي(autofiction) . وقد أبدع دوبروفسكي هذه اللفظة في معنى دقيق ومحدد بخصوص روايته الإبن (fils) ،لكن إعادة تناولها بعد ذلك جاء في معنى أكثر عمومية وغموضا من طرف كل المؤلفين الذين يقومون حاليا بالغوص في ما بين الأمرين هذا واستكشافه بالتذاذ واقتدار. لقد مد دوبروفسكي المعجم النقدي بمفردة كانت تنقصة، لكن لا أحد اعتمد تعريفه بدقة. فهذه المفردة تدل اليوم على كل المساحة الموجودة بين سيرة ذاتية لا تريد التصريح باسمها وتخييل لا يرغب في الانفصال عن كاتبه. إن كلمة سيرة ذاتية تخيف المؤلفين، فهي أشبه بنزع صفة الفن عن أعمالهم : كريستين أنغو (Christine Angot) مثلا، وهي كاتبة مقتدرة، تعرض حياتها بطريقة مباشرة في كتبها الأخيرة لكنها تعترض على فرضية كونها تكتب سيرا ذاتية أو شهادات... ميشيل دولون: أسستم الجمعية من أجل السيرة الذاتية. ما هو دور هذه الجمعية؟ وإلى أي مدى يمكنها تقديم المدد للدراسات الأدبية؟ فيليب لوجون: صبت أسئلتكم في مسار التطور الذي سلكته ارتباطا بمسألة الميثاق السير-ذاتي وبموضوع بحثي. فقد كان تصرفي لمدة خمس عشرة سنة تصرف باحث تقليدي يحتفظ بمسافة تفصله عن موضوع أبحاثه، لكني انتبهت منذ السنوت الثمانين إلى وجوب التدخل وعدم الاكتفاء بصفة الملاحظ وإلى ضرورة أن يصير الباحث فاعلا ومساهما ينخرط أكثر في الحياة الثقافية والاجتماعية. ولقد أدركت لدى الكثير ممن يكتبون سيرهم الذاتية أو يعتمدون يوميات خاصة قلقا بخصوص مصير أو دوام نصوصهم؛ فنحن عندما نكتب عن حياتنا، نتساءل عن مصير ما كتبناه بعد وفاتنا؛ ومن دون أن نفكر في نشره، نود أن يكون له قارئ أو أكثر. إن المجتمع الفرنسي الحالي يعرف أزمة تواصل فظيعة. إننا نزعم أن المعيش (le vécu) موضة العصر:إنه معيش مشكل وفق وسائل الإعلام ومهيأ من أجل نمط الاستهلاك، لكن الناس لا يتحادثون في الميترو ولا يعرف الجار جاره. وتبقى نصوص كثيرة بلا قراء، وستختفي بزوال أصحابها وتُفتقد مستقبلا لفهم عصرنا. كانت الغاية اجتماعية وعلمية في آن معا عندما أسست رفقة بعض الأصدقاء الجمعية من أجل السيرة الذاتية: إنها جمعية حددت لنفسها هدف جمع وقراءة وحفظ نصوص السيرة الذاتية غير المنشورة- قديمها وحديثها - التي يتفضل أصحابها بائتمان الجمعية عليها. وأقنعنا بلدية أمبريو-إن-بيجي في آين(Ain) فتكرمت بوضع خزانة المدينة رهن إشارتنا،فكوننا بها دار محفوظات خاصة بالسيرة الذاتية، وجمعنا في ظرف عشر سنوات ما يفوق بقليل الألف ومائتي نص، من سرد ويوميات ومراسلات. والنص قد يكون سردا في عشر صفحات أو يوميات في ثمانين دفترا... لقد تمت قراءة كل هذه النصوص ودراستها ووصفها وفهرستها من قبل مجموعات قراء للسير تطوعوا لهذه المهمة. ووضعت تلك النصوص رهن إشارة القراء المحتملين والباحثين بمن فيهم المشتغلون على الأدب وعلوم اللغة. إنه إذن موضوع جديد يطرح في مجال الدراسات الأدبية. وتستهدف الجمعية من ناحية ثانية جمع كل الذين يحبون كتابة وقراءة اليوميات والسير الذاتية. فلنا مجموعات للتفكير وللكتابة، وننظم معارض ولقاءات خلال نهايات الأسابيع.. كما نصدر مجلة تدعى La faute à Rousseau (غلطة روسو). إن الأدب لا يتشكل فقط من الكتاب الذين تنشر لهم كبرى دور النشر، بل كذلك من ألوف أولئك الذين يمارسون الكتابة ويحبون تبادل الأفكار وقراءة نصوص بعضهم البعض؛ فالرياضة لا تختزل في نهايات الألعاب الأولمبية، بل هي ممارسة جماهيرية، و كذلك هو أمر الأدب في اعتقادي. إننا في جمعيتنا مجتمع سيرة ذاتية، وودادية للقراءة والكتابة.