تجمع بين المغرب وإسبانيا العديد من المصالح السياسية والاقتصادية، لكن ما يهمنا في هذه الدراسة هو الجانب الثقافي، لما يكتسيه من أهمية كبيرة في تعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات. وذلك بفضل القرب الجغرافي، والتراث التاريخي، والحضاري المشترك بينهما. ممّا جعلهما ينفردان بخصوصّيات، ومميّزات أدت بهما إلى خلق نوع من التفاعل والثثاقف، والحوار، والتواصل الثقافي في العلاقات بين البلدين منذ عدّة قرون. تعد إسبانيا هي أكثر مكان تطورت فيه الثقافة المغربية، وكان تأثير هذا الاتصال فعالا ومثيرا، بسبب انفتاح المغرب على المؤثرات المتوسطية، مما أدى إلى نجاح العلاقات الثقافية بين مثقفيها. فكيف أثرت العلاقات المغربية – الاسبانية على الجانب الثقافي؟ وهل كان الأدباء والشعراء المغاربة مؤهلين ومستعدين ثقافيا للانفتاح على الآخر؟ اتخدنا مدينة تطوان أنموذجا، لنمثل من خلالها الأثر الإيجابي للعلاقات الثقافية والتاريخية بين المغرب وإسبانيا في ظل الحماية، باعتبارها (تطوان) مركزا للثقافة والإبداع، لما عرفته من تغيير وانفتاح الشعراء المغاربة على الثقافة العربية والغربية والاستفادة منها، كما تعد منطقة الشمال المغربي، منطقة استثنائية ومتميزة، لما عرفته من ظهور الصِحافة المكتوبة والمجلات الأدبية الحديثة مزدوجة اللسان [عربية – إسبانية] في المغرب. (المعتمد-1 وكتامة)2. نتج عن العلاقات الثقافية بين المغرب وإسبانيا عدة أنشطة ثقافية متميزة، تمثلت في انتقال الكتب عن طريق الإهداء، والترجمة، والاقتناء، بالإضافة إلى إتقان كل من الطرفين لغة الآخر. نتيجة عدة عوامل ثقافية، وتاريخية، وحضارية، وجغرافية. عرفت منطقة الشمال المغربي في فترة الاستعمار، نهضة ثقافية استثنائية ومتميزة عن باقي مدن المملكة، بفعل التراكم الثقافي المنفتح على الآخر الغربي والعربي، الذي وسم تلك الفترة. إن تجديد التعامل مع هذه المنطقة دليل على الوعي الثقافي بواقع يتعين الانتباه إليه، وبحلقة شعرية انفتحت على الكتابات التاريخية التي تأثرت بها حلقة شعرية مغربية – إسبانية، برزت إلى الوجود كبذرة حداثية عرفها المغرب في العقود [1940-1960] خصوصاً في تطوان، بصفتها مركزاً حرًّا وكونياً، احتضن أصواتاً شعرية من بعض جهات العالم، ولكنها ظلت منسية من لدن الذاكرة الثقافية المغربية، كما كتب محمد بنيس: «لقد قامت الذاكرة المغربية بنسيان تطوان ولحظة حداثتها الشعرية».3 عرفت كل من الثقافتين الإسبانية والمغربية، تطورا هاما طيلة فترة الحماية الإسبانية بالمغرب [1912-1956] عُرفت بالعصر الذهبي الثقافي. ويعرض كتاب الحركة الثقافية الإسبانية في المغرب لباردراما فرانسيسكو مارتينث، معلومات هامة عن التطور الثقافي في ظل الحماية الإسبانية في المغرب. شهدت كل من الثقافتين الإسبانية والعربية تطوراً كبيرا في شمال المغرب، وبالخصوص عاصمتها المحتلةتطوان، بفضل انفتاح كل منهما على ثقافة الآخر.4 فقد كان هذا التطور الثقافي مشروطاً بعدة عوامل منها: الأنشطة الثقافية في شتى المجالات، تمثلت في المحاضرات، والندوات، وتقديم العروض، والأعمال المسرحية، والاجتماعات السياسية، والبحوث العلمية، والمنشورات الأدبية المتمثلة في الكتب، والجرائد، والمجلات، بالإضافة إلى محطة الإذاعة المحلية، كانت هذه الأنشطة متكررة في المدن الشمالية المغربية المحتلة، مثل: طنجةوالعرائش، وسبتة، ومليلية التي عرفت بدورها نفس الأنشطة الثقافية. نفسر أهمية هذه الأنشطة في شمال المغرب بتطور البنية الثقافية في المدن الرئيسية في شمال المغرب، كبناء قاعات السينما، والمسارح. مثل: مسرح سيرفانتيس Cervantes بطنجة، وسنيما أبينيدا Avenida بتطوان، والمكتبات، مثل: مكتبة الحماية الإسبانية، وتدعى حالياً بالمكتبة العامة والمحفوظات، والمدارس الإسبانية، والمدارس الخاصة المغربية، مثل: مدرسة Pilar والمدرسة الأهلية Al Ahliya ومعهد Ramon وCajal بطنجة، بالإضافة إلى الجمعيات الثقافية، والاجتماعية، والرياضية، والمراكز، ومعاهد Cervantes، والبرامج الثقافية للقنصلية الثقافية للسفارة الإسبانية في المدن الرئيسية، ليس بالشمال فحسب، بل في المغرب كله أيضا، بالإضافة إلى دروس الدعم الإسبانية، والبرامج الثقافية الممتدة طيلة السنة.5 لم تمنع التأثيرات الثقافية المشرقية والإسبانية في شمال المغرب، من الاتصال المستمر بالمثقفين6 مع باقي مدن المملكة، بالرغم من الحواجز، التي تفصل المنطقة الواقعة تحت السيطرة الإسبانية عن المنطقة الخاضعة تحت السيطرة الفرنسية؛7 لقد كان لارتفاع مستوى التقدم الثقافي في شمال المغرب طيلة فترة الحماية، أثر قوي ومهم بعد الاستقلال عام 1956؛ إذ تم تعيين فئة من مثقفي المنطقة في مناصب مهمة في الإدارات والتعليم في العاصمة الوطنية وفي المناطق المجاورة.8 من بين القنوات التي رسخت هذه العلاقات الثقافية أيضا الصحافة، والبعثات، والمعرفة باللغة الإسبانية وأدبها، وعن طريق عدد من الأعمال المترجمة، ودراسات عن الأدباء الإسبان والغربيين؛ فكان لذلك كله أثر في كسر الحواجز وتذويبها بين الأدبين العربي والغربي، خاصة في مجال الشعر. وأدت الجهود المبذولة في مجال الترجمة إلى ظهور مجلتين عرضتا مظاهر التأثير والتأثر، اختصتا بترجمة الآثار الأدبية إلى اللغتين، وعرض نماذج من إبداع الأدباء العرب، وهما مجلة المعتمد، ومجلة كتامة ملحق مجلة تمودة. ثم توالى الاهتمام بعد ذلك بالأدب المغربي على يد نخبة من الدارسين الجامعيين في إسبانيا منذ أن أصدر بيدرو مارثينث Pedro Martinez كتابه الشعر العربي المعاصر Poésia Arabe Contemporana في أواسط الخمسينيات.9 شهد اهتمام الإسبان بالشعر المغربي الحديث من خلال ترجمة بعض الدواوين، وفي مقدمتهما العملان الشعريان لمحمد الصباغ شجرة النار El Arbol de Fuego، وأنا والقمر La Luna y yo، اللذان يظهر فيهما بوضوح ذلك التأثير الذي كان للشعر الإسباني المعاصر في جيل من الشعراء الشباب يومئذ10. وعلى الرغم من أن الأدب المغربي الحديث، الذي عرف طريقه إلى الإسبانية كان معدوداً، فإنه قد حقق فائدتين اثنتين: أولاهما، إطلاع القارئ الإسباني على ألوان من الإبداع الأدبي والشعري في المغرب، وثانيتهما وضع جملة من النصوص الأدبية والشعرية في متناول النقاد والدارسين.11 تلك هي أهم العوامل الثقافية التي ساهمت في إذكاء النشاط الأدبي، وتوجيه الحياة الأدبية بهذه المدينة التي تألق بها أدباء مغاربة في مجالات النثر والشعر، والذين رفعوا أعلام النهضة الحديثة التي عرفها المغرب المعاصر قبل الاستقلال وبعده.12 مثل التفاعل الثقافي استمرارا لتاريخ مشترك، وعلامة أيضا على ما كان البحر الأبيض المتوسط يمثله من مستقبل لإبداعية القصيدة العربية الحديثة. إن ارتباطها بالمتوسط قديم جدا؛ ففي العصر الحديث تبدى الفضاء المتوسطي كمستقبل للقصيدة العربية، حيث كانت القصيدة تتوجه نحوه، ساعية إلى تحديث التسمية وتحديث العلاقة مع الذات والآخر.13 من هنا، سعىت العلاقات بين المغرب – إسبانيا تاريخيا وثقافيا وبالخصوص منطقة الشمال المغربي، إلى إثبات التداخل والتعايش والتفاعل الثقافي، وذلك بالتركيز على قنوات الاتصال الثقافي ونتائجه. مما نتج عنه انفتاح المغرب على المؤثرات المتوسطية، مما أدى إلى نجاح العلاقات الثقافية بين مثقفيها. المصادر والمراجع المراجع العربية حسن الوراكلي، الأدب المغربي الحديث في اللغة الإسبانية، ندوة حول جوانب من الأدب في المغرب الأقصى، جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، ط، 1، 1986. خليفة، الحياة الأدبية بتطوان:النثر الفني (1912-1956) /في تطوان في عهد الحماية 1912-1956، مجموعة البحث في التاريخ المغربي والأندلسي، كلية الآداب-جامعة عبد المالك السعدي- بتعاون مع منشورات المجلس البلدية لمدينة تطوان، 1992. عبد المالك عليوي، بنية الإنتاج الأدبي الحديث بشمال المغرب الإطار والخلفيات، منتدى العرفان للبحث المعرفي والتنمية والتواصل، أصيلة، والمركز المتوسطي للدراسات والأبحاث، طنجة، ط1، 2007. محمد بنيس، الحق في الشعر، دار توبقال للنشر، ط1، 2007. المراجع بلغات أجنبية Bennaboud Mhammad: reflexiones sobre las relaciones culturales entre España y El Norte de Marruecos, revue de la Faculté des lettres, N13, 2006. الهوامش: 1- أول مجلة أدبية عربية إسبانية صدرت منذ نهاية الأربعينات في العرائش أولا [مارس 1947] على يد ترينا مريكادير، ثم بعد ذلك في تطوان حتى منتصف الخمسينات- علامة على وعي شعري حديث ينطلق من الحوار بين الشعراء الإسبانيين والشعراء المغاربة. تشتمل على قسمين: قسم باللغة العربية، وكان يشرف على تحريره محمد الصباغ، وقسم باللغة الإسبانية وكان يشرف على تحريره بيوكوميث نيسا. 2- ملحق أدبي بالعربية والإسبانية لمجلة تمودة التي كانت تصدر بتطوان باللغة الإسبانية، وقد صدر العدد الأول من مجلة كتامة بتاريخ يونيو 1953م. وتولى إدارتها الإسباني خاثينطو خورخي، وكانت تقدم مقتطفات من الأدبين العربي والإسباني، وقد ساهم في تحرير القسم العربي والترجمة عدد من الأساتذة المغاربة، منهم: محمد الصباغ وعبد اللطيف الخطيب ومحمد العربي الخطابي، وكانت من وسائل الاتصال بين الأدبين العربي والإسباني، وقد صدر منها ثلاثة عشر عددا، آخرها عدد ديسمبر 1959. 3- عبد المالك عليوي، بنية الإنتاج الأدبي الحديث بشمال المغرب الإطار والخلفيات، منتدى العرفان للبحث المعرفي والتنمية والتواصل ،أصيلة، والمركز المتوسطي للدراسات والأبحاث، طنجة، ط 1،2007،ص،20. -4 Mhammad Bennaboud: reflexiones sobre las relaciones culturales entre España y Marruecos, P 41. -5 Ibid :p :42. 6- من الأسماء البارزة في الساحة الثقافية نذكر كل من: محمد داود، عبد الخالق الطريس، عبد الله كنون، التهامي الوزاني، علال الفاسي، الشيخ محمد المكي الناصري، محمد الخطيب، محمد بنونة … -7 Ibid, p: 42. -8 Ibid, p: 43. 9- حسن الوراكلي، الأدب المغربي الحديث في اللغة الإسبانية، ندوة حول جوانب من الأدب في المغرب الأقصى، جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، ط، 1، 1986، ص. 434. 10- المرجع نفسه، ص، 467. 11- المرجع نفسه، ص، 468. 12- خليفة، الحياة الأدبية بتطوان: النثر الفني (1912-1956) /في تطوان في عهد الحماية 1912-1956، مجموعة البحث في التاريخ المغربي والأندلسي، كلية الآداب -جامعة عبد المالك السعدي- بتعاون مع منشورات المجلس البلدية لمدينة تطوان، 1992، ص، 92. 13- محمد بنيس، الحق في الشعر، دار توبقال للنشر، ط 1، 2007، ص، 54.