وقفوا في طابور أمام حارس الأمن كي يرتبهم.. تعالت الأصوات: – أنا جيت الاول.. – أنا قبل منكم كلكم.. – أنا من لفجر وانا هنا.. ارتفع صوت الحارس فصمت الجميع.. وزع الوريقات المرقمة.. أخذ كل مريض ورقته وانزوى الى جانب من الحائط.. ألقيت نظرة على ذلك الذي كان قبالتي.. وجه شاحب تعلوه الصفرة.. وشيب أبيض قليل.. رجل خمسيني بسيط.. بين الفقر والمرض والحق الضائع كان يقف.. تميزه عن الباقين تلك العيون اليقظة.. فقد كان أشدهم حرصا على رتبته.. وأكثرهم قتالية عن رقمه الخامس: – مانديو نوبة حد ما نعطيو نوبتنا لحد.. هكذا كان يردد حين اشتعلت حرب الرتب.. الساعة شارفت على العاشرة.. وفي انتظار الطبيب برز ملتحق جديد.. شاب ضخم الجسم في الثلاثين بلباس رياضي.. لاتبدو عليه علامات المرض.. ولكن تبدو عليه علامات الخوف من المرض.. هكذا بدا وهو يتجول برأسه المستطيلة وجسمه الضخم متأبطا ملف أشعته.. عيونه المدورة تجوب وجوه الممرضات وحراس الأمن كأنه يبحث عن شخص معين.. ها قد وجد ضالته.. سلم على الموظف، أمسك الأخير يده بعد التحية فسحبه منها ودخل به الى مكتب صغير.. تبادلا التحية وبعض الكلام.. أخذ الموظف ملفه ودخل الى غرفة الطبيب الذي لم يحضر بعد.. ووضعه على مكتبه.. جحظت عيون الواقفين.. وعينا الرقم 5 توقفتا عن الحركة.. حتى كادتا تنفلتان من فرط الغيظ والاستغراب.. ازدحمت الكلمات تحت لسان المسكين فجلس يعض على أصابعه ويرمق المحتال بنظرات الاحتقار واللوم على خساسته.. ضيق عليه حتى شحب لونه واصفر أنفه، ولم يعرف كيف ينجح في التظاهر باللامبالاة.. وتمنى لو ابتعلته الأرض حين رماه الشيخ مسامعه بقذيفة النار التي أحرقت جلدته: – حنا ماعندنا حد.. عندنا غير الله.. واللي خدا حقنا ما نسمحو ليه.. مانسمحو ليه حتى لغدا أمام الله.. لماذا يتسابق المرضى؟ اليسوا مرضى؟ ماذا يقدم الوقت معهم وماذا يؤخر؟ كأنه سباق على أبواب الحياة.. كأنه هروب من الموت.. انها غريزة البقاء.. تلك الغريزة التي قد تدفعك الى القتل لو كلف الأمر.. ومرت ببالي جريمة البقاء الأولى على الأرض.. جاء الطبيب تزاحم المنتظرون على باب المكتب.. كأنه رب الحياة قد حضر.. وقف الحارس ينظمهم وينهر ويسب الفوضى والهمجية.. أخذ ملفاتهم ورتبها فوق مكتب الطبيب حسب أرقامهم.. وبدأ المنادي ينادي.. فانزلق صاحبنا كضفدع شفاف الى غرفة الطبيب قبل أن يكمل اسمه الكامل.. وتعالت صرخات الرقم 5: – اللهم ان هذا منكر.. و التفت الى الرقم واحد يحرضها: – مالك ساكتة واش سارطة لسانك.. هضري على حقك.. – ما عندي حق أسيدي غا خليه.. – بحالكم اللي ركبو علينا الذل.. واشتعل صراع البسطاء والفقراء والمقهورين وانشغلوا بينهم.. أنهى مدور العينين مهمته.. تسلم تأشيرة الطبيب على ورقته وراح يركض الى قاعة الراديو.. لحقته شتائم الرقم 5 ولعنات الواقفين.. واستمرت الحياة بظلمها الكبير..