السفر بين حد الحضور وحد الغياب في تقديمه لاحتفالية (يا مسافر وحدك) يقول كاتبها الاحتفالي ( في الاحتفالية المسرحية يختبئ المعنى التالي، وهو أن ما هو بعيد هو الذي يظهر دائما للعين أحسن، وأن هذا الواقع بكل وقائعه المألوفة والمعروفة لا يمكن أن يدرك جوهر الحقيقة، إلا عندما تصل فيه المظاهر والظواهر والحالات والمشاهدات، أقصى درجاتها الممكنة، وأن يكون من حقنا أن نقول عنها ( هي أغرب من الخيال) ومشاهد كثيرة جدا، في هذه الاحتفالية المسرحية الغريبة والعجية، هي فعلا ( أغرب من الخيال) وعبد المجيد فنيش هو المسرحي الذي قدم ويقدم دائما لضيوفه واقعا مسرحيا أغرب من الخيال، ولكنه بالتأكيد قريب جدا من روح العيد ومن روح الاحتفال والاحتفالية، في معناها الحقيقي، هي أساسا طريق وجودي في التاريخ، وهي طريق في عالم تعددت فيه الطرق المذهبية والدينية والفكرية والوجدانية والأخلاقية، والسعيد السعيد هو من عرف طريقه، وهو من سار فيه، وهو من سجل خطواته على هذا الطريق، ولعل أجمل كل الطرق وأشرفها وأنبلها هو طريق الحق والحقيقة، وهو طريق الجمال والكمال، وهو طريق الإنسان والإنسانية، وهو طريق الحياة والحيوية، وهو طريق المدينة والمدنية، وهو طريق الجمال والكمال، وهو طريق العيد والاحتفال، وهذا هو الطريق الذي اخترناه ، أو اختارنا، أو اختارنا القدر الحكيم من اجل أن نمشي فيه، وأن نحيا فيه وبه، وأن نجد فيه من اهلنا وصحبنا ورفاقنا من يشبهنا ونشبهه، ومن يكمل نقصنا، ومن يصحح أخطاءنا، ومن يعطي للسفر الوجودي معنى وجوده معنا، واذا كان الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر يقول بان الجحيم هو الآخر، فان الاحتفالي، عكسه تماما، يقول بان السجن هو غياب الآخر، وبان الغربة هي وجود ذلك الآخر الذي لا يعرفنا ولا يفهمنا، وبهذا فقد امكن لنا في الأسرة الاحتفالية أن نقول ما يلي، بأن روح الرفقة الروحية، في الطريق الفكري والجمالي والأخلاقي، هو الذي كان وراء تأسيس جماعة المسرح الاحتفالي سنة 1979 وذلك بمدينة احتفالية اسمها مراكش، وبالتأكيد، فان تلك الجماعة المؤسسة لم تكن مطلوبة لذاتها، لأن مهمتها كانت هي أن تصبح تلك الجماعة مجتمعا، وأن تصبح الاحتفالية فلسفة الإنسان في كل زمان ومكان، وأن يكون لهذه الاحتفالية اسم يدل عليها، والذي هو فلسفة التعييد الاحتفالي عبد المجيد والطريق إلى العيد والاحتفال وعبد المجيد فنيش، الانسان والفنان، هو واحد من رفاق الطريق، الصادقين والأوفياء، وهو واحد من الذين بنوا الطريق الاحتفالي، في الفكر والفن وفي العلم والصناعات الإبداعيةالمختلفة، وهو واحد من أولئك السيزيفيين الذين دفعوا صخرة الاحتفالية إلى الأعلى وإلى الأسمى وإلى الأبعد وإلى كل الناس في كل زمان ومكان ولعل من أجمل ما قدم هذا المسرحي، الموسوعي والشامل، احتفالية مسرحية اسمها ( يا مسافر وحدك) وذلك مع مسرح الأوركيد بمدينة بني ملال، وعبد المجيد فنيش هو ذلك الاحتفالي الذي لا يسافر وحده، إيمانا منه بأن الحياة سفر، وبأن السفر حياة، وبأن هذه الحياة هي فعل جماعي واجتماعي، في حين أن الموت هو فعل(أناني) فردي، وعبد المجيد فنيش هو كائن اجتماعي وثقافي، وفي روحه ووجدانه يلتقى الشرق والغرب، ويلتقى الحلم والعلم، ويلتقي الفن والفكر، ويلتقي التاريخ والواقع، ويلتقي الحكي والمعيش، ويلتقي النور والظلام، ويلتقي الكلام والنغم، وهو في مسرحه لا يمرر علما، ولا يهرب فكرا، ولا يصدر رأيا، ولا يصادر أي رأي مختلف ومخالف، وفي تقديم احتفالية ( يا مسافر وحدك) يقول الكاتب الاحتفالي (في هذه الكتابة الاحتفالية، وبلسان كل الشخصيات فيها، فإنني أقول ما يلي: إنني ما أوتيت من العلم إلا قليلا، وبأنني لا أعرف شيئا كثيرا، وجميعنا نقول لا نعرف، وجميعنا يخيفنا ويرعبنا ذلك الشيء الغامض والملتبس الذي لا نعرف، وكلنا في مسرح هذه الكتابة نسعى من اجل أن نعرف، ومن أجل أن ندرك على الأقل ما معنى أن نسافر؟ وإلى أين يمكن أن نسافر؟ ولماذا يسافر كل مسافر في قطار الحياة وحده؟ ولماذا يسافر هو ويبقى المكان وحده؟ ولماذا يسافر ويبقى من يحب ويهوى وحده؟) وحتى ندرك معنى السفر، في هذه الاحتفالية المسرحية، فإنه ينبغي قراءة ذلك الإهداء الذي جاء في مقدمة الكتاب، والذي نشرته دار إيديسوفت بمدينة الدارالبيضاء، وفي هذا الإهداء يقول الكاتب الاحتفالي (إلى التي سافرت وحدها إلى روح الحاجة فاطمة الوالي، أمي أمنا إلى المرأة التي لم تهدنا، نحن أبناءها الخمسة الذكور: الحسين وعبد الحفيظ وإدريس ونور الدين وعبد الكريم لم تهدنا أخنا لنا فكانت هي أختنا الكبرى، وكانت أمنا، وكانت صديقتنا وكانت ابنتنا الطفلة، واتي ظلت دائما طفلة وأبرز ما يميز هذه الأنثى الأم هو روح الطفولة فيها وقد عاشت للبهجة والفرح وحدهما وكانت احتفالية دائما، بغير تفلسف، وبغير بيان احتفالي وقد عاشت هذه الاحتفالية، في حياتها اليومية من ألفها إلى ما بعد يائها، وذلك قبل كل الاحتفاليين فإلى روحها الطاهرة أهدي هذه الرحلة المسرحية) عبد المجيد فنيش من يكون؟ هم يقدمونه عادة، في الكتابات النقدية، بأنه فقط مخرج مسرحي، وهل هو فعلا كذلك؟ بالتأكيد هو أكبر وأخطر من ذلك بكثير، لأنه أولا إنسان كامل الإنسانية، ولأنه ثانيا مواطن كوني، عاقل ومسئول، ولهذا يمكن أن نقول عنه بأنه فنان برتبة مفكر، وهو مفكر بدرجة حكيم، وهو حكيم بدرجة صانع، وهو صانع بدرجة ساحر ، وهو ساحر بدرجة عراف، وهو عراف بدرجة متنبئ وقد يختلفون في كل شيء حوله، إلا في الأشياء الأساسية والجوهرية والحيوية التالية، وهي أنه صاحب رأي ورؤيا، وأنه فنان تلتقي في روحه ووجدانه كل الفنون، وهو إنساني النزعة، وهو مواطن مدني برؤية احتفالية وعيدية جديدة ومتجددة دائما، ومن يتربى مثله في مدينة احتفالية تسمى سلا، لا يمكن أن يكون إلا احتفاليا بالضرورة وأن يكون عيدي العقل والروح والنفس والوجدان، وأن يحيا مع الناس لا مع الحجارة وعبد المجيد فنيش، مغربيا وعربيا، هو اسم معروف ومألفوف، ومع أنه قريب جدا مني ومن كوني ومن عالمي، فإنني لا أزعم بأنني أعرفه، ولا أظن أنه هو أيضا، يمكن أن يزعم بأنه يعرف نفسه، وذلك في شموليتها وفي كليتها، وفي سكونها وحركيّتها، وفي كل محطاتها المتعددة والمتنوعة، ويعرفها في أية حالة؟ وفي أية صورة؟ وفي أي عمر؟ وعند أية درجة؟ وفي أية محطة؟ ومن أية زاوية؟ فهو مجرى النهر الثابت، وهو مياهه المتغيرة والمتجددة بشكل دائم، وبهذا فيمكن أن نتحدث عن أكثر من عبد المجيد فنيش واحد، وذلك في أكثر من زمن واحد، وفي أكثر من حال واحد ولأن هذا الفاعل المسرحي، هو أساسا حالات وجود متحركة، وذلك في فضاء هذا العالم المتحرك، فإنني أراه وأتمثله شخصية أسطورية، وأكتفي بأن أقول فيه ما يلي: هو سيزيف المسرح المغربي والعربي والكوني الحديث، وذلك في تعدد وتمدد هذا المسرح، وفي تنوعه وتجدده أيضا، وفي تياراته وكدارسه، وفي حرارته وجرأته، وفي إنسانيته وكونيته اللامتناهية هو سيزيف الجديد الذي دفع صخرة هذا المسرح إلى الأعلى وإلى الأسمى وإلى الأبعد وإلى الأرقى وإلى الأجمل وإلى الأكمل وإلى حيث ينبغي أن تكون، وهو في البدء شاعر، بروحه ووجدانه، قبل أن يكون شاعرا بكلامه وبكلماته وبجرسه وقوافيه، هو شاعر إذن، وجد أن الشعر اللفظي وحده لا يكفي، فكان أن أصبح فنانا شاملا، وكان في فنه شيء كثير من الشغب ومن الحلم ومن الاحتراق ومن الاختراق ومن الهذيان الخلاق ولقد وجد هذا الشاعر الفنان، أن عالم هذا الفن وحده بكل روافده وأدواته وتقنياته ومدارسه، لا يكفي، فكان أن فكر في شرطه الوجودي، وفكر في وضعه الاجتماعي، وفكر في شعريته قبل شعره، وفكر في حياته الشخصية، وفكر في مسار وحياة فنه، وفكر في قضايا عالمه وكونه، وفكر في طبيعة العلاقات الإنسانية، القديمة والجديدة معا، وكان طبيعيا أن يصبح مفكرا، وأن يكون في تفكيره فنانا، وأن يكون في فنه مفكرا، وأن يكون عرافا وحكيما وحكواتيا ومهرجا ساخرا، وان يكون ساحرا أيضا وبالتأكيد فإن وجود فن بلا أسئلة، وبلا مسائل، وبلا قضايا فكرية حقيقية، قد يكون صناعة صانعين ومتصنعين فقط، ولكنه أبدا لا يمكن أن يرقى إلى درجة الفن الحقيقي، أي الفن الشامل والمتكامل، والذي يخاطب في الإنسان جسده، ويخاطب نفسه وروحه ووعيه ولا وعيه أيضا، ولقد ارتقى هذا الفنان المفكر إلى درجة المسرح، والتي هي أعلى درجات الفنون والفكر والعلوم والصناعات المختلفة، لأن المسرح عوالم وليس عالما واحدا، وهو عوالم سحرية مركبة تلتقي فيها الأجساد والأرواح المبدعة والخلاقة، ويلتقي فيه الكائن والممكن والمحال، ولقد وجد عبد المجيد فنيش نفسه ومن حيث لا يدري مواطنا في مدن المسرح التي يلقي فيها الواقعي والحلمي والوهمي والحسي والحدسي والمتخيل، وهذا ما يفسر أن يكون في مسرحه كثير من الشطح الصوفي، ومن الدرامية ومن الغنائية ومن السفر و الرحيل نحو المدن السحرية الفاضلة لقد اختار هذا الفنان أن يكون فكره مجسدا في أجساد حية، وأن يكون مشخصنا في شخصيات مسرحية مقنعة وممتعة، وأن يكون مسرحه متجليا في حالات ومقامات ومواقف، وأن يكون مركبا في أحداث ومشاهد حية مدهشة، وبهذا فقد كان قدره أن يصبح مسرحيا في مسرح الدنيا، قبل أن يكون مسرحيا على الخشبة المسرحية فقط، لقد أبدع مسرحيات كثيرة جدا، ببلاغات شعرية متنوعة، ولقد كانت أصدق وأجمل كل مسرحياته هي حياته الصادقة بكل تأكيد؛ حياته الغنية بالأحداث والغنية بالحالات وبالمواقف وبالتحديات وبالعلاقات وبالقراءات وبالمحطات وبالاختيارات المبدئية الصادقة، وهذا هو الفنان المسرحي الشامل عبد المجيد فنيش عبد المجيد فنيش وسؤال أكون أو لا أكون ومثل كل الشخصيات، في عالمه المسرحي، فقد كان هو أيضا شخصية مسرحية، فهو فلا يحيا حياة واحدة، بحيث أن أعمار هذه الحياة الواحدة والمتنوعة، هي أعمار متعددة ومتنوعة بشكل كبير، ولهذا فقد كان صعبا التمييز بين حياته وحياة أفكاره، وبين حياته وحياة شخصياته، وبين حياته وحياة مسرحه، والذي هو مسرح غني لحد البذخ، وهو مسرح لا يتوقف لحظة عن البحث عن نفسه، ولا يتوقف لحظة عن طرح سؤال الكينونة وسؤال الوجود، والذي هو: أكون أو لا أكون؟ كما لم يتوقف لحظة عن طرح سؤال الهوية، والذي هو: وكيف يمكن أن أكون؟ كما أشاء أنا الصانع المبدع، أو كما يشاء لي الآخرون، وكما يريدون لي أن أكون؟ لقد اختار عبد المجيد فنيش مسرحه الخاص، والذي هو مسرح غير متقولب في قوالب جامدة، وغير متخندق في خنادق إيديولوجية محنطة، ولقد اختار لغة هذا المسرح، واختار أبجدية هذا المسرح، واختار قضاياه الفكرية الحية، واختار جمهوره الحقيقي أيضا، والذي هو كل الناس، وليس مجرد فئة أو مجرد طبقة أو مجرد شريحة حزبية أو مجرد قبيلة دون غيرها وعبد المجيد فنيش، وقبل أن يكون فنانا ملتزما فكريا وفنيا، فهو أساسا حياة وحيوية، وهو طاقة خلاقة، وهو إرادة حرة، وهو قوة ناعمة، وهو جرأة في الحق، وهو شغب جمالي جميل، وهو حضور إنساني بهي، حضور يغيب فيه الغياب، وهو أيضا شبكة علاقات إنسانية واجتماعية جميلة ونبيلة، وهو الشاب الذي لا يشيب ولا يشيخ، لأن طاقته الفكرية والوجدانية والإبداعية هي طاقة متجددة على الدوام، فهو الرجل الذي يحمل بداخله طفولة صادقة وشفافة متمددة ومتجددة في الأمكنة والأزمنة، وهو طفولة صادقة وشفافة، مجددة ومتجددة ومتمددة ومتعددة إلى ما لانهاية، وهو الفنان العاقل الذي يحمل عقل وفكر ورزانة الرجل الحكيم، ولكنه في داخله يظل طفلا يكتشف الأشياء، ويكتشف الناس ويكتشف الحياة، ويعيش شغبه الفكري والإبداعي الجميل على المسرح، وعلى مسرح الحياة، قبل ان يعيشها ويحياها على خشبات المسرح المسرحي وعبد المجيد فنيش هو الفنان المثقف، الشاهد على عصره، وهل يمكن لأية شهادة نقدية، محدودة اللغة، ومحدودة المعجم ومحدودة الرؤية، أن تفيه حقه، وأن تحيط علما وفهما بحياته وبحياة مسرحه وبحياة عوالمه واكوانه الظاهرة والخفية؟ جوابا على هذا التساؤل أقول لا أظن، لأن الشهادة، على هذا الفنان، في حقيقتها، هي شهادة على العصر بالضرورة، وهي شهادة على تاريخ المسرح أيضا، والذي هو أحد رواده وفرسانه، وهو أحد الفاعلين الأساسيين فيه، وبهذا يكون من الضروري أن أتساءل: أي تعريف يليق بفنان ومفكر بقيمة وبقامة عبد المجيد فنيش وبمسيرته ومساره؟ فهو الفنان المبدع والممتع والمقنع، وهو الشاعر والحكيم والصانع والحكواتي والمؤرخ والعراف الذي ترجم الحياة في تدفقها وفي حيويتها وفي وضوحها وغموضها، وفي زئبقيتها ومكرها إلى إبداع مسرحي حي، وهو عراف برتبة إعلامي، وهو إعلامي برتبة مؤرخ، ولقد أرخ للحياة المغربية والعربية والكونية، ولقد تحدث عن الحالات قبل الوقائع، وسجل الانفعالات قبل الأحداث، ولقد أنطق الصامت، وحرك الساكن، وأضحك العبوس، وكان ساخرا في عالم ساخر، وكان شاعرا في عالم ضيع شعريته، وكان حالما في دنيا تفتقد اليوم إلى الأحلام الجميلة والنبيلة، هو فنان متعدد الرؤية، وهو مبدع متنوع اللغات التعبيرية، وهو مجدد في الشعر والمسرح وفي الحياة، وهو إنسان متجدد بتجدد الأيام والليالي وبتجدد الشهور والأعوام، وهذا ما يفسر أن تكون مسيرته المسرحية تقارب نصف قرن، وأن يظل دائما في طليعة هذا المسرح، وفي مقدمته، وأن يظل ممسكا على جمر هذا المسرح، ولن أعدكم، بأنني سأقدم في هذه الكتايدبى – الشهادة معلومات جديدة غير مسبوقة وغير معروفة، لأن حياة هذا الفنان المبدع كانت دائما وسوف تبقى مفتوحة من كل الجهات، وأمام كل العيون المبصرة، وليس في هذه الحياة الصادقة والشفافة جانب غامض أو خفي أو ملتبس أو مهرب، لأن مسرح هذا المسرحي هو مسرح احتفالي مفتوح، هو مسرح بلا كواليس، وبلا جدران، حقيقية أو وهمية، وبلا ستارات تخفي ما خلفاها، وفي هذا المسرح لا وجود لشخص الملقن، ولقد دخل هذا المسرحي عالم المسرح، ليس من أجل أن يخفي الحقائق، ولكن من أجل أن يكشف عنها، ولقد آمن دائما أن دوره الحقيقي هو ان يملأ الفراغ الذي على الخشبة، وأن يكون ذلك بالفعل الذي له معنى، وبالحوار الذي له معنى، وبالغناء الذي يقول شيئا، والذي يعبر عن حالة من الحالات، وبهذا فهو في هذا المسرح الاحتفالي يشرك الناس في البحث عن المعنى، وهو يقتسم معهم متعة المسرح وبهجة المسرح ورسالة المسرح وحالات المسرح، ومسرحه قد كان دائما وسوف يبقى، مسرحا مفتوحا من كل الجهات، ومفتوحا على كل الناس وعلى كل القضايا، وهو لا يخفي الأسرار الممنوعة والمقموعة، ولكنه يكشفها ويفضحها، والمسرح لديه كتابة حيوية في فراغ الخشبة، هو كتابة بالأجساد المتحركة والناطقة والمعبرة، والأساس في الفعل المسرحي أنه فعل يبدأ برفع الستار، ويبدأ بتسليط الإضاءة على الجوانب المظلمة في المسرح وفي المجتمع، والمختبئة في نفوس وأرواح وعقول الناس، إن هذا المسرح هو أساسا فن وفقه البوح، وهو فن التلاقي، وفن الحوار، ومن طبيعة هذا المحاور الذي يسكن جسد عبد المجيد فنيش، أنه لا يكلم الناس فقط، ولكنه يستمع إلى كلامهم أيضا، وينصت إلى نبض نفوسهم وأرواحهم، وهو في إبداعه يظهر الجوانب القصية والخفية، ويستحضر الأجساد الغائبة، يظهر هذا في مسرحيات ظاهرها تراثي تاريخي، ولكن جوهرها واقعي حداثي وحقيقي، وقدر هذا المسرحي الاستثنائي، أنه آمن بأن المسرح هو الدنيا، وهو الحياة، وهو التاريخ، وهو الحلم،وهو الحلم، وهو الحكمة، وهو السحر الحلال، وهو الظاهر والخفي في حياة الناس اليومية، وهذا المسرح هو الشعر أيضا، وهو الفكر، وهو الفن، وهو العلم، وهو الصناعات المتضامنة والمتحدة، أي صناعة الإنسان الجديد والمجدد، عقلا ونفسا ووجدانا وذوقا وأخلاقا قبل كل شيء، وبهذا، فقبل أن يكون هذا المسرح أجسادا تتحرك على الخشبة، فهو أساسا أرواح حية خفية، أرواح يخاطب بعضها البعض، بلغة فردوسية أعلى وأسمى وأرقى وأصدق من اللغة اللفظية اليومية، والتي قد تخلو من جماليات الشعر في هذا العالم السحري والعجائبي، تمارس السلطة المسرحية فعلها، ويتم استحضار الماضي، ويتم تقريب البعيد، ويتم تحريك الساكن، ويتم إعادة الموتى إلى الحياة، ويتم التحكم في عجلة الزمن، ويتم اختزال المسافات في مكان واحد يسمى هنا، ويتم استحضار كل الأزمان في زمن واحد هو هذه اللحظة العيدية الحية الآن هنا، وفي كلمة واحدة، فإن المسرح هو الحضور، وعبد المجيد فنيش قد كان حاضرا دائما، ومعه حضرت شخصياته، وحضرت ظلال الواقع وحضرت أجوِاِؤه الواقعية والتراثية والتاريخية أيضا، وفي هذا الزمكان السحري يتم التلاقي الاحتفالي والعيدي أيضا، ويؤمن عبد المجيد فنيش بأن أناه الفرده تظل ناقصة وغير مكتملة بغير وجود الآخر، وبغير مساهمته ومشاركته وتفاعله، وهي لا يمكن أن تكتمل إلا ب ( النحنية السعيدة) نسبة إلى النحن ااجماعية، والتي هي ضد تلك ( الأنانية التعيسة) المنغلقة على نفسها، ولعل أهم وأخطر ما يميز هذه (النحنية الجماعية) هو أنها تضم الجميع، ولا تقصي أحدا من الناس، لأن المسرح هو الإنسان قبل كل شيء، وليس هو الظلال في مسرح الظل، وليس هو الدمية في مسرح الدمى، ولا هو مجرد صورة متحركة، كما في الصناعات السينمائية، ومن طبيعة هذا المسرح أيضا، والذي هو عيد النفوس وعيد الأرواح، قبل أن يكون لعبا وحكيا ومحاكاة، هو أنه رسالة قبل كل شيء، هكذا هو في شرع المسرحي الاحتفالي عبد المجيد فنيش، وما أكثر الرسائل، الجميلة والنبيلة والهادفة، في مسرح هذا المسرحي الشاعر والمفكر، ورسائله ليست موجهة لفئة من الناس، وليست موجهة لحقبة تاريخية معينة، وهي صالحة للإنسان في كل زمن ومكان ويمكن أن أقول عن هذا المسرحي الاستثنائي ما يلي، هو احتفالي وكفى، وفي هذا النعت يختبئ تاريخ طويل وعريض وعميق من الأفكار الجريئة ومن المواقف المبدئية ومن المواجهات ومن الأفكار ومن الصور ومن الشهادات والمشاهدات ومن القناعات والاختيارات، لقد انخرط هذا المسرحي في مشروع (جديد) غير مضمون العواقب، وكان يمكن أن ينتهي عند بدايته التأسيسية الأولى، فقط لأنه مارس حقه في مخالفة ما لا ينبغي مخالفته، ومارس حقه المشروع في اختيار ذاته ومساره احتفالي قبل البيانات وبعد البيانات وعبد المجيد فنيش هو احتفالي قبل أن تظهر البيانات الاحتفالية، لأن وجوده أسبق، ومسرحه سابق، ورؤيته العيدية الاحتفالية سابقة، وعندما سمينا الاحتفالية باسم الاحتفالية، فقد كان ضروريا أن تعرفه هذه الاحتفالية وأن يعرفها، وأن يجد نفسه يقول، كما قال أرخميدس من قبل : وجدتها .. وجدتها .. وجدتها وكان من حقها هي أيضا أن تقول فيه وعنه: وجدته .. وجدته، وجدته .. ولو لم يكن هذا المبدع الفنان احتفاليا، روحا وفكرا وأخلاقا، لما عاش في صفها وكنفها، ولما دافع عنها، ولما تحمل الأذى بسببها، وذلك على امتداد أكثر من أربعة عقود من زمن قرنين وألفيتين وعبد المجيد فنيش ليس مسرحيا مدرسيا، وهذه هي أم كل الحقائق في مسيرته ومساره وتاريخه، وهو لا يستظهر المعلومات السابقة، وهو لا يبدع تحت وصاية الأسلاف السابقين، ولا يحتكم للجاهز من المقولات ومن الصيغ المسرحية، وبهذا فقد كان أحد المؤسسين الأساسيين لأكبر وأخطر تيار مسرحي في العالم العربي، والذي هو التيار الاحتفالي، لقد آمن بالتفكير العلمي والفكري والفني المنفتح، ولم يؤمن بالإيديولوجيا المنغلقة على أوهامها وشعاراتها، ولقد كان ذلك في زمن غير احتفالي وغير ودي وغير متسامح وغير ديمقراطي؛ زمن تغوّلت فيه سلطة وسلطان وسطوة واستبداد وهيمنة هذه الإيديولوجيا على الثقافة وعلى عقول المثقفين والفنانين، في المغرب وفي كل العالم العربي، ويومئذ، كان الفرح ممنوعا، وكان الاحتفال مؤجلا، وكان الاختلاف غير مسموح به، وكان باب الاجتهاد الفكري مغلقا، وكان التجريب حقلا ملغوما، وكان الإيمان بالهوية المغربية والعربية والعالم ثالثية رجعية، وكان النبش في التراث تخلفا، وكان الخروج عن الصف ( العسكري) انحرافا وتحريفا، وكان السؤال الفكري هرطقة وفضولا بلا معنى، وكانت الحرية فوضوية، وكان نقد الرموز الفكرية السائدة وقاحة وإن من يجرؤ على أن يسبح ضد التيار، لا يمكن أن يكون إلا مثقفا ملعونا ومتخلفا ورجعيا، وهذا ما جعل عبد المجيد فنيش ومعه كل الاحتفاليين الصادقين يشذون عن هذه ( القاعدة) وينحازون للجمال والكمال وللحق والحقيقة، وأن يكونوا مع الإنسان في كل زمان ومكان، وأن يطلبوا الجمال لجماله، وليس لأنه آت من جهة اليمين أو من جهة اليسار، أو من الشرق او الغرب، ولأن عبد المجيد فنيش فنان حر ومتحرر، ولأنه سيد نفسه، وسيد اختياراته، وسيد عالمه المسرحي، فإنه لم يتخندق في خندق حزبي، ولم ( يبدع) تحت أية مظلة، ولم يكن صوتا في أية جوقة، ولقد فضل أن يكون صوتا من أصوات الفن والفكر والعلم والحياة والتريخ، وكان ذلك إيمانا منه بجمال وجلال الفن، ودفاعا عن كرامة الفنانين، وكان اقتناعا منه بقدسية المسرح، وبأن الأصل في الفنان الحقيقي أنه سلطة رمزية قبل كل شيء، هو سلطة غير قابلة للتفويت ولا للمقايضة ولا للمصادرة لقد آمن هذا الاحتفالي بالإنسان العاقل، وبالإنسان الحر، وبالمواطن المدني والديمقراطي، وقدم مسرحا باللغة العربية، وقدم مسرحا بالعامية المغربية، وقدم مسرحا بلغة الزجل والملحون، وقدم مسرحا بفنون محلية واقعية وبقضايا إنسانية وكونية عامة أيضا ولهذه الاحتفالية،في حياة المسرح ومسرح الحياة، لها بالتأكيد ألف معنى، ولقد كان ضروريا أن يطرح السؤال التالي: ما معنى أن تكون احتفاليا؟ وهكذا تساءلت الاحتفالية، في أحد بياناتها، ليكون الجواب هو كالتالي: معناه هو ( أن تكون مؤمنا بأن التنظير الفكري هو أساسا حالة وجودية متجددة، وذلك قبل أن يكون مكونا من مكونات هذا الجنس الأدبي أو الفني أو ذاك، أو ان يكون أرضية فلسفية لأية حركة فكرية أو جمالية، فمن طبيعة الكائن الاحتفالي أن ينظر دائما، وان يخرق نظره الأجساد والأشياء والعاني البعيدة جدا، تماما كما تنظر جدتنا زرقاء اليمامة، وأن يتم هذا النظر بالحس والحدس معا، وان يتحقق بالعين والعقل أيضا، وان نحياه بالنفس والروح كذلك، وان يكون بإمكان هذا الاحتفالي الناظر والمنظّر أن يتصور وان يتخيل وان يحلم ويرحل، على متن الخيال، وان ينشد الأجمل والأكمل دائما، وان يبني في الذهن عوالم مثيرة ومدهشة، وذلك قبل أن يبنيها على أرض الواقع، وأن تكون له الجرأة على أن يسال، وأن يبتكر الأسئلة، وان يتساءل، وعلى أن يواجه كل مسالة، وجودية كانت هذه المسالة أو كانت اجتماعية أو سياسية أو فكرية، و،هو يردد دائما، سواء أمام نفسه أو أمام الناس، ونجده يقول ويكتب: أنا أنظر، إذن فانا لست أعمى وأنا أنظر من التنظير فأنا لست أميا، ولست جاهلا، ولست معاديا للعقل) وهذه فقط صورة واحدة، من ملايين الصور الممكنة، والتي يمكن أن تؤخذ من ملايين الزوايا، والتي قد تختلف من مصور إلى آخر، ومن زاوية إلى غيرها، ولكنها في النهاية لابد أن تلتقي عند الحقيقة الأساسية التالية، وهي أن عبد المجيد فنيش هو أحد الأعمدة الأساسية الكبرى في تاريخ الثقافة المغربية، الحديثة والمعاصرة، وهو أحد الذين أسسوا وجددوا وأبدعوا وطوروا المسرح المغربي، بكل روافده الواقعية والتراثية، وبكل تقنياته وآلياته المتعددة والمتنوعة، والذي كان في هذا المسرح معلما ومربيا ومؤسسا ونقابيا وفاعلا جمعويا ومناضلا ضد كل ما لا يخدم إنسانية الإنسان، وضد كل لا يقبله العقل، ولا يقبله الحس السليم، وضد كل ما لا يتوافق مع إنسانية الإنسان ومع حيوية الحياة، ومع مدنية المدينة. عبد الكريم برشيد