الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب العراقي جودت هوشيار ل«طنجة الأدبية»: تحول روسيا إلى الرأسمالية أدى إلى موت الأدب الروسي وسيادة الثقافة الاستهلاكية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 07 - 2019

*** جودت هوشيار ناقد ومبدع عراقي، وهو أيضا مهندس أبدع في نحت الحرف في الإبداع العربي باقتدار من خلال كتابات نقدية متميزة، ومن خلال ترجمة نصوص أدبية نثرية وشعرية لكبار الأدباء الروس، وكان له الفضل الكبير في التعريف بأسماء روسية لم تحظ بالتعريف والترجمة الكافيين في العالم العربي. لذلك عملت مجلة «طنجة الأدبية» على استضافته على صفحاتها، للتحاور معه حول جملة من القضايا الإبداعية العربية والروسية.
ما سر اهتمامك بالأدب الروسي؟ وهل يمكن التحدث عن التحولات التي عرفتها القصة أوالرواية؟
عشقت الأدب الروسي منذ يفاعتي، وقرأت معظم ما صدر من الأعمال الأدبية الروسية المترجمة الى اللغة العربية، وبعد سفري الى روسيا – في بعثة دراسية على نفقة الحكومة العراقية ودراستي للغة الروسية – قرأت تلك الأعمال وأعمال أخرى كثيرة بلغتها الأصلية. وخاصة الأدب الروسي الكلاسيكي، التي أعتقد أنها تحتل مكان الصدارة في الأدب العالمي. وخلال إقامتي في موسكو اكتشفت الثراء الباذخ للغة الروسية، حيث يمكنك التعبير بهذه اللغة عن أدق وأعمق الأحاسيس والمشاعر والانفعالات والأفكار. إن اللغة الروسية قد تبدو غريبة لمن لا يعرفها، ولم يسعفه الحظ للدخول الى جنة الأدب الروسي الكلاسيكي، ولكن يكفي ان تقرأ عدة أبيات لأمير الشعراء الروس الكساندر بوشكين بلغتها الأصلية لتدرك جمال هذه اللغة وموسيقاها الساحرة.
اما بخصوص التحولات التي شهدتها القصة والرواية فلا يمكن تلخيصها في هذه العجالة، ولكن يمكن القول إن القصة القصيرة الفنية أو التحليلية من أصعب الفنونالسردية، لذا نجد في كل بلد عددا محدودا من المتميزين في فن القصة القصيرة بين مئات من كتابها.
في زمن موباسان كان هناك مئات الكتاب الفرنسيين يكتبون القصة القصيرة، ولكن أين هم الآن؟ لقد طواهم النسيان وظل موباسان شامخا. وكذلك الحال في روسيا سواء في زمن تشيخوف او بونين أو بابل. القصة القصيرة ليست ملخصاً لرواية. ان لها مقوماتها الخاصة التي تختلف عن مقومات الرواية. فالرواية تتعدد فيها الشخصيات والحوادث والمواقف، ومجال الإسهاب فيها متسع جداً، مثل تضمين نصوص من أجناس مختلفة، وأكبر قدر ممكن من الآراء والأفكار ذات الصلة، في حين ان القصة القصيرة تدور في نطاق حدث رئيسي واحد في العادة، وتركز ضوءً قويا على شخصية واحدة أو بضع شخصيات، أو على فكرة أو مشهد أو على شيء خاص.
تطور الرواية بمراحلها المختلفة معروف لكل متابع، ولكني أود أن اشير الى الاهتمام العالمي بالرواية الفتية – الوثائقية، التي دشنها الكاتب الأميركي ترومان كابوتي، منذ اواسط الستينات من القرن الماضي. والى الرواية البوليفونية الجديدة، التي يتزعمها أربعة كتاب؛ بيلاروس من روادها الأوائل.
وفي عام 1977 صدر في موسكو رواية: «أنا من القرية المحروقة» من تأليف ثلاثة كتاب بيلاروسهم، اليس اداموفيتش (1927-1994) ويانكه بريل (1917-2006) وفلاديمير كوليسنيك (1922). وتتضمن هذه الرواية شهادات حوالي 600 شخص نجوا من الموت بأعجوبة عندما قام الجيش النازي الألماني عام 1944 بحرق مئات القرى خلال احتلاله لجمهورية بيلاروسيا في الحرب العالمية الثانية. فكرة هذا الكتاب وصياغته على شكل رواية وثائقية متعددة الأصوات تعود الى أداموفيتشتحديدأً، والذي كان على قناعة تامة بأن الكتابة عن مآسي القرن العشرين الكبرى، بلغة النثر الفني التقليدي أي على شكل (رواية خيالية)، تعني الاستهانة بمعاناة ضحايا تلك المآسي وجرح شعورهم. وهو أمر يثير التقزز، ومرفوض أخلاقياً، حيث لا يجوز في هذه الحالة أن نتخيل أو نختلق، بل ينبغي التعبير عن الحقيقة على نحو فني من دون قناع، أو تحريف، أو تزويق. والرواية البوليفونية الجديدة أشبه بجوقة درامية جبارة لأصوات متعددة، يختفي فيها صوت المؤلف أو الراوي وتحل محله أصوات الناس. وقد طورت سفتلانا الكسيفيتش هذا النوع الجديد من الروايات الفنية – الوثائقية، وتُوجتْ أعمالها بمنحها جائزة نوبل في الآداب لعام 2015.
لعلك قربت القارئ العربي من الأدب الروسي خاصة من الكتاب الذين كتابتهم غير مترجمة للعربية؟
لم يطلع القارئ العربي سوى على جزء يسير من الأعمال الأدبية الروسية الكلاسيكية لبعض كبار الكتاب الروس (غوغول، تورغينيف، تولستوي، تشيخوف، غوركي) فعلى سبيل المثال تتكون المؤلفات الكاملة لتولستوي من تسعين مجلداً، وتشيخوف من خمسة عشر مجلدأً. كم من هذه الأعمال ترجمت الى العربية؟ أقل من الربع في أفضل الأحوال. ومن حسن الحظ أن أعمال دوستويفسكي شبه الكاملة قد ترجمت إلى العربية من قبل سامي الدروبي، ولكن من لغة وسيطة هي اللغة الفرنسية. ولم تترجم نتاجات كتاب كلاسيكين روس كبار آخرين مثل كورولينكو، وشدرين، وغونجاروف، وإكساكوف، وعشرات غيرهم من فحول الكتّاب.
ايفان بونين هو أول كاتب روسي حاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1933، شرعنا بترجمة أعماله منذ عام 1973 حين كان مجهولاً تماما بالنسبة إلى القارئ العربي. وعندما صدر كتابي المعنون «دراسات معاصرة» عن وزارة الثقافة العراقية عام 1973، وفيه إشادة بالفن القصصي لدى ايفان بونين. كتب عميد النقد الأدبي العراقي الحديث المرحوم الدكتور على جواد الطاهر مقالا في جريدة الجمهورية البغدادية يقول فيه ما معناه اننا لم نسمع باسم ايفان بونين، وطالبني أن أترجم بعض قصص بونين لأثبت صحة ادعائي. وقد استغربت ذلك في حينه، لأن الطاهر كان من أوسع النقاد والأكادميين العراقيين اطلاعا على الأدب الفرنسي، وقد حصل على درجة الدكتوراه في الادب من جامعة السوربون. وله دراسة مطولة ورائعة عن نأريخالقصة القصيرة في الأدب العالمي نشرها في ملحق مجلة «المعلم الجديد» العراقية الصادر في كانون اول 1957. ولم يشر فيها الى روائع ايفان بونين في القصة القصيرة رغم ان معظم نتاجات بونين ترجمت الى اللغة الفرنسية أكثر من مرة. وعندما كان الطاهر في باريس كانت شهرة بونين مدوية وواسعة.
ولا يعرف القارئ العربي من الأدباء السوفييت الا بعض نتاجات عدد محدود من أولئك الذين روجت لهم دور النشر اليسارية في العالم العربي في العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، مثل شولوخوف وألكسي تولستوي. أو بعض الأدباءالسوفييت المغضوب عليهم في بلادهم من قبل السلطة السوفيتية خلال السنوات اللاحقة، مثل باسترناك الذي ترجمت روايته (دكتور زيفاكو) ترجمة تجارية مشوهة ومبتورة، في حين أن باسترناك شاعر عظيم في المقام الأول. ولم يترجم من أعمال سولجنيتسن، الا تلك التي أثيرت حولها ضجيج سياسي مغرض في الغرب. ولم يترحم شيء من أعمال أكسيونوف الرائد المؤسس للأدب الروسي المعاصر. وحتى الآونة الأخيرة لم يكن القارئ العربي قد عرف اسماءً لامعة في الأدب السوفياتي مثل بلاتونوف وبيلنياكوز وشينكو وماندلشتاموشالاموف، وعشرات غيرهم. لهذا كله أحاول التعريف بأولئك الكتاب والشعراء العظام، الذين لم يسمع بهم المثقف العربي ناهيك، عن المتلقي العادي. وثمة أمر آخر بالغ الأهمية، وهو أن معظم ما ترجم الى العربية من الأعمال الأدبية الروسية كان عن طريق لغتين وسيطتين، هما الإنجليزية والفرنسية، وليس عن الروسية مباشرةً.
هل سبق ان ترجمتَ من العربية أو الكردية للروسية؟
انا لا اترجم من الروسية او الإنجليزية، الا ما استمتع بقراءته، ويهزني من الأعماق، ترجمة أمينة صادقة أحاول أن أعبر فيها عن روح النص وأحرص على ايقاعه، وقد يستغرب البعض هذا القول، ولكني أرى أن لكل نص فني حقيقي ايقاعاً معينا. ومن لا يحس بذلك، تكون ترجمته ميتة لا تعكس روح النص الأصلي. والهدف من ترجماتي هو إشراك القارئ في المتعة الذهنية التي شعرت بها عند قراءتي لتلك الروائع الأدبية.
ولم اترجم من العربية او الكردية الى الروسية لأن الكثير من أعمال الكتّاب والشعراء العرب مترجمة الى الروسية. وثمة عدد من الكردلوجيين الروس الذين نقلوا الى الروسية عيون الأدب الكردي الكلاسيكي، وقد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل في كتابي المعنون «ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ». ولا أرى حاجة لتشتيت جهودي للقيام بالترجمة بين عدة لغات. لأن الترجمة لا تشكل عندي الا نشاطاً هامشياً في مسيرتي. ويبدو ان الروس أنفسهم مهتمون بترجمة مقالاتي عن الأدب الروسي الى لغتهم، وأنا ممتن لهم.
قلت يوما في دراسة لك بأن القصة القصيرة جداً ليست فنا أو جنسا أدبيا جديدا كيف ولماذا؟
القصة القصيرة جداً أو المنمنمة -ليس جنساً أدبيا مستقلا عن القصة القصيرة، حيث لا توجد حدود واضحة بينهما. والمنمنمة كشكل من أشكال القصة القصيرة موجودة في الأدب العالمي منذ نشأة القصة القصيرة الفنية ذاتها. وقد برع فيها هنري جيمس، وتورغينيفوتشيخوف، وبونين. وفي الأدب العربي جبران خليل جبران وزكريا ثامر ونجيب محفوظ، وسهيل ادريس وغيرهم. ان معظم ما ينشر هذه الأيام تحت مسمى «القصة القصيرة جداً» لا ينتمي الى القصة القصيرة الفنية، وينم عن العجز الإبداعي في كتابة قصة فنية ناجحة. فهؤلاء الأدعياء لا تتوفر لديهم الموهبة ولا المهارة الكتابية لإنتاج قصة محكمة البناء، جميلة الأسلوب. ومع شديد الأسف هناك نقاد عرب أخذوا يكيلون المديح لهذه النتاجات الرديئة الهابطة ويتفلسفون حولها. وحكاية القصة القصيرة جدا في الأدب العربي المعاصر يشبه حكاية «الملك العاري» للكاتب الدنماركي هانس أندرسن، فهؤلاء النقاد يرون الملكفي ثياب مطرزة بالذهب، في حين أن الملك عار تماماً.
وماذا عن موت الأدب الروسي الذي تحدثت عنه في إحدى دراساتك النقدية؟
تتوحش المجتمعات بعد كل هزة سياسية عنيفة أو أزمة اقتصادية خانقة (الانقلاب، الاحتلال، الحرب الأهلية، الخراب الاقتصادي، الانتقال الفجائي الى نظام اقتصادي جديد) حيث تختفي القيم الإنسانية والأخلاقية والروحية، وينعكس ذلك على الثقافة على نحو كارثي. ولا يعود الفرد يفكر الا في نفسه، وتأمين حياته، وما يحقق به قوت عياله، ويتضاءل، بالمقابل،الاهتمام بالثقافة عموماً وبالكتاب الأدبي خصوصاً. وروسيا ليست استثناءً من هذه القاعدة.
في مثل هذه الظروف يشعر معظم القراء وحتى قسم من المثقفين بالحاجة الى الترويح عن النفس بعيداً عن متاعب العمل والأسرة، ومشاق الحياة، ويميلون الى قراءة الأعمال الأدبية الخفيفة المسلية، أو ما أسميه «أدب اللذة» الذي لا يترك حصيلة في الذهن، ولا أثراً في النفس. ومثل هذا الأدب لا يهتم بها النقاد ومؤرخو الأدب ويطويه النسيان سريعاً.
كان الشعب الروسي -الى عهد قريب- أكثر الشعوب اطلاعاً على الأدب الرفيع الروسي والعالمي. وقد تغيّر الحال بعد مشاريع الصدمة الاقتصادية التجريبية التي اتبعها بوريس يلتسن. وأدى الى إفقار معظم المواطنين الروس، وعجزهم عن اقتناء الكتب التي ارتفعت اسعارها كثيراً.
ورغم أن الظروف الاقتصادية في روسيا اليوم في تحسن مستمر، ولكن التحول الى الرأسمالية أدى الى سيادة ثقافة الاستهلاك، وجعل الكتاب الأدبي سلعة تطرح كأية سلعة أخرى في السوق.ودور النشر الكبرى في روسيا تهيمن اليوم على صناعة الكتاب والكاتب معاً. وهي ليست دور نشر بالمعنى المتعارف عليه، بل مؤسسات اعلامية – اشهارية في المقام الأول، تعمل على ترويج (الكتاب – السلعة) والهيمنة على الجوائز الأدبية الكثيرة في روسيا،وعلى خلق نجوم الأدب المزيفين عبر كل السبل من تلفزيون وشبكات عنكبوتية وصحف، وحفلات توقيع على الكتب. ولهذه الدور جيش من النقاد المرتزقة الذين يكيلون المديح لكتب فجة ومؤلفين تافهين، لا يتقنون حتى اللغة الأدبية الروسية.
إن نجوم الأدب الاستهلاكي، يتناولون في كتاباتهم السطحية موضوعات شديدة المحلية،وغير مفهومة أو غريبة للقارئ الأجنبي. وهم لا يعرفون سوى اللغة السوقية الشائعة في قاع المجتمع بين المدمنين على الكحول، وبائعات الهوى، ومثلي الجنس، و(أبطال) الجريمة المنظمة. وهذا مؤشر على الخواء الفكري والروحي لهؤلاء النجوم.
ويلعب الجانب المادي في هذا كله الدور الحاسم، فلم تعد لقيمة العمل الأدبي، أي اعتبار لدى دور النشر والإشهار الروسية، الذين يزعمون أن الأدب الرفيع لا يلقى رواجاً، وهذا محض كذب مفضوح، لأن روسيا كانت دوماً ولا تزال زاخرة بالمواهب الأدبية الخلاقة، وبالكتاب الكبار، ولكن لا يلقى هؤلاء من دور النشر والإشهار، إلا الصدود والإعراض، ويلجأ بعضهم الى طباعة أعمالهم الأدبية على نفقتهم الخاصة بأعداد قليلة ويعانون من مشقة ايصال نتاجاتهم الى الجمهورالقارئ.
وصفوة القول؛ فإن الأدب الروسي اليوم هو أدب محلي استهلاكي يفتقر الى كل ماهو انساني ومشترك بين الشعوب، وهو غير مفهوم للقارئ الغربي، حتى إذا ترجم الى اللغات الأخرى. ولهذا السبب تحديداً تراجع دور الأدب الروسي في العالموخاصة في الدول الغربية.
هل هناك تواصل ثقافي بين الكتاب الروس والعرب؟
أجل، ولكن في حدود ضيقة وخاصة بين الكتاب العرب وبين مترجمي الأدب العربي في روسيا والمستعربين الروس، الذين يزورون البلاد العربية، والكتّاب والشعراء العرب، الذين تلقوا تحصيلهم الدراسي في روسيا أو المقيمين فيها
ما صحة القولة الشهيرة «الترجمة هي خيانة للنص الأصلي»؟
هذا يعتمد على مستوى الترجمة ومدى تعبيرها عن روح النص الأصلي. يقال ان الشعر لا يترجم وهذا صحيح الى حد كبير، إذا كانت الترجمة نثرية او شعرية رديئة، ليس فيها لا روح النص الأصلي ولا ايقاعه، ولكن ثمة ترجمات شعرية رائعة ربما أفضل من الأصل مثل ترجمات بوشكين للشعر الفرنسي، وترجمات باسترناك لمسرحيات شكسبير، وهي إن لم تكن أفضل من الأصل فهي تكافئها دقةً وجمالاً. ولدينا في الأدب العربي ترجمات ممتازة لرباعيات الخيام لعدد من الشعراء العرب النابغين (أحمد رامي، واحمد الصافي النجفي). اما ترجمة النثر الفني او السرديات، فقد أصبح ميدانا لكل من يريد الحصول على المال والشهرة من أسهل الطرق. ولو كانت ترجمة ركيكة لقصة خفيفة.وغالبا تكون من لغة وسيطة.
وعندما كنت طالبا في موسكو في الستينات من القرن الماضي رأيت أن عددا كبيراً من الطلاب الغربيين، وخصوصا من الولايات المتحدة الأميركية يدرسون اللغة الروسية في جامعة موسكو والجامعات والمعاهد الروسية الأخرى. استفسرت من اولئك الذين كانوا معنا في جامعة موسكو عن سبب اختيارهم دراسة اللغة الروسية، فكانت أجوبة السواد الاكبر من هؤلاء الدارسين، أنهم جاؤوا ليتعلموا هذه اللغة – رغم صعوبتها-من اجل قراءة روايات تولستوي ودوستويفسكي وقصص تشيخوف وشعر بوشكين وماياكوفسكيويسينين باللغة التي كتبت بها. فقراءة الأعمال الإبداعية بلغتها الأصلية شيء، وقراءة ترجمتها في أي لغة أخرى، مهما بلغت درجة اتقان الترجمة -شيء آخر. النصوص الإبداعية، وخاصةالشعرية منها تفقد ايقاعها وكثيراً من رونقها وحرارتها في الترجمة.
هل تعرف شيئا عن الأدب المغربي وعن الكتاب المغاربة؟
المستوى الفني للأعمال الروائية والقصصية المغربية أعلى من معظم ما نشر خلال العقود الأربعة الأخيرة، وما ينشر اليوم في بقية انحاء العالم العربي. وأنا معجب بنتاج محمد شكري، والطاهر بن جلون، ومحمد زفزاف، وأحمد المديني وغيرهم. وأعتقد ان سر تفوق الكتاب المغاربة يكمن – اضافة الى مواهبهم الأدبية الكبيرة – في إلمامهم باللغة الفرنسية، واطلاعهم على الأدب الفرنسي العظيم. وبعض من ذكرت اسماءهم لهم مؤلفات باللغة الفرنسية، والبعض الآخر باللغتين الفرنسية والعربية.
كيف لنا أن نميز بين الكتاب الحقيقيين وآخرين أدعياء من وجهة نظرك؟
الكاتب الحقيقي يخلق عالمه الخاص، والأدب الحقيقي يستمد قيمته من جماليته وتعبيره عن عوالم الأعماق، وكونه شهادة إنسانية عابرة للزمان والمكان، ففي أساس كل أدب حقيقي هناك سعي لفهم الحياة وإدراك قضايا الوجود الإنساني وايجاد الشكل الملائم لإيصال ذلك الى الجمهور القارئ. أما أساس الأدب الاستهلاكي فهو انتاج سلعة قابلة للبيع والتسويق. وثمة فرق جوهري آخر بين هذين النوعين من الأدب يكمن في اختلاف الدافع للكتابة، الذي يحدد علاقة المؤلف بالجمهور القارئ. الكاتب الحقيقي صادق مع نفسه ومع الجمهور القارئ. ويقول الحقيقة دائماً وقد يصطدم بالسلطة أحياناً.
إن الدافع الأساسي لتغليب الأدب الهابط واكتساحه للمشهد الأدبي سواء في روسيا او غيرها هو تخدير وعي الجماهير، وإلهاء الناس عن همومهم الحياتية، وزرع الأنانية في النفوس وتحويل المجتمع الى مجتمع مادي استهلاكي، لا يعنى كثيراً بالقيم الروحية.
الكاتب الحقيقي يخلق شخصيات نابضة بالحياة، ويكشف عن عوالمها الداخلية،والقارئ يرى تلك الشخصيات مجسدة امام ناظريه، وفي الوقت نفسه يشعر بأن الخيال الممتع يسري خفيفاً لطيفاً في ثناية القصة بطريقة تثير حبهللاستطلاع إثارة متصلة، ويحس أنه يعيش مع ابطال القصة. يفرح لأفراحهم ويتألم لعذاباتهم. وكل قصة فنية أشبه بجبل جليدي، لا يظهر للسطح سوى جزء صغير منه. وكل قارئ يكمل القصة في خياله حسب تجاربه وخبرته الحياتية وثقافته.
أما الأدب المزيف فإنه سطحي، وتقريري مباشر، وشخصياته دمى يحركهم المؤلف بين يديه. وقبل فترة قرأت نص مقابلة مع روائي عراقي، جاء فيها: «أن شخصيات رواياته دمى بين يديه يحركها كما يشاء». في حين أن كاتبا عظيما مثل تولستوي مؤلف «آنا كارينينا» يقول إن آنا رمت بنفسها تحت عجلات القطار رغم أنف المؤلف، لأن كل أحداث الرواية قادت البطلة الى هذه النهاية المحتومة.
ماهو تقيمك للساحة الأدبية العربية في ظل التحولات التي يعرفها العالم؟
الأدب العربي المعاصر زاخر بالمواهب الكبيرة في القصة والرواية والشعر، وتتمثل فيه التيارات الأدبية السائدة في الأدب العالمي المعاصر. ولكن الأدب العربي يلقى اهتماماً أقل مما يستحقه، في الدول الغربية، وفي روسيا. ان العائق الكبير امام ترجمة جزء كبير من الأعمال الأدبية العربية الى اللغات الأجنبية هو أن الأدباء التقليديين يستخدمون الأسلوب الزخرفي، الذي لا عمق فيه، وألفاظعائمة وكلمات بلا معنى، وهي كلها لا تخل بالمعنى فقط، بل تشل قدرة الذهن على التفكير الناضج المحدد.
الجيل الجديد يتعجل النشر والشهرة قبل الأوان، وقبل امتلاك التقنيات الأساسية للفنون السردية، بينهم من لا يعير اهتماما كبيرا للغة التي يكتب بها. ويتركز اهتمامه على نسج العلاقات التواصلية مع أصحاب النفوذ في الساحة الثقافية والوسائل الإعلامية، ومانحي الجوائز الأدبية. أما قيمة العمل الأدبي فتأتي في المرتبة الأخيرة، لأن الكتاب الأدبي في العالم العربي أيضاً تحول الى سلعة في السوق. وتحول المتلقي الى مجرد مستهلك. والهدف الأساسي لدور النشر التجارية العربية هو نشر الكتاب الرائج وتحقيق أقصى الأرباح بصرف النظر عن قيمته الفكرية والفنية. إن مثل هذا الأدب يقود الى مزيد من الاستسهال والركود.
آلاف النصوص الجيدة تهمل لأسباب شخصية، ولا تأخذ حقها من التنويه والإشارة والإضاءة. وتفتقر الساحة الثقافية العربية الى نقاد يقيمون العمل الادبي تقييماً موضوعياً. ومعظم ما ينشر من نقد حول الإصدارات الجديدة مبني على علاقات شخصية. وكثيراً ما نقرأ مراجعات للأعمال الأدبية المنشورة حافلة بالمديح للنصوص وأصحابها ولكن عندما يقتني القارئ الكتاب ويقرأها بتمعن يصاب بخيبة أمل، ذلك لأن الدعاية المصاحبة للكتاب لا علاقة لها بمستواه الفني.
هل هناك ركود إبداعي في العالم؟
لا أعتقد ذلك. كل ما الأمر ان كثيرا من المحتوى الأدبي الإبداعي قد انتقل الى الشبكة العنكبوتية والأجهزة الذكية، مما أدى الى خلق نوع من الفوضى وفسح المجال لكل من يريد تجربة حظه في عالم الأدب، وان كان يفتقر الى الموهبة، والحد الأدنى من الثقافة، ولا يمتلك التقنيات المطلوبة للعمل الأدبي الناجح.
ليس ثمة ركود. ومن يقرأ احصاءات منظمة اليونسكو سيكتشف أن عدد العناوين المنشورة سنوياً لكل مليون شخص في اميركا وانجلترا وفرنسا واسبانيا مثلاً تصل الى حوالي (10 – 15) ألف كتاب. واجمالي عدد العناوين المنشورة في اسبانيا وحدها يفوق اجمالي العناوين المنشورة في العالم العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.