دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيمياء الوجدان الكاتب والمنكتب في مختبر الوجود
نشر في العلم يوم 10 - 03 - 2011

يقول أدونيس ( تأكد لي أن النص مهما كان عظيما حين يمر في عقول صغيرة يصغر، وحين يمر في عقول كبيرة يكبر ) 1
ولقد تأكد لي أنا أيضا، ومن خلال عقود طويلة عشتها مع كيمياء الكتابة، أن ما يكتبه المؤلف ليس هو نفس ما يقرأه القارئ، وعرفت أن نص هذا القارئ هو دائما نص آخر مختلف ومغاير، وقد يكون ذلك النص الممكن أكبر أو أصغر، وقد يكون أوسع أو أضيق، وقد يكون أحسن أو أسوأ، وفي كل الحالات، فإنه لا يمكن أن يكون هو نفس النص الأول، والذي يتعدد بالقراءات المتعددة، ويتمدد في اللحظات المتمردة، والذي يمكن أن يتجدد أيضا، وذلك بتجدد الحالات، وبتجدد المواقف والمقامات،وأتمنى لهذه الكلمة أن تصادف عقولا كبيرة، وأن يكون حظها في عالم الكلمات والعبارات أحسن من حظي أنا في عالم الناس والحجارة، ولأنني متفائل دائما، ولأنني محكوم بالأمل العاقل، فإنني أتوقع لها خيرا، ولذلك، أجد نفسي التي تسكنني وأسكنها، تقول لي ما يلي:
كان هناك بدء بعيد جدا، وفي ذلك البدء الهارب كانت الدهشة حاضرة، ومعها كان الإحساس الصادق بالدهشة حاضرا معها، ولقد كانت هذه الدهشة أكبر مني، وكانت أطول من قامتي، وكانت أسرع من خطواتي، وكانت أبلغ من بلاغتي، وكانت أفصح من فصاحتي، لقد كانت بحجم هذا الكون وبعمق هذا الوجود وبغنى هذه الحياة، ولم أجد شيئا أكبر من دهشتي إلا جهلي وأميتي وغربتي في هذا العالم الغريب، ووجدت نفسي أعيش متعة دهشتي، وأعيش حرقتها أيضا، لقد اندهشت أمام نفسي، جسدا ونفسا وروحا،واندهشت أمام الناس والأشياء، واندهشت أمام المواقف والحالات، واندهشت أمام الكلمات والعبارات، واندهشت أمام الأشكال والألوان، واندهشت أمام الألواء والظلال، واندهشت أمام الصوت والصدى، واندهشت أمام الحضور والغياب، واندهشت أمام الموت والحياة، واندهشت أمام الأحلام والأوهام، واندهشت أمام هذا الذي نسميه المسرح، واندهشت داخله أيضا، واندهشت بفعل هذا المسرح الوجودي الكبير والخطير الذي أقحمت فيه.
كان ذلك الزمن استثنائيا في كل شيء، لأنه كان زمن الطفولة المؤثثة بالغرابة والدهشة، وهل تكون الطفولة في معناها الحقيقي إلا ذلك الفعل الوجودي المؤسس للوجود وللموجودات وللمعاني الجديدة؟
في تلك المدينة التي تحمل اسم أبركان عشت زمني التأسيسي الأول، وكانت تلك المدينة نفسها تعيش عمرها التأسيسي أيضا، وكانت تحيا طفولتها الحالمة والبريئة، وكانت أيامها ولياليها يومئذ مدججة بلحظات ما بعد الحرب العالمية، وكانت مظاهر تلك الحرب ومخلفاتها موجودة في حديث الناس البسطاء، وكانت موجودة في الدبابات والمصفحات العسكرية الفرنسية، وكانت موجودة في الأفلام السينمائية أيضا، وتحديدا في تلك الأخبار السينمائية المصورة.
في ذلك الزمن الأربعيني من القرن الماضي إذن، كان كل شيء في عيني غريبا وجديدا ومدهشا ومستفزا، ولقد علمتني تلك الدهشة كثيرا من الأشياء، كما حرضتني على أن أغوص عميقا في بحر الأسئلة التي لا يعدها العد، ولا يحدها الحد، وقد صاحبتني أيضا عبر كل مراحل عمري، وإلى حدود هذا اليوم، فإنني مازلت أحتفظ بشيء من جمر تلك الدهشة، ومازلت أكتوي بنارها الحارقة والخلاقة، ومازلت لم أضيع بداخلي زمن ذلك التأسيس الذي كان، والذي يأبى اليوم أن يدخل إلى كواليس الزمان، وأن يصبح ماضيا كان ..
2
لقد عشقت المعرفة، وهمت بها حبا، وتمنيت دائما لو تبادلني حبا بحب، أو حتى بنصف حب، أو بربع حب، أو حتى بما يشبه الحب، وبهرني سموها وسحرها وجمالها، وكان أن سميتها في مسرحي بالاسم الذي يليق بها، وكان اسمها في إحدى مسرحياتي هو لونجة الأسيرة والحرة معا، الأسيرة جسدا والحرة نفسا وروحا، وأسكنتها في قمة جبل لا يمكن أن يصل إليه إلا الواصلون والمسافرون والحالمون والصابرون والعاشقون والمتنبئون.
هي دائما موجودة هناك، أما ما هو موجود هنا، فما هو إلا صورتها أو صورها أو ظلالها، وما أكثر الصور المستنسخة والمزيفة لمولاتنا المعرفة، والتي هي موجودة دائما خلف شيء يحجبها، ويمنع العيون والعقول من الوصول إليها، فهي إما موجودة خلف الشمس، أو موجودة خلف الأبواب، أو موجودة خلف الأستار، أو موجودة خلف الظلام، أو موجودة خلف الأحلام، أو موجودة خلف الأوهام، وبحكم أنها بعيدة في قربها، وأنها قريبة في بعدها، فهي تحتاج دائما إلى السفر والرحيل إليها، وتحتاج لمن يقرأ ألواحها السرية، وتحتاج لمن يرفع الحجب عنها، ولمن يقبض على جوهرها الحقيقي، وليس فقط على شكلها الخارجي الخادع، أو على أصباغها الحربائية المتحولة.
ولقد قادني عشق السؤال المختلف إلى السير في الطرقات المختلفة، ودفع بي إلى طريق الأبواب السرية والمغلقة، فطرقتها بعنف وقوة، وأعدت طرقها آلاف المرات، وإلى حدود هذا اليوم، فإنني لا أكف عن طرق هذه الأبواب المغلقة.
لقد اقتنعت بأن أجمل الأشياء هي الموجودة في العيون الجميلة، وليس في الصور المجملة
واقتنعت أيضا، بأن أصدق كل المعاني هي الموجودة في الصدور الصادقة والعاشقة، وليس في السطور البراقة.
3
في عالم، واقعه أغرب من خياله، ومتخيله أصدق من واقعه، وفي أيام ضيعت أسماء الأيام، وضيعت روحها وحقيقتها، أجد نفسي أقف أمام نفسي، وأجدها تسألني أو أسألها السؤال الغريب التالي:
من أنت يا أنت؟
وأفكر قليلا، وأطل على مرآة روحي، حتى أتبين ملامحي الوجدانية، وأتعرف على نفسي، ثم من بعد أجيب ذلك الصوت السائل وأقول بلسان صديقي الحكواتي :
( أنا ساعة صدقني، تأتي ثم تمضي، وتدور مع الفلك الدوار، وهي ساعة، إذا كنا فيها تضحكنا، كما تضحك أنت الآن، وإذا غادرناها تبكي الآخرين علينا) 2
نعم، ما أنا إلا فاعل يفعل ويتفاعل، ويرى أن من حقه أن ينفعل أيضا، أولا، بمن حوله من الناس أو من أشباه الناس، وثانيا، بما حوله من المظاهر والظواهر، وثالثا، بما يتراءى له من حقائق و أحلام، ومن وقائع وأوهام، وانطلاقا من هذا الانفعال الأولي والأساسي، أحاول أن أؤسس الفعل المختلف والمخالف دائما، وأن أسجل الموقف المغاير والمقلق والمستفز والمشاكس، وأن أتجنب أيضا وبالقدر الذي أستطيع ذلك الشيء الذي يسمى رد الفعل، والذي يمكن أن يكون انفعالا وحشيا، أو يكون حالة مزاجية عابرة، أو يكون موقفا متشنجا ومتعصبا، أو يكون فكرة غريبة لا أشبهها ولا تشبهني، ولا موقع لها في منظومة آرائي وأفكاري، ولا في خط سيري الفكري، ولا في مسيرتي الوجودية والحياتية.
إنني أومن، بأن الفعل الذي لا يؤسس حالته، ولا يؤسس موقفه، ولا يؤسس عالمه، لا يمكن أن يكون له في فلسفتي أي معنى، والأفكار الظلال لا تقول لي شيئا أبدا، وأخطر ما يستهويني في مسيرتي الفكرية والإبداعية، هو السير في الخطوط الأمامية الخطيرة، وأن أسبق إلى الأشياء والأسماء، وأن أقرأ روح الكلمات والعبارات وهي درجة النشوء والارتقاء إلى الأعلى والأسمى، وأن أكون مؤسسا جديدا للمواقف والحالات الجديدة والمتجددة، وأن أخاطر في فهم الإشارات والعلامات، وأن أجعل ذاتي المفكرة والمبدعة تعيد اكتشاف نفسها بنفسها، وأن تستعيد موقفها النقدي من مسارها ومن مسيرتها، وأن أجعل عيني الحسية البرانية تنظر في مرايا عيوني الباطنية الكثيرة والمتنوعة، والتي لا يمكن أن يعدها عد، ولا يمكن أن يحصرها حد، وأن أقف وقوف المندهش أمام غرائب هذا العالم الغريب، وأن حاول أن أعيد ترتيب الأشياء والأسماء المتناثرة فيه، وأن أزرع شيئا من النظام في فوضاه.
4
ومرة أخرى تسألني نفسي أو أسألها وتقول لي، أو أقول لها:
أيها الكاتب الموقع أعلاه دائما، لماذا تصر على أن توقع في الأعلى؟
ونقول معا أنا ونفسي :
لأن الأعلى هو الأصل، ولأنني جئت من الأعلى، ولأن الأرواح تصعد إلى الأعلى، ولأن فعل التحليق لا يكون إلا في الأعلى، ولأن الإلهام والوحي يأتيان دائما من الأعلى.
إنني أنا الكاتب لا أفعل شيئا في هذا الوجود سوى أن أكتب وأنكتب، إنني أكتب بحس الشاعر، وأكتب بوعي المفكر دائما، وأسعى لأن تكون هذه الكتابة في شكل احتفاء شعري بالحياة وبالجمال وبالكمال وبالحق والحقيقة، ولقد قادني طريقي الذي مشيت فيه إلى أن أبدع احتفاليات إبداعية جديدة المبنى والمعنى، ورأيت أنه من حقي أن أعطي لكل احتفال أحياه وأعيشه اسما من الأسماء، وأن أضع عليه توقيعي، ثم أسلمه بعد ذلك للناس في كل مكان وزمان، وبهذا أضعه رهن إشارة الحقيقة والتاريخ، وأتركه خلفي ثم أمضي إلى العوالم الأخرى، وإلى الاحتفالات الأخرى، وإلى اللحظات الأخرى الممكنة الوجود في فضاء هذا الوجود، ولأنني لا أمشي إلا في الطريق الذي أختاره ويخترني، فإنني أجد نفسي أقول لكل رفاق الطريق:
إنهم ( يريدون منا أن نكون حطبا للنار
ونحن نريد، أن نكون نحن النار ) 3
هو سفر وجودي إذن، فيه حركة وجاذبية، وفيه أحلام وأوهام جميلة ونبيلة، وبهذا السفر المتواصل أسست وجودي الفكري والإبداعي، وجعلته في شكل ديوان مفتوح على كل الممكنات والاحتمالات، وأعطيت هذا الديوان اسم ( الديوان الاحتفالي)،ومرة أخرى، تسألني نفسي أو أسألها وتقول لي أو أقول لها:
( لماذا تسافر وترحل؟ وبحثا عن أي شيء؟ وهروبا ممن، أو من أي شيء؟)
وأقول لنفسي إنني أبحث عن مدينة بحجم مسرح، وأبحث عن مسرح بحجم مدينة، وأبحث عن مدينة بحجم الدنيا، وأبحث عن دنيا أخرى، غير هذه، تكون أرحب وأوسع، وتكون أنبل وأجمل، وتكون أروع وأبدع، وأن تكون أيضا بجمالها وكمالها أهلا لهذا الحب الذي نهديه لها، وأن تكون في مستوى عشقنا المجنون بها.. ) 4
لقد عشت الشعر، واعتبرت حياتي قطعة شعر، واعتبرت أن هذا الشعر الذي في الوجود وفي الحياة وفي الطبيعة، أهم وأخطر من الشعر الذي في الكلمات وفي العبارات وفي المدونات، ولأنني اقتنعت بأن هذا الشعر المتكلم وحده لا يكفي، فقد عشقت الموسيقى أيضا، ولأنني رأيت أن هذه الموسيقى وحدها لا تكفي، فقد عشقت فن الحكي والمحاكاة أيضا، واقتنعت بأن كل الحقول المعرفية وحدها لا تكفي، وبأن كل الأجناس الأدبية والفنية وحدها لا تكفي أيضا، ولهذا فقد بحثت عن دنيا أخرى جديدة، دنيا تتعايش فيها الفنون والآداب والعلوم والمعارف، ويحضر فيها الفن إلى جانب الفكر، ويحضر فيها العلم إلى جانب الصناعة، ووجدت أن هذه الدنيا الأخرى تسمى المسرح، فدخلتها دخول العاشقين والمندهشين والحالمين، ولم يكن ممكنا سوى أن أتوه في شعاب هذه الدنيا، ولا أخفيكم أنني قد استعذبت هذا التيه الجميل، وأنني قد استبدلت عالم الأشخاص الواقعيين بعالم الشخصيات المسرحية المتخيلة، ولا أخفيكم أن رفقة هذه الشخصيات المتخيلة أجمل من رفقة كثير من رفاق السوء.
وفي هذا السفر لم أكن وحدي، ولا أحد يمكن أن يمشي في الطريق بغير رفيق، وإلى جانب شخصياتي المسرحية، فقد اخترت أن يصاحبني صاحبي الظل، وفي تلك الرحلة الافتراضية التي قادتني إلى مدينة احتفاليا سيتي، وجدت نفسي هذه المرة أقول لنفسي:
( ولست اليوم في هذه المدينة وحدي، ولا يليق بي أن أكون وحدي، ولا أحد يمكن أن يكون وحده إلا في قبره وموته..
تسألون من معي الآن؟
إنني معي ظلي، نعم ظلي، وهو رسم ليس له اسم، وليس له عنوان ولا بطاقة تعريف، وإقامته في هذا الوجود هي إقامة غير شرعية، وهجرته إلى عالم الناس، هي أيضا هجرة غير شرعية، وهو يعيش معي بلا أوراق ثبوتية، ويقيم معي في كل البلدان والمدن بدون أوراق الإقامة، وهو يسافر معي بدون جواز سفر، وبدون تأشيرة، وبدو تصريح، فما أسعده أو.. ما أشقاه.. لست أدري ..
صاحبي الظل يظهر ويختفي.. يظهر في الضوء ويختفي في الظلام، ويمشي أمامي، ويمشي خلفي، ويمشي تحت أقدامي في بعض الأحيان..)5
أعرف أن من واجبي أن أحترم الأولين والسابقين، ولكنه ليس من حقي أن أقلدهم تقليدا أبكم وأعمى، وأعتقد أنني لست ملزما بأن أتبعهم، وأن أسير خلفهم، لأن طريقهم غير طريقي، ووجهتهم غير وجهتي، فقد رحلوا بالأمس باتجاه الماضي، وأرحل أنا اليوم باتجاه الآتي، ثم إن الطرقات القديمة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى المواقع القديمة، ومهمتي أنا أن أبحث عن المواقع الجديدة، وأن أؤسس الوقائع الجديدة، وأن أعيش الأعمار الجديدة، وما أكثر الأعمار التي مازالت إلى اليوم شاغرة، ومازالت في حاجة لمن يسكنها، ولمن يعيشها بإحساس جديد، وبوعي جديد.
5
إن كل تاريخي الشخصي، هو تاريخ للحفر في الصخر، وهو تاريخ للنقش على الحجر، ولو أنني كتبت حياتي على رمال متحركة، لعصفت بها الرياح والعواصف، وأصبحت في خبر كان.
لقد وجدت لبعض الناس أصناما وأوثانا يعبدونها، فكفرت بها كلها، وآمنت بالله في سمائه وعلاه، وآمنت بالعقل الذي هو أرفع هبات الله. إن أفظع شيء يخيفني ويرعبني في بعض الناس هي نزعة القطيع فيهم أو لديهم، ولذلك فقد أعلنت بأنه لا شيء يلزمني بأن ألتزم بما لا يلزم، ولا شيء يجبرني على أن أكون مؤمنا بالجبرية، وأن أكون مثل ذلك القطار الذي تمشيه السكك الحديدية إلى حيث تريد هي، أي إلى المحطات المعروفة والمألوفة، واقتنعت أن الموضة أيضا، سواء أكانت في الأزياء أو في السياسة أو في الفكر أو في الفن، هي أحد مظاهر هذه النزعة القائمة على الاتكال والكسل، والتي ليست إنسانية، وليست عقلية، والتي تغيب فيها روح المبادرة، ولا تحضرها روح المخاطرة المعرفية والفكرية والجمالية.
في زمن من الأزمان لا رده الله إلينا كانت الموضة أن يكون المثقف يساريا، وأن يستعير المصطلحات السياسية والعقائدية الجاهزة، وكان يخشى أن ينعت بأنه رجعي، وبأنه إصلاحي، وبأنه سلفي، وبأنه بورجوازي، وبأنه مثالي، في ذلك الزمن إذن، بكل لغاته وقواميسه ومفرداته الجاهزة، حاولت أن أوجد لي موقعا أرتاح فيه نفسيا وفكريا، وانتبهت إلى أن هذا الموقع لا يقع في اليمين ولا في اليسار، ولا ينتمي إلى ذلك السلف المقلد، ولا إلى هذا الخلف الذي لا يجدد، وأن هذا الموقع لا يمكن أن يكون إلا على تربة هذه الأرض الصلبة، وبذلك فقد تشبثت دائما بالنحن الجماعية، وتمسكت باللحظة الحية الآن، وارتبطت بالمكان المفتوح هنا
واقتنعت بالاحتفالية فلسفة ومنهجا، وارتضيتها فكرا وأخلاقا، وقلت هي طريق قبل أن تكون طريقة، وهي تأسيس قبل أن تكون مؤسسة، وهي رحلة في الوجود وليست محطة فيها، ولقد كان هذا في زمن رفع شعار الحرية والتحرر عاليا، ووجدت نفسي مقتنعا بأن الإبداع حرية أو لا يمكن أن يكون أبدا، وصغت لفعل هذا المسرح تعريفا قديما جديدا يقول ( المسرح هو التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) ومن أغرب الغرائب وأعجبها أن دعاة الحرية والتحرر في العالم العربي قد أغضبهم هذا المسرح الحر، وأزعجهم أن تكون هذه التجربة الاحتفالية مجتهدة فكريا وجماليا، وألا تلتزم بلزوميات الفكر اليساري، وألا تكون تابعة لموضة لمسرح الملحمي البريشتي، وأخبرني بعض خبراء المسرح المغربي والعربي ب ( الحقيقة) المرعبة التالية، وهي أن المسرح الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا بريشتيا، وأن من يسعى لغير هذا المسرح فلن يقبل منه.
وحاربت المركزية بكل صيغها المتعددة والمتنوعة، وآمنت بأن مركز النحن موجود فيها، وبداخلها، وليس خارجها، وآمنت بأن اللحظة الآن، لا يمكن أن يكون لها مركز إلا فيها، وبأن المكان هنا، هو مركز نفسه، وانطلاقا من هذه القناعة حاورت كل الذوات، وتثاقفت مع كل الثقافات، وجربت كل التجارب، وفعلت ذلك على مستوى الندية، لأنه بغير هذه الندية لا يمكن أن يكون الحوار حوارا، ولا يمكن للصوت أن يكون صوتا، وقد يكون مجرد رجع الصدى، ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري.
ووجدت مسرحيا عربيا كبيرا، هو توفيق الحكيم، يبحث عن قالب لمسرحنا العربي المعاصر، وأعلنت أن مهمة الفنان والمفكر، ليست في أن يبحث عن القوالب الجامدة، وأن يتقولب فيها، ولكن في أن يكسر كل القوالب، وأن يتحرر من كل الموديلات الثابتة والجاهزة، ومن كل التعاليم المدرسية، لأن الاشتغال داخل القوالب هو من عمل الصناع والحرفيين، وليس من عمل المفكرين والفنانين المبدعين.
والأساس في هذه الاحتفالية، كما جاء في كتاب ( الاحتفالية وهزات العصر) هو أنها هزة فكرية وجمالية وأخلاقية، وأن لهذه الهزة درجتها التي لا يمكن أن تقاس وفق سلم رشتر، ونعرف أن الأساس في أية هزة مادية كانت أو معنوية هو أن تخلخل البنيات القائمة، وأن تحطم منها ما كان هشا، وما كان قائما على غير أعمدة قوية وصلبة، وبهذا وجدت نفسي أخوض معارك ملحمية ضد أشباح الماضي، وضد أشباح الموتى، وضد وكلاء الآخر الغائب، وضد استبدادية المركز الغربي، وضد الأستاذية والمدرسية، وضد عبادة الأصنام والأوثان، وضد المسلمات والبديهيات، والثورة ضد الإشاعة، واعتبرت عظمة كثير من العظماء مجرد إشاعة فقط، ولعل هذا هو ما جعلني أتجرأ على مناقشة بعض الأسماء التي لم يكن مسموحا مناقشتها، مثل ماركس وفرويد وداروين ونتشه، ولولا هذه الجرأة، ولولا تلك المخاطرة، في العلم والفكر والفن والصناعة المسرحية، فهل كان ممكنا أن يكون هناك اليوم ثورة تسمى الثورة الاحتفالية؟
6
في فضاء المسرح، هناك من يوزع الضوء على الأجساد الساكنة والمتحركة، وهو بهذا يظهر من يريد، ويخفي من يشاء، ومن أغرب المفارقات وأعجبها دائما، أن هذا التقني الذي يمنح الآخرين الضوء، يقبع دائما في دائرة الظلام، وكذلك هو الشأن بالنسبة لكل الذين يشتغلون وراء الأضواء.
شيء مؤكد أن هذا (التقني) يقوم بعمل خطير بلا شك، سواء في مسرح الدنيا أو في المسرح المسرحي، فهو يملك أن يوجه عين الجمهور إلى هذا الكومبارس مثلا، وأن يحجبه عن ذلك البطل، وأن يضع الحدث الجانبي والهامشي تحت الضوء، وأن يضع الحدث الأساسي والجوهري في الظلام، ولعل هذا هو نفس ما تقوم اليوم به كثير من وسائل الإعلام والإعلان، حيث يتم صناعة النجوم اللامعة، ورقيا أو هوائيا، وحيث يتم تلميع الذين لا يلمعون إلا بالأضواء المستعارة أو المستوردة أو المقتبسة أو المختلسة .
والإضاءة في هذا المسرح، كما يعرف العارفون، لا تظهر الأجساد فقط، ولكنها قد تخفيها أيضا، كما قد تخفي كثيرا من الأشياء الخطيرة، وتخفي كثيرا من الحركات ومن الإشارات ومن العلامات التي تفقدها حقها في الوجود، وتصادر حقها في التعبير عن هذا الوجود.
وفي المقابل، فإن فعل الإظلام، كما مارسته وتمارسه دائما كثير من الجهات المعروفة والمجهولة، هل يمكن أن يجعل الأقمار المنيرة في الأرض والسماء تحتجب؟
يقول شاعر عربي:
فالشمس تطلع في نهار مشرق
والبدر لا يخفيه ليل مظلم
ولكن مثل هذا الظلام يمكن أن يشوش على بعض الأقمار، كما أنه من الممكن أن يزيد بعض الأقمار الأخرى إصرارا على أن تضيء أكثر، وعلى أن تلمع أكثر، وهل يمكن أن يتحقق الإبداع الحق إلا بمثل هذا التحدي؟
ومن طبيعة هذه الإضاءة أن يكون لها دوران اثنان متكاملان، دور وظيفي وآخر جمالي، فكل ما يقع ويحدث في المسرح ينبغي أن يكون له دور من الأدوار، وأن يكون له معنى من المعاني، وأن تكشف هذه الإضاءة على جمال المعنى فيه، وعلى معنى الجمال المختبئ فيه.
وفي مسرح هذا العالم، أو في عالم هذا المسرح، تتحرك كل الأجساد البشرية في أدوار محددة، وتجد نفسها من حيث تدري أو لا تدري سجينة هذه الأدوار التي لا ينجو من أسرها إلا الناجون، وهي تشير إلى وجودها، وتعلن عن نفسها من خلال الأسماء والأزياء، وهل تكفي وحدها الأسماء والأزياء؟
في هذا المسرح يتحرك الجسد الحي دائما، فيفعل وينفعل ويتفاعل أيضا، وقد يظهر في أوضاع مختلفة كثيرة لا يعدها العد، ولقد اقتنع بعض المسرحيين المغاربة والعرب أن هذا الجسد هو الذي يصنع حركته الخاصة، وأن مظهره الخارجي وحده هو الذي يحدد جماليته، وهو الذي يؤسس معنائيته، ولقد فاتهم أن يعرفوا الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنه لا حركة ولا سكون في مسرح الوجود إلا من خلال وجود طاقة محركة، وأن هذه الطاقة هي دائما طاقة نفسية ووجدانية وروحية بالضرورة، وعن هذه الطاقة المعنوية المحركة رحت أبحث دائما، وذلك اقتناعا مني بأنها أساس الحياة والحيوية، وأنها جوهر الجمال والجمالية، وأنها مؤسسة العيد والعيدية، ولذلك فقد سعيت في فكري وفني في أن أكون شرقي الرؤية والرؤيا، وأن أبدأ من الأعلى ومن الأبعد ومن الخفي ومن السري ومن الذوق ومن الحدس، وهذا بالتأكيد هو نفس ما فعله كبار المسرحيين الغربيين والأوربيين في القرن العشرين، وذلك من أمثال آرطو وجيرزي غرووفسكي وتشاينا وبيتر بروك وأجينو باربا وآريان منوشكين، والذين أعادوا اكتشاف روح الشرق.
7
لقد رأيت، أن الإدراك الحسي، بدون إدراك حدسي، هو إدراك ناقص، واقتنعت أيضا، بأن التجريب المادي البراني، بدون تجربة وجودية داخلية صادقة، لا يمكن أن يعطي إبداعا حقيقيا، واقتنعت بأن ( الاحتفالية نزعة مدنية، وأخلاق ديمقراطية، وخيال فعال، وإرث فكري وجمالي وحضاري )
بيني وبين الحكمة كر وفر، وبيني وبين نفسي حرب وسلم، وبيني وبين الجمال حب وعشق، وبيني وبين الأحوال ما لا أقدر على أن أصفه، لأنها أحوال أكبر من الكلمات، وأخطر من العبارات، وهي تأتي وتمضي، وتظهر وتختفي، وأحاول عبثا أن أمسك بها، فلا يبقى في يدي إلا الفراغ، إنني أطاردها، وأجري خلفها، ولا أنتبه إلى أنها تجري خلفي، وأنها هي التي تطاردني.
هكذا إذن أرى نفسي، أو هكذا تراني نفسي، وللذين يحبونني رؤية أخرى غير هذه، رؤية قد تكون أبهى وأجمل، ولكنها بالتأكيد ليست أصدق منها، وللذين يكرهونني رؤية أخرى مختلفة ومغايرة، رؤية قد تكون أتعس وأسوأ منها، ولكنها بالتأكيد لا يمكن أن تكون إلا.. كاذبة..
8
لقد اختلفت مع الآخرين، واختلف معي الآخرون، ورأيت أن الحق في الاختلاف لا يقل خطورة عن الحق في الوجود وفي الحياة، وقلت لكل المختلفين المخالفين ( لكم عالمكم ولي عالمي، ولكم مسرحكم ولي مسرحي).
وقلت أيضا ( .. هم يرون أن المسرح شكل من أشكال التعبير
أما نحن، فنرى أنه شكل من أشكال الوجود ) 6
وانطلاقا من هذه النقطة الفكرة، تأسس الصراع مع فكر الاحتفالية، ونبتت في بعض النفوس كراهية لفنها وعلمها ولصناعتها المسرحية المخالفة، والتي لا نرى أنها من الممكن أن تكون صناعة فنية خالصة.
ويقولون لي ما يلي:
أنت في احتفاليتك المسرحية غير طبيعي وغير واقعي، وأقول لهم نعم، أنا فعلا كذلك، لأنني لا أستطيع أن أكون أكثر طبيعية من الطبيعة، ولا أكثر واقعية من الواقع، ثم إن تلك الواقعية الفوتوغرافية لا تهمني ولا تعنيني، ولا تقول لي أي شيء، خصوصا إذا كانت هذه الواقعية تحيل على واقع كاذب، وكانت تكرر قشور الوقائع البرانية، وكانت تستنسخ الموجودات البالية والقديمة، ولم تكن تسعى لأن تؤسس الوجود الجديد والمتجدد، وما يعنيني أنا اليوم أكثر، هو تلك الحقيقة الغائبة أو المغيبة، والتي لا تقيم في الواقع والوقائع، ولكنها موجودة فيما وراء ظواهر ومظاهر هذا الواقع الذي لا يرتفع إلا بسلطة الأحلام الجميلة والنبيلة.
ويقولون لي أيضا: هل يمكن أن تكون صادقا في زمن غير صادق؟ وأقول لهم نعم، يمكن...
الهوامش:
1 أدونيس البرنامج التلفزيوني ( خلليك بالبيت )
2 ع. برشيد ( الحكواتي الأخير ) منشورات إيدي سوفت الدار البيضاء 2004
3 ع . برشيد الاحتفالية في أفق التسعينات ص 141
4 برشيد المقامة البرشيدية رحلة افتراضية في عالم افتراضي مخطوط
5 برشيد المقامة البرشيدية نفس المرجع..
6 المرجع نفسه ص 142
1


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.