ثمة شيء من التكوينية في تشكيل مصطفى بوجمعاوي. فإذا كان التكويني يعني الإمكانات الموجودة في وضعية معطاة تفضي إلى إبداع جديد، فإننا نجد أنفسنا إزاء رغبة عارمة في التحرر من المتاهة التي لم يفتأ الفنان يمشْهده منذ عشرين عاما، وذلك قصد بناء متاهات جديدة. يتعلق الأمر بمتاهة خصوصية تقوم على المشابهة، أي المؤتلف الذي يولِّد المختلف، والتطابق الذي يتحول إلى تمايز. إن لعبة المتاهة هذه مليئة بالمفارقات، بحيث إنها تمكن الفنان من اتخاذ جميع الوضعيات الممكنة وهو يجذِّر نفسه في الاشتغال على التكرار، باعتباره تفكيرا وإسقاطا واقتصادا دالا. المنعطف باعتباره عبورا وفعلا، فإن بوجمعاوي يسائل نفسه ويشكك في ذاته ليسير باتجاه البحث عن أماكن جديدة للمتخيل تمنح نفسها لمخيلته ولجسده. إنه يحاول هجران تجربة الشاي، التي بلورها في وسائط عديدة ومختلفة كي يندمج في مسارات متعددة في الآن نفسه، أعني تلك المسارات التي طرقها مع التنقيطية، والكولاج، وكذا حركية "الحدائق المتخيلة" في الثمانينيات. وهكذا فإن المشهد الشخصي، أو بالأحرى الأسطورة الشخصية التي نحتها الفنان لنفسه خلال سنوات عديدة، بدأت تنحو تدريجيا نحو التفتت، لتترك المكان لإعادة النظر في المكتسبات، وذلك قصد التَّمَرْئي في حدود التجربة وانفتاحات السؤال. فخلف هذا القلق ثمة إرادة جريئة تنصاع لتجريب أشكال وصيغ جديدة. بدأ الأمر بانزياح بسيط وغير ملحوظ بحيث لا يمكن أن يخطئه المتلقي الفطن. ففي لوحة من لوحات الفنان تدخل في مسعاه هذا، ثمة مربع. غير أن هذا الفضاء الذي ظل يحتله الشاي أو الكأس منذ سنوات ويمنحه كامل دلالته عوض أن يمتلئ بهما، يتركان المكان لإحدى اختيارات الفنان المتمثلة في النباتي، أي العلامة التي تنبثق كما لو كانت نبتة عشب. بيد أن هذا النبات الذي يراود نظرنا هنا اصطناعي. إنه يحجب الشكل ويكشف عن المعنى ليتحول إلى مجاز. يبدأ الأمر هكذا بانزلاقات، كي ينتهي إلى متوالية من الدوائر الحركية، المنذورة إلى إيقاع لا يني يتكرر. والأسود والأصفر والأخضر والأزرق تغلف هذه اللوحات بألوان لم نتعود على لقياها في أعمال بوجمعاوي. يتعلق الأمر هنا أيضا بأسود مهيمن يترك مع ذلك المكان لألوان أخرى ليست بأقل كثافة، مشتقة من الأسمر البني الذي توحي به ذرات الشاي. كما لو أن الفنان يترجم معاناة باطنية، وكومة من الأسئلة التي يكاد يتعذر أمر الإجابة عليها، خاصة وأن مساره ترسُّبي ونظرته موحدة ومتراكبة، وتجاربه مفكر فيها بشكل دقيق. يمكننا أيضا الحديث هنا عن حس مأساوي يغمر الفنان في لحظة التحولات الكبرى والمنعطفات الجديدة، كما في لحظات تجاوز النجاح المؤقت للتجربة، والصراع ضد الجمود والتخثر. ففي هذا اللامكان الوسيط بين مرحلة فنية وأخرى، يبدو الاشتغال الفني كما لو كان مفتونا بألوان جديدة، بعيدا عن شفافية الأشكال، والمساحات اللونية، لكن قريبا من مما ينبثق مجددا من مناطق أخرى للخيال الشخصي. إن العودة إلى الحركية التشكيلية لدى بوجمعاوي تعد هنا مرادفا للنهل من مصادر جديدة وتوالدا جديدا للنظرة الفنية. إنه يترجم ولعا مبثوثا في المسام واليد والجسد. بيد أن حركية من قبيل هذه، مهما كانت درجة تعبيريتها وطابعها الذاتي، تجد نفسها محمولة على الفائض الرمزي للتجربة المكتسبة. لهذا ليس ثمة من شيء جديد، غير أن كل شيء مختلف، على حفا قفزة سوف تؤكد من دون شك الاختيار الشكلي والجمالي الذي سيتم الوقوف عنده في المرحلة الآتية. من الكثافة إلى الحرية اللوحة لدى بوجمعاوي اشتغال ذو جوانب ووجوه متعددة. إنه مزيج من الحركية الجموحة والتنظيم الدقيق؛ كما لو أن الفنان، من خلال جدلية الشعري والتأليفي، والحرية والضرورة يسعى إلى المراحة في اللامكان داخل اللوحة. إنها وضعية تمكنه من ناحية أخرى من التجدد باستمرار، خارج إكراهات التطور الذي تفرضه عليه التجربة والبحث التشكيلي، من غير أن يتخلى نهائيا عما يشكل جوهر ونسغ تجربته التشكيلية. فبعد الحدائق المتخيلة والقافلة وكأس حياتي، ها هو يسعى إلى البلورة المجازية اللامحدودة للنقطة واللطخة، من خلال تمديدهما، وإعادة ابتكارهما انطلاقا مما يمكن من إفاضة شيء ما خارج الكأس، أعني الكأس الخضراء وكأس الشاي. لقد فاضت الكأس وطفح الكيل كما يقول العرب القدامى، لكن هنا بمعنى حرفي ضيق. امتلأ الكأس عن آخره وزكا عنه الشاي السائل، والشاي بحبوبه الذرية كي يتحول إلى منشأة installation على الأرض، متحولا إلى هرم (أي كأسا مقلوبا). إنه الكأس في جميع حالاته وهو يختفي ويتوارى، ليغدو شفافا، بل لكي يغدو حجابا للشاي الذي غدا في تجربة بوجمعاوي أمرا أسطوريا، شخصيا ومتخيلا. إنه يتحول إلى نص، ونسيج ، بل إلى نسيج رمزي للنظرة الفنية. ومن غير هذا المطمح الدال، الذي ظل يدور حول موضوع الشاي وحول ممكناته المادية والفضائية الناجمة عنه، لم يكن بإمكان بوجمعاوي اليوم أن يعود لما كان يشكل الأساس الذي عليه قامت تجربته. يتعلق الأمر بعودة للحركية الفوارة بالعلامات المجردة، التي كانت تستحيل إلى حدائق سميت بالخيالية، فيما أنها أيضا متخيِّلة. وهنا، نحن لسنا فقط أمام عبور وإنما أيضا أمام انزياح. إنه ضرب من الانزلاق الجدلي الذي وهو يحافظ على ذكرى ما تحتضنه التجربة الفنية، يحملها بعيدا عن موقعها ووضعيتها القديمة. إن حرية الحركة التي تولِّد العمل الفني تتحول مرة أخرى إلى حركية متأصلة في مساحة اللوحة. وهي مساحة يتم الاشتغال عليها مرات متعددة، بنتوءات بارزة، وتضاريس تأخذ نموذجها من حبيبات الشاي وشكلها الواقعي. والمناطق الجديدة التي يسعى الفنان إلى سبر أغوارها هي من دون شك اللون والاشتغال على المساحات. فمن خلال لعبة الاستبطان، ينطبع الخارج على شاشة اللوحة بثقله وتناثره غير المشهودين. وبذلك تتم مساءلته في كثافته، التي تتبلور في شكل بشرة فظة تعبر عن دينامية لا تكل إزاء ما يتسرب من هذا الخارج الذي يتم تفَكُّره في غرابته الأكيدة. وهنا ثمة عنصران خفيان يتم مساءلتهما: الاهتمام الذي يولى لحركة الشكل، والتخلي عن الصرامة التي شهدنا في الاشتغال التقني للفنان. وهكذا نجد أنفسنا أما لعبة من الصُّدف تستقر في أفق اللوحة كي تؤكد هذه الانفتاحات الجديدة المبحوث عنها، وتلك الفلتات التخييلية التي تنطبق على بشرة اللوحة. إن امتلاك المرئي لم يعد يمر من خلال هيمنة المجازي أو الرمزي، وإنما من خلال البحث الجهيد عن إيقاع جديد، أكثر خفية هذه المرة، مرتبط بالحركة وحريتها. كل شيء في هذه التجربة الجديدة يوجد هنا: هذه الانفلاتات المحلقة تمنح النضج الكامل للفنان في إيقاعه الجديد، القائم على الرؤى الباطنية والإحساسات الخصيبة التي تمنحها للمتلقي نبرات اللوحة ومعانيها السرية. لا شيء غدا يُقرأ مباشرة في سطح اللوحة منذ الوهلة الأولى، ولا شيء ظل يفتن من النظرة الأولى. إن انزلاقا في النظرة هذه للذات والعالم علينا أن نمسك به ونلتقطه في حركته الخاطفة، التي تترجم عمق مسعى الفنان ومتغيراته المتعلقة بالتقنية نفسها. الكأس وهياكله على هذا النحو حاولتُ الإمساك بالأعمال الجديدة لمصطفى بوجمعاوي، التي تركز بالأساس على روح التيه وتتمرد ضد الصورة نفسها التي سعى الفنان إلى تثبيتها سالفا عن مساره. والمرسم الجديد الذي استقر به الفنان منذ فترة قد يكون حاسما في هذا الأمر. إنه مرسم مفتوح على السماء، حيث يمكن للوحة أن تجد نفسها أشبه بالمرآة العاكسة للغنى المتبلور هنا بين الرغبة والمتعة. وبوجمعاوي لا يشتغل أبدا بالقطائع المباغتة. بل من انزياح إلى آخر يجدد نفسه باستمرار: فمن اللطخة إلى النقطة، ومن هذه الأخيرة إلى حبوب الشاي، كما وضحنا ذلك في نص سابق، يتم الانتقال من المجازي إلى الحرفي (من الشاي كشراب إلى الشاي كحبوب)، ثم إلى الكنائي (إلى الشاي باعتباره كأسا)، لبلورة معنى اللوحة وتمفصلاتها. وهذه الانزياحات سوف تأخذ أشكالا جديدة في هذه التجربة الجديدة التي يدخل فيها الفنان من خلال الانتقال من هذه العمليات البلاغية كلها إلى محو الكأس ثم إلى بعثه من جديد من خلال هيكله المتاهي الهندسي. إن حجب الكأس، أو شطبه على حد تعبير جاك دريدا، يعني الاشتغال على وجوده مجددا، وإعادة خلقه في ما يبعده عن طابعه المرئي. وفي الحقيقة، فإن هذا المحو للكأس عبارة عن عملية تشكيلية تمكن الفنان من الانطلاق مجددا في الحركية، وتغليف الكأس برغبة فنية وتعبيرية تدخل في استراتيجية تواصلية جديدة. يتعلق الأمر أيضا بعملية حِداد تتم من خلال تكفين موضوع اللوحة والتجربة في الصباغة التشكيلية، تلك نفسها التي كانت وراء خلقه ووجوده. وهكذا يتم تصريف الكأس في غيابه الضمني كي يكف عن أن يكون حضورا شيئيا أكيدا. إنه يتوحد بالصباغة التشكيلية كي يكف عن الوجود باعتباره صورة أو أيقونة، وكي يتحول إلى شكل ممكن من ضمن الأشكال التي يترجمها الفنان إلى دوائر حلزونية أو تراتبية، مؤسلبا بذلك الكأس في هيكله، أي باعتباره مشروع كأس ممكن، وكأسا لم يكتمل حتى يسمى كذلك. إن العودة إلى هيكل الكأس يعتبر طريقة ممكنة لنزع كل طابع تشخيصي وشخصي عنه، وعودة إلى رسمه الأصلي. أليس ذلك موتا للصورة وولادة للحركة والعلامة؟ ذلك هو ما يبدو بالتأكيد أنه مسار هذه المغامرة المفتوحة على ممكنات موضوعاتية جديدة... ليس ذلك في الواقع سوى حيلة ماكرة من الفنان يتمكن من خلالها من تفكيك سلطة الكأس كي ينذره إلى الخطوط المتموجة. وهكذا فإن العديد من اللوحات تترك الكأس يغوص في اللاتحدد ويتحول إلى مجرد حركية تشكيلية متعددة. إن تحلُّلا من هذا القبيل الذي يغزو اللوحة انطلاقا من عمل تشكيلي تتحلل معه النقطة نفسها لتغدو لطخة، وخطوطا متوالدة ومتكررة ومتعددة اللون، يذكرنا في آخر المطاف بتجربة الحدائق المتخيلة، مع كثافة ملحوظة وإحساس بالحرية وضرورة المحو والنسيان والتجدد. لنذكِّر في هذا السياق بأن بوجمعاوي يشتغل تبعا لعملية مشهدة mise en scène لأعماله نفسها. لهذا فإن هذا المعرض سيعرف لا محالة عرض العديد من المتواليات الثنائية والثلاثية التي تعلن عن تنظيم معين للمعنى والتلقي في الآن نفسه. فثمة متوالية من الأعمال الكبيرة المخصصة لحبوب الشاي ستشكل ما يشبه الجدار بحيث إن تلاوين الأغمر والأسود والبني والأسمر التي تحتضنها حبة الشاي اليابس، سوف تحول الأحادية اللونية إلى ذبذبات من الإشراقات التي تكاد لا تدرك. ذلك أن الشاي يمكِّن من هذا الانتقال، باعتباره نقطا طبيعية تستعيدها الفرشاة على سبيل المحاكاة، وباعتباره حركة- منشأة تضيع في حمأة منجزة performance يستعيدها الفنان: جبل من حبوب الشاي، إنه لأمر ممكن ! أما جدار الشاي، فهو يؤسس لضيافة عبارة عن شاشة مخملية ودرع ضد عوادي الزمن والإنكار وإغلاق الأبواب في وجه الآخر. فمن النافذة التي كانت تطل على المحيط (في المرسم القديم)، إلى هذا الفضاء الجديد المفتوح على السماء (في المرسم الجديد)، يأتي غياب المحيط عن النظر كي ينطبع على اللوحة، كما لو كان استثارة لنظرة تستبطن الخارج. والبحر لا يزال هنا حاضرا في غيابه. وأفقه لا يزال دعوة للترحال. لكن هذه المرة في أعماق ذات منصتة لبواطنها ولإيقاع الأمواج...