رغم أن الاستيقاظ في وقت مبكر في مدينة طنجة، سلوك صعب في صباحاتها الناعسة، غير أن عددا من المواطنين يحرصون على الذهاب صباحا إلى الإدارات العمومية، لأخذ مكان متقدم في طوابير الانتظار الطويلة، حتى يتمكنوا من قضاء حوائجهم في أسرع وقت، ثم التوجه لمآرب أخرى في أجندة مشاغلهم اليومية، لكن بعض المرافق الخدماتية مثل الوكالة الرئيسية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لا تسعف معها خطة من هذا النوع، لذا ما على القادم إليها سوى تفريغ كامل يومه، والتسلح بصبر النبي أيوب. في ال 23 من شهر أكتوبر الماضي، أطلق الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حملة تواصلية مكثفة عبر مختلف وسائل الإعلام، كان الغرض منها التعريف بالخدمات الرقمية التي توفرها إدارة «CNSS» للمغاربة، وإبراز مزاياها المتمثلة أساسا في تقريب خدماتها من المنخرطين والمؤمنين، وتقريب الإدارة من المواطن، وتبسيط المساطر الإجرائية بالنسبة للمؤمنين لهم، غير أنه بعد مرور أزيد من ثمانية أشهر على الحملة الدعائية المذكورة، لا يبدو أن حصيلتها تستجب لانتظارات المواطنين، على الأقل في الوكالة الرئيسية بمدينة طنجة، حيث يعاني المواطنون مشاق قضاء مصالحهم الإدارية بسبب "جحيم الانتظار"، مقابل تعويضات هزيلة لا تصل حتى ل نسبة 75 بالمائة من سقف التعويض القانوني، كانت هذه قناعة عدد ممن استجوبتهم الجريدة. تنتصب بناية الوكالة الرئيسية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بطنجة، والمتواجدة في ساحة المغرب بمدارة «كاسطيا» في مقاطعة السواني، في عمارة متكونة من سبعة طوابق. في الساعة الثامنة والنصف صباحا يكون أعوان الحراسة الخاصة فتحوا البوابة الآلية للعمارة، وانتشروا للقيام بمهامهم المقسمة على أدوار مختلفة بين طوابق المبنى، في حين يكون الموظفون أخذوا أماكنهم جلوسا خلف الحواسيب، وتبدأ أجهزة تنظيم المواعيد الإلكترونية في الإعلان حسب التسلسل الرقمي، تنادي المرتفقين الالتحاق تباعا بالمكتب الشاغر، وبين الفينة والأخرى تصدح الموظفة أو الموظف، مناديا على الرقم الموالي، لمساعدة كبار السن ومرضى السمع والنظر، والأشخاص الذين لا يجيدون القراءة. الازدحام سيد الموقف عند مدخل العمارة يستقبلك مكتب يجلس خلفه عون الحراسة، يرشد الوافدين الذين يستفسرون قبل مواصلة طريقهم، فيما يقصد الآخرون وجهتهم مباشرة، بين من ينتظر دوره أمام مصعد آلي "مهلهل"، لا يسع سوى لأربعة أشخاص، وبين من يتخطى نحو الدرج المقابل لبوابة العمارة، حيث يزدحم المرتفقون في سلالم إسمنتية لا يتعدى عرضها مترا واحدا، يتحركون صعودا وهبوطا متنقلين بين طوابقه السبعة للوصول إلى غايتهم. في الطابق الأول بهذه الوكالة، يتحلق عشرات الأشخاص من المؤمنين في صندوق الضمان الاجتماعي حول جهاز لسحب تذاكر تنظيم المواعيد، تحتوي كل تذكرة على معطيات تتعلق بعدد المرتفقين المنتظرين، ومدة الانتظار الجزافية المتبقية، والتي تتفاوت ما بين 10 دقائق و120 دقيقة (ساعتان)، بجانب هذا الجهاز يقف حارس أمن خاص يخاطب من يلج مباشرة بلازمة جاهزة، "أجي خذ تيكيت ديالك وسير شد نوبتك". يضم هذا الطابق مصلحة خدمات التأمين الإجباري عن المرض، ومصلحة تحيين المعطيات العائلية، وتعتبر هذين المصلحتان أكثر استقبالا للمرتفقين خلال اليوم، حيث تمتلئ كراسي قاعات الانتظار عن آخرها، ويصطف الباقي متكئين على الحيطان. بين الواقفين في المصلحة الثانية بالطابق الأول، شاب في أواسط العشرينيات من عمره يتصبب عرقا من رأسه، يتأبط ملفا أصفر، ويمسك بيده اليمنى «إفادة باستلام طلب شهادة الأجرة»، وبأطراف أصابعه تذكرة تنظيم المواعيد، ينظر إليها متفحصا فيظهر أن أمامه 29 شخصا، وأن مدة الانتظار لا تقل عن 74 دقيقة، يحقق في ساعته اليدوية، ويجول ببصره متفحصا أوجها عبوسا هي الأخرى بين المنتظرين، وبعد دقائق معدودة يرفع الشاب رأسه نحو الشاشة الإلكترونية محملقا في أرقامها الفاقعة باللون الأحمر، والتي تتغير كلما قرع جرس خفيف منبها صاحب الموعد الموالي، فيرد بحركة منفعلة بيديه متمتما بكلمات خافتة، يفهم منها أنه متذمر من بطء سير عملية خدمة المواطنين، فيتجاوب معه بعض المنتظرين بإيماءات وتعليقات تبدي اتفاقا ضمنيا مع رسالته الاحتجاجية. خصاص الموارد البشرية تعزو موظفة مسؤولة بهذه الوكالة، سبب الازدحام الشديد على هاتين المصلحتين لكونهما تقدمان أهم الخدمات الإدارية، ويوجد بكل واحدة منها ثلاثة موظفين، الأولى تستلم ملفات التعويض عن العلاجات الطبية للمؤمن له، وتقوم بمعالجة ملف كل مؤمن على حدة، وأحيانا يعالج موظف واحد رزمة مكونة مما بين 30 و40 ملفا في آن واحد، عندما يتعلق الأمر بمستخدمي شركة معينة، والتي يتكلف بإيداعها مسؤول إداري عنها، في حين تضيف الموظفة في حديثها ل "أخبار اليوم"، تقوم المصلحة المجاورة بتسلم طلبات الاستفادة من التعويض عن المرض المزمن، وإشعار بالانقطاع عن العمل وطلب التعويضات اليومية الذي أقرته حكومة بنكيران، وطلب التعويض عن عطلة ازدياد مولود، ورخص الولادة، وشهادة الانخراط، وخدمة الجالية المغربية المقيمة بالخارج. في الطابق الثاني حيث توجد مصلحة العلاقة مع المؤمنين، المخصصة لتتبع مآل طلبات الخدمة، هي الأخرى تعرف اكتظاظا في بهو الانتظار، ولا تتوقف بها نقاشات مطولة بين الموظفين والمرتفقين حول ظروف العمل، إذ يحمى وطيس النقاش بكيل الاتهامات بالتقصير والاستهتار للمسؤولين عن الوكالة، يصل أحيانا إلى التلفظ في حقهم بالشتائم تنديدا ببطء سير الإجراءات الإدارية. في قاعة فسيحة تضم أربعة مكاتب، اثنان منهما شاغران، والآخران يجلس بهما موظفان خلف حاسوبيهما يلبيان احتياجات المرتفقين، وعن الجانب الأيمن يقتطع مكتب زجاجي حيزا كبيرا من الطابق الثاني به مكتب "غير مصنف"، بجواره مكتب آخر مخصص لأرشفة الملفات المؤمنين والمنخرطين. حركة المرتفقين صعودا وهبوطا بين طوابق المبنى لا تكاد تتوقف، محدثة ضجيجا وضوضاء، بين المنتظرين امرأة حامل في شهورها الأخير، قامت من جلستها على الكرسي عندما وصل دورها، وسارت تجر أقدامها وهي تمسك أوراقا بيدها اليمنى، وتضع يدها اليسرى على بطنها المنتفخ، تقدمت نحو المكتب الشاغر وسلمته ثلاث وثائق، غير أن الموظف فاجئها بإحالتها على وكالة أخرى توجد في مقاطعة «بني مكادة»، جحظت عيناها متأملة برهة، ثم نهضت تجر أذيال الخيبة، "كان يمكن أن أقضي أغراضا كثيرة خلال مدة انتظاري هنا، ولو كان عدد الموظفين كافيا لما ضيعت أكثر من ساعة وربع في الانتظار دونما فائدة"، تقول المتحدثة للجريدة، كلام يؤكد أن هناك حاجة ماسة لتعزيز قاعدة الموارد البشرية لتتلاءم مع طلبات المرتفقين.تقتطع كلامنا امرأة أخرى يحيل لباسها الأبيض على أنها أرملة حديثا، والتي أوضحت أنها جاءت لوكالة الضمان الاجتماعي من أجل استرجاع انخراط زوجها المتوفى في اسمها، وما إن سألناها عن سبب تذمرها، حتى شرعت تفرغ نقمتها على العراقيل الإدارية، قائلة؛ "الله يعفو علينا من هاد الإدارات أولدي الله يعفو علينا، عييت طالعة نازلة فالدروج، وشي خدمة ما هي مزيانة، كنت فالطابق الأول صيفطوني للثالث، عاود ردوني مين جيت"، ثم تردف بلهجة جبلية ملؤها الرجاء، "على الله غير يسربيوني ويردولي المعاش ديال راجلي كان خدام في شركة المشروبات الغازية، منذ سنة 1995، وبعد وفاته قبل ثلاثة أشهر، لم نتوصل بأي مبلغ أستعين به في إعالة أولادي، لأنه ليس عندي مدخول بديل غيره". في الطابق الثالث من الوكالة الرئيسية لصندوق الضمان الاجتماعي بطنجة، يبدو المشهد أخف من حيث عدد المرتفقين، عند الباب تنتصب سبورة حائطية، تتضمن إعلانات وبلاغات داخلية تخص الموظفين، ونتائج انتخاب مناديب التعاضدية، التي يرأسها حسن الهاشمي الإدريسي، يتضمن هذا الطابق فضاء المنخرط، ومصلحة التسجيل والانخراط، ومصلحة الحصول على شواهد الانخراط والتصريحات، وخدمة التأمين الاختياري، وأغلب مرتفقيه من الشركات والمقاولات ومكاتب المحاسبة يقدمون تصريحات ويتتبعون ملفات المنخرطين، كما يوجد بهذا الطابق أيضا مكتب فسيح للمدير، وعلى بابه المغلق ينتظر حوالي عشرة أشخاص، يتقدم أولا موظفو الوكالة، بينما يقف المؤمنون والمنخرطون الذين لديهم مشاكل أو تواجههم عراقيل إدارية، في انتظار دعوتهم لولوج مكتبه. وعلى عكس الطوابق الثلاثة الأولى، تبدو الحركة هادئة نسبيا في باقي طوابق الوكالة، بالطابق الرابع مصلحة القباضة الجهوية، والخامس قسم المراقبة، والسادس قسم الموارد البشرية، أما الطابق السابع فيوجد به مكتب المدير الجهوي، وقسم تنمية العلاقات مع الزبناء، هذا الأخير لا تصله "شوشرة" المرتفقين كما في الأسفل، لأنه لا يتواجد به غير الموظفين. شكايات بالجملة ولا آذان صاغية بخلاف الإعلانات البراقة المعلقة على جداريات ممرات ودرج مقر الوكالة، والتي تعد المرتفقين بخدمات أحسن وبقرب أكثر من المواطن، وتسهيل الولوج عبر الموقع الإلكتروني، فإن الساعات التي قضتها "أخبار اليوم" في مختلف مصالحها، بحر الأسبوع الماضي، رصدت أن ضغط سير العمل خلال اليوم لا ينتهي، سواء بالنسبة للموظفين الذين يضطرون إلى العمل ساعات متواصلة من الثامنة والنصف صباحا، إلى ما بعد الرابعة مساء، في معالجة ملفات المنخرطين والمؤمنين التي تتراكم عليهم، وأيضا بالنسبة للمواطنين الذين يتطلعون لقضاء مصالحهم في أقل مدة زمنية، ثم الانصراف إلى مشاغل أخرى. أغلب المواطنين الذين تحدثنا إليهم، يعزون وجودهم في الطابق الثاني من الوكالة إلى خطأ مؤسسة الضمان الاجتماعي في معطيات المؤمنين، أحدهم قال ل "أخبار اليوم" ويهز أوداج كتفه غضبا، "سخسخوني بسير وأجي بدعوى نقص إحدى الوثائق أو عدم وجود توقيع الطبيب المعالج، وبعدما تسلموا الملف لم يقتطعوا سوى أجر ضئيل لا يتعدى 10 في المائة من مجموع المصاريف، وبعد تحرير شكاية في الموضوع، تلقيت ردا تعترف فيه إدارة CNSS بخطأ، وتخبرني أنها قامت بتداركه". التبليغات عن الأخطاء المرفقية لا تنتهي تقريبا على لسان المتواجدين بمصالح هذه الإدارة، ومن أكثر الشكايات المتواترة على ألسن المرتفقين، رداءة خدمة الإرساليات، "تمر أسابيع وشهور دون أن نتمكن من التوصل بإشعارات تخصنا، وأحيانا نضيع في تعويضات مالية مهمة، لأن الإشعار بتعديل ملف منقوص لا يصل إلى المنزل في موعد معقول، وبالتالي لا يضمن المؤمن استرجاع مصاريف علاجه، بعد انصرام سقف الأجل المحدد في تسوية الوضعية"، يقول مستخدم في شركة للنسيج متحدثا للجريدة؛ "تكرار هذه المواقف يدفعك لأن تكره وجودك بالمغرب". لكن مصدرا مسؤولا بالوكالة، التمس عدم الكشف عن هويته مخافة المساءلة، أوضح ل "أخبار اليوم" بأن هذه المشاكل تنسحب على المنظومة ككل، حيث تجد مشكل الإرساليات وغيرها في جميع المدن التراب الوطني، وهذا تتحمل مسؤوليته الإدارة على الصعيد المركزي في الدارالبيضاء. تمضي الساعات نحو موعد نهاية توقيت العمل، وما يزال المواطنون يتوافدون على الوكالة، عقارب الساعة تجاوزت الساعة الثالثة والنصف، حارس الأمن الخاص أنزل البوابة الإلكترونية مقفلا الولوج في وجه القادمين في الرمق الأخير من اليوم، ولا تنفع عبارات الاستعطاف والرجاء، ولا مبررات قطع مسافة طويلة قبل الوصول، ولا حتى عروض من نوع "التدويرة" مع الحارس الخاص، لدخول أي أحد لأن التعليمات صارمة، يقول عون الحراسة لمستعطفيه "حنا غير خدامين إذا خليتك نتا وآخر تدخل سوف أتلقى لوما شديدا من المسؤولين". 6 23 موظفا لأكثر من 1300 مرتفق يصل عدد المواطنين الذين تستقبلهم وكالة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المتواجدة بمقاطعة السواني، حوالي 1000 مرتفق حسب المعدل اليومي، لكن هذا الرقم يرتفع لأزيد من 1400 شخص في بعض الأيام، مثل يومي الخميس والجمعة، حيث يكون الاكتظاظ على أشده، وتتجاوز عدد الملفات التي تستقبلها مصالح هذه الوكالة، أزيد من 3 آلاف ملف، تتوزع على ملفات التعويض عن المرض وطلبات تحمل الرعاية الطبية التي تستفرد بحصة الأسد، بأزيد من 1300 ملف، تليها مصلحة تحيين المعطيات العائلية وطلب الشواهد الإدارية، بنحو 600 ملف، فيما تتوزع باقي الملفات على مصالح التعويض عن فقدان الشغل، والتعويض عن العجز الجسدي، وحوادث الشغل، والتعويضات اليومية عن الأمومة، واسترداد الاشتراكات الأجرية. هذا الكم من المهام يشرف على إنجازها نحو 23 موظفا، حسب مصدر الجريدة، والذي عبر بدوره عن انزعاجه من الخصاص في الموارد البشرية العاملة بالوكالة، ويصف المتحدث طريقة العمل قائلا؛ "نشتغل كأننا في حالة طوارئ، نظل طول اليوم في حالة استنفار قصوى، الساعة الثالثة بعد الزوال، و لم نتمكن من المغادرة لتناول لقمة الغذاء، لا يعقل أن نترك عشرات المواطنين في قاعة الانتظار ونغادر مكاتبنا في وقت واحد". لكن بالمقابل، يردف المتحدث، "العامل البشري جزء من مشكل الازدحام والاكتظاظ، إذ يأتي مواطنون من مناطق بعيدة توجد بها وكالة قريبة منهم، حيث توجد ثلاث وكالات في طنجة، وواحدة متنقلة في المنطقة الصناعية، لكن مع ذلك لا يمكننا إرجاع المواطنين بعدما يقضون مدة طويلة من الانتظار.