تتجلى حداثة هذه الرواية أيضاعلى مستوى الكتابة والبناء ، و في توظيف تقنيات تنتمي إلى أجناس أدبية أخرى كما أشرنا في البداية . وهذا من طبيعة الكتابة الروائية التي تتسم بالإنفتاح و الحرية وتعدد اللغات والأصوات . فالحدود بين الأجناس أصبحت في الكتابة الحداثية مفتوحة ولا يوجد جنس أدبي صاف ونقي مائة بالمئة ، وجميع الأجناس تتضمن عناصر من أجناس أخرى ..وأصبح المعيارالمعتمد في عملية التجنيس و التمييز بين النصوص هو « المهيمنة « (8) أي مراعاة نوعية التقنيات المهيمنة على النص ، التقنيات الشعرية أو السردية أو المسرحية... وبرغم هيمنة تقنيات السرد والوصف والرسائل على هذا العمل فإنني أزعم أن فيه بعدا شعريا يتضمن بعض سمات ومكونات الرؤيا الشعرية ، وخاصة في بعض الرسائل المتبادلة بين فوز و يوسف الشاعر العراقي المقيم في لندن. وطبيعي أن تحمل رسائل « يوسف « الشاعرسمات الكتابة الشعرية ، وتحمل رسائل « فوز»بعض ملامح الرؤيا الشعرية ، وهي كاتبة القصة المهتمة بالفن والأدب والشعر. تقول : « سأمنحني فرصة أخرى وشيقة ، روحها المجاز والشعر والإفتراض ، مغالبة القدر الذي لم يكن رحيما بي على كل حال...»، «... ها أنا أعكف لأشهر على قراءة شعر يوسف ، فأثمل من الموسيقى والفرح ..» (ص:106 110 ) . وأقصد هنا الرؤيا الشعرية بمفهمومها النوعي العام باعتبارها رؤيا متميزة تقوم على النظرة الكلية المطلقة التي ترى العالم بدون زمان ومكان محددين، تبطل الحدود بين الأشياء وتعبر بكلام دون نفي أونقيض كما يقول جان كوهن (9) . فالعالم الشعري بهذه الصفات هو عالم مطلق ، وخاصة في بعده الوجداني والرمزي الذي يعجز عن إدراكه الخطاب العلمي أو اليومي .. (10) . ويمكن أن نمثل لحضورهذه الرؤيا الشعرية في الرواية من خلال النصوص والمقاطع الدالة التالية التي تبدو أشبه بنصوص قصيدة النثرفي شكلها الهندسي وتعبيرها عن الذات و لغتها الوجدانية التي توظف الصورة والرمز والإنزياح والتقابل الدلالي ، وبعض آليات التكراروالتوازي والإيقاع الصوتي التركيبي والدلالي : 1 المطركان يهطل طوال الليل إيقاع قطرات الماء على السقوف و الأرصفة ، هو ذات إيقاعك في روحي وجسدي . أحبك .. و حبك حلمي وسفر تكويني . كأن الحياة خلقت للتو.. وكأن الأشياء ليست لها أسماء.. أنت خالقتها وصاحبة الإمتياز في تسميتها.. (ص :36) 2 المرأة في القلب وفي المخيلة .. المرأة ليست كائنا أرضيا.. إنها مخلوق سماوي.. تصوري العالم من دون امرأة ؟؟ ممكن ؟؟؟ . (ص:19) 3 مثل مهرة وعاشق.. أطوف معك مدن الجسد كي أجد نفسي فيك .. (ص:6) !! 4 أنا بالقرب من البحر الموج يعزف لي وقلبي يعزف لك أنام في أحضان كلماتك الجميلة ..(ص:112 113) 5 أنت في قلبي المتعدد صديقة عذبة وأشياء أخرى لا أعرفها.. تطلعي نحوي دون أن تلمسيني ، لأنني سأتلاشى (ص:117) 6 ترقصين معي في منتصف العتمة بشهية طفل وحين نمت وجدتك إلى جانبي في بستان مورق ، بشفاه حمراء و صفراء وزرقاء وبنفسجية .. ألوان و ألوان وألوان.... ونمنا على العشب ، تغطي أجسادنا ظلال السحب البيضاء.. وأسمعك تضحكين و تضحكين . فجأة أجدني وحدي . (ص:142) هذه الصور والتراكيب الإنزياحية وأخرى غيرها ،أضفت الطابع الشعري على الأحاسيس والعواطف والمتخيلات وعلى مظاهر الحياة والطبيعة والأشياء في كثير من فصول الرواية ، لأنها « تنقل الشعرية من اللغة إلى الأشياء الجميلة « كما يقول كوهن (11) . و أضفت بذلك جمالية خاصة على الرواية محولة إيقاع الكتابة فيها من رتابة السرد والوصف إلى حيوية الرؤيا الوجدانية وفتنة الخيال و التصويروالإنزياح القائم على خرق المعتاد و المألوف في اللغة والسلوك والعلاقات بين الناس والأشياء . وهوما ميز هذه الرواية بطابع فني خاص مثير للإهتمام في حقل الكتابة الروائية بالمغرب . خلاصة : من خلال المميزات الفنية و الدلالية التي عرضناها يتأكد لنا أن هذه الرواية ببنائها السردي المتوازي والمتقابل وبعدها الوجداني الشعري، و بأبعادها الإجتماعية والنفسية والثقافية ، تبلور موقفا حضاريا عاما ورؤية متجانسة تقوم على رفض الواقع و الإحتجاج على العقلية المتحكمة فيه ، وعلى حالة الصمت و الخوف والتردد المهيمنة عليه ، بفعل انطلاقها كما افترضنا سابقا من وعي حداثي ينشد واقعا أو مجتمعا أكثرتحولا وحركية و انفتاحا ، بحثا عن قيم جديدة تخلصه من أغلال الجمود والتقليد والإستلاب و الإستسلام التي تقيده. ومن خلال هذه الرؤية تجسد هذه الرواية إحدى الوظائف الراقية للكتابة الأدبية وتؤكد أهميتها و ضرورتها في حياتنا المعاصرة . وقبل الختام أتساءل انطلاقا مما واجهته فوز في طريقها من إحباطات وعوائق وصراعات وآلام وما اتصفت به من انفتاح و تحرر وجرأة : هل نحن الذين يجب أن نختارأو نشق الطريق الذي نريده في حياتنا ؟..أم أنه ينبغي أن نسيرفي الطريق المحددة لنا مسبقا من طرف المجتمع ؟، أم أن نحاول التوفيق بين الحرية والرغبة وظروف وإكراهات الواقع التي تجبرنا على السير في طريق معين ؟. أقترح للإجابة عن هذا التساؤل ثلاثة أسطر شعرية موحية وذات دلالة رمزية عميقة في هذا الموقف الإشكالي. وهي للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشاذوAntonio Machado (12) ، يقول فيها : أيها السائر ، لا طريق.. الطريق تتعبد حينما تسير حينما تسير تتعبد الطريق .. (13) هوامش : 1 ظلال وخلجان سنة 1994 مشارف التيه 1996 مطر المساء 1999 شرخ الكلام2002 بعض من جنون 2002 أجنحة الحكي2006 كلام ناقص2010 2 صدرت عن دار توبقال ، البيضاء ط1 / 2013 3 لسان العرب موقع الباحث العربي www.baheth.info 4 نقلا عن مقدمة كتاب « الحداثة « ? نصوص مختارة ? إعداد وترجمة : م.سبيلا و ع.بنعبد العالي- س.دفاتر فلسفية عدد: 6- دارتوبقال ط1/1996- ص: 5 5 سعيد بنكراد : شخصيات النص السردي منشورات كلية الآداب بمكناس 1994 ص: 42 نقلا عن كريماص : Du sens II-Ed .Seuil1983 ? P :64 78 6 سعيد بنكراد : الجسد ، اللغة وسلطة الأشكال مجلة علامات ، العدد: 4 /1995 ص: 61 7 تزفيتان طودوروف : الأدب في خطر ت: عبد الكبير الشرقاوي دارتوبقال ط1 / 2007 ص : 45 8 الشكلانيون الروس : نظرية المنهج الشكلي ت: إبراهيم الخطيب منشورات مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت والشركة المغربية للناشرين المتحدين بالرباط ط1 /1982 ص:81 9 جان كوهن : الكلام السامي ت : محمد الولي دارالكتاب الجديد المتحدة ، بيروت ط1 / 2013 ص:117 10 عن مقدمة محمدالولي لترجمة كتاب «الكلام السامي» ص:23و26 11 جان كوهن : الكلام السامي (م.س.) ص : 38 12 شاعر إسباني (1875 1939 ) من الحركة الأدبية الإسبانية المعروفة باسم جيل 98 13 نقلا عن مقدمة محمد الولي لترجمته لكتاب «الكلام السامي « (م.س.) ص : 41