تذكير.. هذا موعد الرجوع للساعة القانونية للمملكة استعدادا لشهر رمضان    المغرب التطواني ينهزم أمام ضيفه الدفاع الحسني الجديدي    اختتام رالي "باندا تروفي الصحراء" بعد مغامرة استثنائية في المغرب    منتخب أقل من 17 سنة يهزم زامبيا    فاجعة.. حريق يودي بحياة 5 أطفال بسبب شاحن كهربائي    الملك محمد السادس يهنئ العاهل السعودي    انطلاق مبادرة "الحوت بثمن معقول" لتخفيض أسعار السمك في رمضان    توقيف عميد شرطة متلبس بتسلم رشوة بعد ابتزازه لأحد أطراف قضية زجرية    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    توقعات أحوال الطقس ليوم الاحد    الأمن يوقف فرنسيا من أصل جزائري    أخنوش يتباحث بباريس مع الوزير الأول الفرنسي    تجار سوق بني مكادة يواجهون خسائر كبيرة بعد حريق مدمر    "مهندسو طنجة" ينظمون ندوة علمية حول قوانين البناء الجديدة وأثرها على المشاريع العقارية    المغرب بين تحد التحالفات المعادية و التوازنات الاستراتيجية في إفريقيا    رئيس الحكومة يتباحث مع الوزير الأول الفرنسي    فرنسا.. قتيل وجريحين في حادث طعن بمولهاوس (فيديو)    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    الصويرة تحتضن النسخة الأولى من "يوم إدماج طلبة جنوب الصحراء"    غرق ثلاثة قوارب للصيد التقليدي بميناء الحسيمة    البطلة المغربية نورلين الطيبي تفوز بمباراتها للكايوان بالعاصمة بروكسيل …    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    نهضة بركان تسير نحو لقب تاريخي    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    تشبثا بأرضهم داخل فلسطين.. أسرى فلسطينيون يرفضون الإبعاد للخارج ويمكثون في السجون الإسرائلية    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    لاعب الرجاء بوكرين يغيب عن "الكلاسيكو" أمام الجيش الملكي بسبب الإصابة    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط محاولة تهريب مفرقعات وشهب نارية بميناء طنجة المتوسط    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    الصحراء المغربية.. منتدى "الفوبريل" بالهندوراس يؤكد دعمه لحل سلمي ونهائي يحترم سيادة المغرب ووحدته الترابية    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    فيديو عن وصول الملك محمد السادس إلى مدينة المضيق    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    من العاصمة .. الإعلام ومسؤوليته في مواجهة الإرهاب    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دَلالَات الخِمَارِ بين ثُنائية "الإِخْفاءِ والإظْهارِ"

قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا صنعت براهب متعبد
المقدمة:
مما لاشك فيه أن الإنسان منذ غابر الدهور قد اهتم باللباس، وهذه الأهمية لم تكن على أساس بعده الوظيفي فحسب، وإنما كذلك باعتباره علامة، خاصة وأن هذه الأخيرة دائما ما تختبئ خلف الاستعمال أو الوظيفة (1) فاللباس قد يكون علامة على انتماءٍ أوقد يصبح رمزا لفكرة. ونظرا لهذا الاهتمام المزدوج، كان لزاما على الواصف لظاهرة التَّزَيي ألا يقف مع الأشكال الظاهرة، وإنما عليه تجاوز ذلك ليَسْتَكنه عمقها، ويبحث في دواخلها حتى يتسنى له الوصول إلى العمق فيرى المخفي وراء الوظيفة، والذي ليس سوى تلك الدلالات أو التمثلات التي يوحي بها ''لباس الخمار'' من خلال رمزية العلاقة بين الثنائية الضدية: الظاهر/ الخفي .
وبما أن دراسة أي ظاهرة بشرية لابد أن تتم عبر اللغة، كان من الواجب علينا وصف هذا اللباس في بعده المعجمي منطلقين من تمثل اللغة للباس الواقعي وليس اللباس الواقعي في ذاته لأن اللغة ليست نسخة عن الواقع(2)
وأحب التنبيه أن دراستنا ستعتمد منهجا تحليليا ينطلق من البعد الدلالي لباس اللغة، كما لا نسى أن نقول بأن ما يتضمنه هذا المقال ليس سوى شذرات أفكار لها القدرة على تحفيز القاريء كي ينظر للموضوع من زاوية أخرى، كما أنني لا أدعي أن ما قررته هنا له صبغة دينية أو شرعية فأنا هنا لست رجل دين يحلل أويحرم، ولست واعظا يرغب ويرهب وإنما حسبي بسط الفكرة.
أولا الدلالة المعجمية، والحقل المعجمي للفظة ''الخمار'':
أورد صاحب اللسان تعريفا للخمار وهو أن :''الخمرةُ: هَيْئَةُ الِاخْتِمَارِ؛ وَكُلُّ مُغَطًّى: مُخَمَّرٌ.''(3) و '' الخمار ماتغطي به المرأة رأسها.. والخِمْرَةُ: مِنَ الخِمار كاللِّحْفَةِ مِنَ اللِّحَافِ. . وتَخَمَّرَتْ بالخِمار واخْتَمَرَتْ: لَبِسَتْه، وخَمَّرَتْ بِهِ رأْسَها: غَطَّتْه. وَفِي حَدِيثِ أم سَلَمَةَ: أَنه[الرسولصلى الله عليه وسلم] كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الخُفِّ والخِمار، أَرادت بِالْخِمَارِ الْعِمَامَةَ لأَن الرَّجُلَ يُغَطِّي بِهَا رأْسه كَمَا أَن المرأَة تُغَطِّيهِ بِخِمَارِهَا، وَذَلِكَ إِذا كَانَ قَدِ اعْتَمَّ عِمَّةَ الْعَرَبِ فأَرادها تَحْتَ الْحَنَكِ فَلَا يَسْتَطِيعُ نَزْعَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَتَصِيرُ كَالْخُفَّيْنِ'' (4)
بناء على هذا التعريف يتضح أن الخمار وسيلة لتغطية الرأس، وأنه لايختض بالمرأة، إذ يمكن للرجل أن يختمر بعمامته، لهذا فسمة الخفاء والستر موجودة فيه. كما أن هذا المصطلح يدخل في تعالقات وترابطات مع ألفاظ مقاربة تنتمي للحقل المعجمي نفسه، وسنختار هنا ثلاثة ألفاظ دالة على أن هذا اللباس وسيلة للإخفاء وهذه الكلمات هي:
*النقاب: ''والنِّقابُ: القِناع عَلَى مارِنِ الأَنْفِ، وَالْجَمْعُ نُقُبٌ.. والنِّقابُ: نِقابُ المرأَة.. والنِّقابُ عَلَى وُجُوهٍ؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذا أَدْنَتِ المرأَةُ نِقابَها إِلى عَيْنها، فَتِلْكَ الوَصْوَصَةُ، فإِن أَنْزَلَتْه دُونَ ذَلِكَ إِلى المحْجِرِ، فَهُوَ النِّقابُ، فإِن كَانَ عَلَى طَرَفِ الأَنْفِ، فَهُوَ اللِّفَامُ. [و]..أَنَّ إِبداءَهُنَّ المَحَاجِرَ مُحْدَثٌ، إِنما كَانَ النِّقابُ لاحِقاً بِالْعَيْنِ، وَكَانَتْ تَبْدُو إِحدى الْعَيْنَيْنِ، والأُخْرَى مَسْتُورَةٌ، والنِّقابُ لَا يَبْدُو مِنْهُ إِلا الْعَيْنَانِ، وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَهُمُ الوَصْوَصَةَ، والبُرْقُعَ، وَكَانَ مِنْ لباسِ النساءِ، ثُمَّ أَحْدَثْنَ النِّقابَ بعدُ .''(5)
ونثبت هنا أمران؛ الأمر الأول أن النقاب يشترك مع الخمار في صفة ستر وإخفاء الرأس، والأمر الثاني أن النقاب محدث لأن النساء كن يخفين محاجر العيون، أو يظهرن عينا واحدة،أي كن يتبرقعن، على خلاف النقاب الذي تظهر منه العينان معا.
*الحجاب: جاء في مادة ‘‘حَجَب'': ‘‘الحِجابُ: السِّتْرُ. حَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْباً وحِجاباً وحَجَّبَه: سَترَه.. وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قَدْ سُتِرَتْ بِسِترٍ.''(6) وعليه فالحجاب أيضا مادة للستر والإخفاء إلا أن هذا الأخير يشمل الجسد كله ،من خلال التستر في البيت أو خلف الجدران وشاهد ذلك ما قُرر في تفسير الآية 53 من سورة الأحزاب أنه ''إذا سألتم أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن؛''(7) ،كما أنه شيء يضاف إلى النقاب، وقد ارتبط في محكم التنزيل بزوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى هذا المعنى أشارت بعض التفاسير : ''وَقَوله: {فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} أَي: من وَرَاء ستر. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يكن يحل بعد آيَة الْحجاب لأحد أَن ينظر إِلَى امْرَأَة من نسَاء النَّبِي، منتقبة كَانَت أَو غير منتقبة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {من وَرَاء حجاب} وروي أَن عَائِشَة كَانَت إِذا طافت ستروا وَرَاءَهَا.''(8)
* واللفظ الثالث الذي وقع عليه اختياري هو البُرْقُع، وهو:''خُرَيْقَةٌ تُثْقَبُ لِلْعَيْنَيْنِ تَلْبَسُهَا الدَّوَابُّ وَنِسَاءُ الْأَعْرَابِ،، (9) وقد أشرت قبل قليل إلى وجهي الشبه و الاختلاف مع النقاب، كما لا أريد أن أقف عند الربط بين وضعه على رأس النساء وبين إلباسه للدواب*.
لقد كانت غايتي من عرض هذه المعاني المعجمية الإشارة إلى موقع الخمار من المصطلحات الشائعة والقريبة منه، ولأؤكد حضور ثنائية؛ الخفي/ الظاهر.
ثانيا الخفي المقدس:
لن أكون مجازفا إذا قلت أن الخفي هنا قد يستمد دلالته من كل معاني الخفاء، وهكذا يصبح الخمار ذلك اللباس الساتر الذي يغطي البدن ويخفي عورته المرتبط بالجسد علامة تمنحه صفات يتصف بها كل محجوب يثير الرهبة أو يحرك الرغبة، كصفة الخفاء في الإله الجامعة بين الصفتين، في حين أن خفاء عالم الجن يثير الرهبة والخوف.
وبما ن الخفي دائما ما ترتبط صورته بفكرة المقدس أو الشيء المرعب أو الخارق للعادة،أو الشيء المثير، يصبح في الإمنان عقد المقارنة الآتية :
مرتدية الخمار
+ ذات موجودة حاضرة
+ محجوبة + مجهولة صورة بالنسبة للأجنبي
+ تثير تمثلات نفسية + صفة الطهارة
صورة الإله
+ ذات موجودة
+ لا يرى +لا تعرف له صورة
+ يثير تمثلات نفسية + المقدس
ومن هنا يتبين أن الذات البشرية المحجوبة، تستمد من التخفي معنى صفة المقدس، لاشتراكها معه في العناصر المحدد آنفا، ولا نعني هنا أن ثمة تطابقا تاما بينهما، حاشا وكلا، وإنما المقصود أن التابع دائما ما يكتسب صفات المتبوع؛ فإما يتمثلها بنفسه، أو تنطبع عليه بشكل تلقائي.
ثالثا الظاهر دليل على الخفي:
إذا كانت المرأة ''المحجوب /المستور'' قد تحاكي بعض صفات الألوهية المقدسة، فإنها بالموازاة مع ذلك، واعتبارا لكونها ذاتا بشرية، لابد لها من حضور ذاتي تُرى من خلاله حقيقة متجلية للعيان، وقد تكون هذه هي نقطة الاختلاف بين الإله الذي لا يرى إلا من خلال الآثار الدالة عليه، وهذه الآثار ليست جزءا منه وإنما هي من صنعه وإبداعه، وقد تعرف من خلال وسطاء وهم الرسل، وبناء على هذه المقدمة يمكن أن نجعل الظاهر من المرأة (العيون الكفان الصوت...) بمثابة الرسول الذي يُنبِئ بما لاتدركه الحواس.
وسنركز في هذا السياق على المقارنة بين العين، باعتبارها جزءا من المرأة، والرسول كذات تابعة لذات أخرى، وبذلك تكون المقارنة على هذا الشكل:
العيون
+جزء من الذات + تحمل صفة صاحبتها
+ تخبر عن انفعالاتها + مدركة للعيان
الرسول
+ تابع للذات الإلهية + يحمل صفاتها الروحية
+ مدرك للعيان + يخبر عن الذات الإلهية
والنتيجة الثانية التي سنسجلها هنا في أن الخفي يوحي بالمقدس، أما الظاهر فينصرف وصفه على معنى التابع للمقدس (الرسول مثلا)، وهذا الأخير هو الظاهر المعد لكي يكون دليلا على الخفي، كما أن الظاهر من المرأة المرتدية خمارها، دليل على صفات الحسن أو القبح فيها، وما غاب حسا كان حاضرا معنى، أو كان كصورة نفسية متمثلة في المخيلة.ولتتضح الفكرة سنقدم مثالا عمليا مستمد من الواقع، فقد ورد في بعض المعاجم اللغوية العربية القديمة ما يدل على اعتماد العرب علامات يستدل بها على بعض الصفات الخُلُقية أو الخِلْقية الخاصةىبالمرأة المخمرة، ومن هذه العلامات الصوت وأثر وطئها الأرض،'' [ف]إذا حَسُنَ من المرأةِ خَفِيَّاها، حَسُنَ سائِرُها، يعني: صَوْتَها وأثَرَ وَطْئِها الأرْضَ.'' (10)''لأنَّها إِذا كانتْ رَخِيمَة الصوْتِ دلَّ ذلكَ على خَفَرِها، وَإِذا كانتْ مُتقارِبَة الخُطا، وتَمَكَّنَ أَثَرُ وَطْئِها فِي الأرْضِ دلَّ ذلك على أنَّ لَها أَرْدافاً وأَوْراكاً.''(11)
فتأمل كيف كانت العرب تستدل على الخفي بالأثر الظاهر ، وليتضح لك وجه المقارنة أكثر نورد قولا صريحا في هذا الباب عبر من خلاله ابن حزم الأندلسي عن فكرة إنابة العين عن الرسل فهو يقول '' واعلم أن العين تنوب عن الرسل، ويدرك بها المراد، والحواس الأربع أبواب إلى القلب، ومنافذ نحو النفس، والعين أبلغها و وأوضحها دلالة...'' (12)
وقد تقول ما علاقة الرسل المشار إليهم في قول ابن حزم بالعين ؟ ألا تعلم أنه يقصد بهم رسل الحب وسفراؤه ؟
وأَرُد هنا فأقول أن مقصودي من إيراد فكرة ابن حزم أن اثبت وجه الشبه بين العين والرسل والمتمثل في صفة الوساطة والإبلاغ ، وليس غرضي منها تأكيد صفة القداسة المجسدة في رسل الله، فكلا هما ظاهران يستدل من خلالهما على الخفي.
رابعا الخفاء والخيال:
بناء على النتائج السابقة يجوز لنا أن نؤكد، ولو بشكل نسبي، الفكرة القائلة ''أن ماخفي كان أعظم'' ،فالظاهر أقل أهمية من الخفي، ولا عجب في هذا، فالمستور (فكرة مجردة ذات) يحفز فينا القدرة على الخيال الذي نُغْمَرُ من خلاله في عالم من المثاليات الحالمة، ،وعلى خلاف ذلك نجد أن المادة المجسدة، والفكرة المتجلية للذهن غالبا ماتكبح جماح المخيلة فتجعلها أمام واقع محدود الصور والأشكال. وقد فطن ابن حزم لهذه الإشارة اللطيفة حينما قال:'' وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى من لم يرَ لابد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها، وعينا يقيمها نصب ضميره، لا يتمثل في هاجسه غيرها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المعاينة يوما ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية.'' (13)
ويترتب عن هذه الفكرة نتيجة مهمة، وهي أنه بقدر ما يكون الشيء الذي يتم إظهاره مثيرا بقدر ما تزيد إثارة ما ليس بظاهر، كما يكون الإظهار فعلا قصديا الغاية من ورائه جعل المستتر أكثر عظمة، كواجهة المنزل التي قد يتكبد أصحابه عناء زينته وزخرفته في محاولة للإيحاء بجماله من الداخل، ولا يعني ذلك بالضرورة أنه جميل من الداخل ، وبالمهم عندنا أن تعرف أن ما يرى يصير مع الوقت مبتذلا، بل قد يصبح ملغيا من قبل الحواس فهي تراه ولا تراه .
خامسا الحقيقة من زاوية نظر موضوعية:
أول ما ينبغي التنبيه إليه هنا وهو أن كل الدلالات التي وقفنا عندها من خلال ثنائية الخفي/ الظاهر، تندرج ضمن دلالة الإيحاء التي تختلف باختلاف الأفراد، كما تمتد أو تتقلص بحسب قوة مخيلة المتأمل وقدرته على الاستنباط، وإذا تقررت هذه الفكرة فدعنا نبني عليا هذه النتائج :
أن المخفي ليس دائما، كما ترسخ في الذهن ، بتلك العظمة أو الهيبة أو الجمال، فقد يكون الظاهر أجمل مما خفي، خاصة إذا ربطنا الفكرة باللباس الذي قد يخفي به المرء سوأته، وقد يتفاعل الضدان لمنح الجسد جمالا ورونقا، فقد جاء في اللسان:
‘‘وشَبَّ لَوْنَ المرأَةِ خِمارٌ أَسْوَدُ لَبِسَتْهُ أَي زَادَ فِي بياضِها وَلَوْنِهَا، فحَسَّنَها، لأَنَّ الضِّدَّ يَزِيدُ فِي ضِدِّهِ، ويُبْدي مَا خَفِيَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشْياءُ''(14)
أن إثارة المخفي في الخمار أساسها اعتقادات وهمية تأسست انطلاقا من الوعي الجمعي للإنسان، والغرض منها الترويج لفكرة أو لشيء، وحسبنا الإشارة هنا إلى قصة مسكين الدارمي الذي نظم أبياتا في الخمار الأسود ملبيا بذلك رغبة التاجر الذي أراد الترويج لسلعته، فكان رد فعل النساء أن تهافتن على شرائه؛(15)
إن فكرة ‘‘الممنوع مرغوب'' تنطبق على هذه الحالة، فالممنوع يتمثل في حجب الجسد وستره، والمرغوب فيه هو أن يتجلى ما منع النظر إليه للعيان، والغريب في الأمر أن الستر لا يكف الغريزة ولا يوقف حركتها إلا إذا وافق نفوسا تعففت معنى وفكرا قبل أن تتعفف حسا، وأختم هنا برأي يزكي فكرتنا، وهو رأي لجلال الدين الرومي، والذي قد يبدو راديكاليا بالمقارنة مع الآراء السائدة في تلك الفترة، حيث يقول : ‘‘كلما أمرت المرأة أن‘‘ احتجبي‘‘ ازداد تلهفها إلى أن تُظهر نفسها، وازدادت رغبه الخلق بتلك المرأة بسبب احتجابها. وهكذا تجلس أنت في الوسط، وتزيد الرغبة عند الطرفين كليهما، وتظن أنك تصلح. ذلك عين الفساد. إذا كان لديها جوهر يمنعها من أن تفعل فعلا سيئا، فسواء أمنعتها أم لم تمنعها ستمضي وفق طبعها الجيد وجبلتها الطاهرة.. وإذا كانت على عكس هذا، فستظل تمضي في طريقها أيضا؛ لا يزيدها المنع إلا رغبة، على الحقيقة.''(16)
الخاتمة:
لاشك في أن قارئ السطور التي احتواها هذا المقال أن يخرج بالفائدة، كما أنه ولا بد ستساعده النتائج المتوصل إليها على تغيير نظرته للموضوع المثار فيه، فيخرج بذلك من الرؤية النمطية التي عملت الإيديولوجيات على ترسيخها في أذهان أصبحت مبرمجة على أفكار عدوها من قبيل المسلمات.
ولا أنسى تأكيد فكرة القصد والتعمد في إظهار الجسد أو إخفائه بواسطة اللباس، فلا يمكن اعتبار السلوك الإنساني مع اللباس فعلا بريئا، وإلا لما اختلفت الأزياء ولما كان هناك إقبال وتهافت على المودا.
أعرف أنه لن يكون من السهل على البعض استساغة بعض الأفكار التي قررها المقال، ولهؤلاء أقول إنه ليس من الضروري أن تقبلوا كل ما يقال، فحسبكم إعمال فكركم في الموضوع، وأن لا تقيموا حواجز بينكم وبين كل فكرة جديدة، وأن تتذكروا دائما أن الإنسان عدو لما يجهل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.