*** محمد الأشراقي فنان مغربي يجمع بين التلحين والغناء، قضى أكثر من ثلاثين سنة في الإبداع الموسيقي والفني، فاجتهد على نحو مثير، بالمساهمة والمشاركة طبعا، في بناء غناء مغربي أصيل، بلحن منسجم متكامل تميزه المعاصرة والتفاعلية، وبنصوص شعرية مغربية ومشرقية فصيحة وزجلية، تكشف عن عمق إنساني ممتد في اتجاه جميع ألوان الحياة وأذواقها. والفنان محمد الأشراقي من الأصوات الفنية القليلة التي تؤمن، بصدق، بقدرة الفن الموسيقي والغنائي على إحداث التغيير الإيجابي في شخصية الإنسان المغربي والعربي الحضارية، ومن أشد المنتقدين للاتجاه الفني الذي يسعى لتبرير الابتذال الغنائي أو الموسيقي بشعارات: المواكبة، واحتياجات الشباب الراهنة، وضرورة التطوير وغير ذلك. حوارنا الآتي يضع الفنان الأشراقي أمام أسئلة شائكة تلامس إنسانيته وفنه وتعامله مع الكلمة الشعرية والغنائية المعبرة، وتفاعله مع الجملة الموسيقية الرصينة في أبعادها الروحية والجمالية. لنبدأ من معرفة ذاتك الإنسانية: المولد والنشأة.. من هو محمد الأشراقي؟ ** مولدي كان يوم 29 غشت سنة 1960 بزنقة الميموني بحي دار البرود الشهير بطنجة. والنشأة كانت بعدة أحياء.. وهي وادي أحرضان ثم حي بنعليم مرورا بحومة بني يدر قرب السوق الداخل، حيث كنا ونحن صغارا نرى وجوها فكرية وفنية عالمية رفقة صديقهم الكاتب محمد شكري، وانتهاء بحي القصبة الذي قضيت به سنوات الدراسة الجامعية متنقلا بين فاسوطنجة .. النشأة كانت فيها علاقات متعددة عملت الظروف على أن تكون ثرية بالتحاقي، بإيعاز من والدي رحمه الله، بالكشفية الحسنية حيث تلقينا بداية السبعينات من القرن الماضي تأطيرا تربويا جمعويا من قادة من صنف العايدي والعربي بودقة وعبد الجواد الفيلالي والشعيري والدرعاوي ورشيد الفيلالي المكناسي .. فترة فارقة في حياتي الطفولية، وموازاة مع ذلك، التحقت بالمعهد الموسيقي بطنجة ..أما الدراسة الإبتدائية فكانت بمدرسة «بونسي» ب«خوسافات» الحسن الأول حاليا، ثم الإعدادي بإعدادية ابن الأبار حيث كان للأستاذ خليل غريب تأثير واضح علي في تقوية حبي للفن، لأنه كان ينتقي لنا في مادة المحفوظات نصوصا شعرية رائعة جدا، وهو كما تعلمون فنان تشكيلي عالمي، وإبن مدينة أصيلة الجميلة .. المرحلة الثانوية بثانوية إبن الخطيب التي كانت تولي اهتماما للأنشطة الموازية لتخليد مناسبات وطنية، وكذا الاحتفاء بالمبدعين من اساتذتنا مثل المرحوم عبد المغيث البوعناني شقيق الشاعر والإعلامي محمد البوعناني، وأذكر هنا منشط ومنظم هذه الأنشطة، وهو أستاذ لبناني إسمه بشارة …أيام لا تنسى من ذاتك الإنسانية إلى ذاتك الفنية.. في أي سنة ولد فنك وتفجرت موهبتك الموسيقية والغنائية؟ ** سنة ميلاد الفن وتفجر الموهبة وخروج الذات الفنية من الذات الإنسانية كان بداية السبعينات من القرن الماضي، حيث صممت العزم على الالتحاق بالمعهد الموسيقي لدراسة وتعلم العزف على آلة العود، وقبل ذلك كنت وأنا صغير بالبيت أضم وسادة لصدري على أنها عود وأبدأ بالعزف والغناء افتراضيا .. المبادئ الأولى للعزف تعلمتها من الأساتذة الشيخ أحمد الزيتوني، والفنان مصطفى التسولي الذي نتمنى له الشفاء، والصنائع الأندلسية لقنها لنا المرحومان سيدي امحمد العمراني والحاج الطيب العربي .. أما «الصولفيج» فكان يلقن لنا، آنذاك المدير الأستاذ عبد الواحد عزيمان، مبادئه الأولى، في حصص استثنائية، فكنا جميعا نستفيد منها طلبة وشيوخا. كما لن أنسى تكوينا موازيا تلقيته من مولاي العربي الوزاني ببيته بطنجة، وهو عالم من علماء الموسيقى.. كان يحضر مؤتمرات حول الموسيقى عبر العالم .. كما لازمت كأستاذ وكصديق الأستاذ المرحوم محمد الرايسي الذي ارتويت من معارفه الأكاديمية الموسيقية الشيء الكثير رحمة الله عليه .. هذا الرجل عندما كنت أجالسه، أشعر وكأنني أفتح كتابا من أمهات الكتب المتعلقة بالموسيقى فأغترف الفن والعلم …حديثه الفني والموسيقي لا يمل أبدا. في خضم هذا الجو كنت أعزف وأرافق عدة أجواق بالمدينة، وأحاول تلحين بعض النصوص لأدائها …فاخترت نصوصا لإيليا أبي ماضي وأبي القاسم الشابي وابن زيدون .. هنا اكتشفت طاقة زائدة داخلي لم أكن أعلمها من قبل، وهي تطويع الشعر وتلحينه .. وبالنسبة للزجل فقد لحنت نصوصا للمرحوم حسني الوزاني والزجال عنبر ميلود والشاعر عمر البقالي وغيرهم كثير. من هو الفنان الذي كان له تأثيرا كبيرا على توجهك في التلحين وفي الغناء؟ ** التأثر سواء على مستوى التلحين أو الغناء كان متعددا.. كنت أنوع مواردي، وأنهل من كل ما يستهويني من أنغام وألحان وأصوات.. أذكر على سبيل المثال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي وسيد مكاوي ومحرم فؤاد وعبد الحليم حافظ .. وببلادنا استمعت كثيرا لألحان عبد السلام عامر وعبد النبي الجراري ومحمد فويتح وعبد الوهاب أكومي وعبد الرحيم السقاط ومحمد بنعبد السلام وحميد بنبراهيم وغيرهم.. جميعهم ارتويت من ينابيعهم الفياضة ..وكل ملحن له توجهه الخاص وطريقته التي تميزه عن غيره .. أما على مستوى الاصوات فكنت أستمع للمطرب محمد علي صاحب الأغنية الشهير «المخنتر»؛ والذي أدى قصيدة «رقيقتي» للاستاذ الجراري ببراعة متناهية.. كما كنت شديد الاستماع للمطرب القدير المرحوم محمد الحياني .. دون أن ننسى المطرب إسماعيل أحمد الذي يعد أيضا مدرسة في الأداء الصوتي . ما هي المدرسة الفنية التي تدين لها بالفضل؟ وتلك التي لا ترى حرجا في الاعتراف بفضلها على فنك ولو بشكل غير مباشر؟ ** المدرسة الفنية التي أدين لها بالفضل هي مدرسة «مواهب» / البرنامج التلفزي الشهير الذي ترعرعنا في أحضانها عن بعد أولا عبر التلفزيون، فافتننا بالأستاذ عبد النبي الجراري في طريقته، وهو يوجه المواهب التي تتردد على برنامجه .. وبالقدر الذي كنا معجبين به من هذا الجانب، كنا نتهيب من ولوج البرنامج نظرا لصرامة الرجل التي كانت حاضرة في كل حلقات برنامجه .. وبعد تردد لم أجد بدا من السفر من طنجة للرباط وأنا في بداية العشرين من عمري .. وتقدمت للبرنامج بموشح لإبن زيدون من تلحيني .. كانت جرأة كبيرة مني…شاب في مثل سني يلحن شعر ابن زيدون !!! جلسنا كمرشحين للبرنامج صباح الأحد باستوديو التلمساني .. وبعدما استقبلنا بباب الأستاذ الجيراري بباب الإذاعة سائلا عن ظروف تنقلنا .. بدأ يطلع على لائحة المترشحين التي سجلها المرحوم عبد الله العسري محافظ البرنامج .. فبدأ ينادي أولا على الذي وفدوا من مدن بعيدة …وبعد مرور عدد من الاصوات أتى الدور على المواهب في التلحين وهي قليلة جدا مقارنة بمواهب الغناء .. فقدمت القطعة وبعدما انتهيت صفق الجمهور طويلا .. فتوجه الأستاذ للجمهور وقال هل انتهيتم من التصفيق؟ وللتعبير عن إشادته قال الآن جاء دوري لأصفق لهذا الشاب الذي زارنا من مدينة طنجة فتحية لهذه المدينة وكل أبنائه.. حدث يبين إلى أي حد كان هذا الرجل استثنائيا وفنانا فذا.. لذلك فقد كان له الفضل علي؛ ليس على المستوى الفني فحسب، ولكن على شخصيتي بشكل شمولي .. من ناحية الأخلاق .. من الجانب الثقافي والحضاري … وغير ذلك .. وكل تلامذة هذه المدرسة يشهدون بذلك. هل تجد علاقة بين تدريسك للغة العربية وبين فنك الموسيقي؟ ** هناك علاقة وشيجة بين تدريس اللغة العربية والفن الموسيقي ..فهذا الفن يعتبر عنصرا مساعدا بشكل كبير لتحبيب المادة للتلاميذ .. فاللغة هي أصوات قبل كل شيء.. إذن العلاقة التلازمية حاضرة بقوة.. وأحيانا أغني لتلامذتي بعض النصوص الشعرية .. كما اكتشفت مواهب بالقسم من خلال أدائهم نصا شعريا مبرمجا بالسنة التاسعة ثانوي إعدادي، وهي قصيدة «غنيت مكة» للشاعر سعيد عقل، وتغنيها فيروز. وأذكر مرة أن مفتش المادة زارني بالقسم.. وبعد نهاية الحصة وفي سياق تقييمه لأدائي توجه إلي قائلا …أنت فنان فلماذا لا تحضر آلة العود للقسم من حين لآخر، فهذا سيغير من رتابة الحصة، ويضفي تجديدا على عملية تدريس اللغة العربية .. وقمنا بالتجربة في الوحدة الأخيرة الخاصة بالمجال الفني ونجحت التجربة بشكل مبهر، لأننا شخصنا مضمون نص الفنون الشعبية المغربية بشكل ملموس وتجاوب معه التلاميذ. بصورة تلقائية وتفاعلية بحكم اطلاعك على عيون الأدب العربي شعرا ونثرا، كيف تجد مستقبل الغناء المغربي من خلال هذا الأدب؟ ** نلاحظ بأسف شديد أن هناك قطيعة بين الغناء المغربي والشعر العربي، إلا ما ندر، والنادر لا حكم له .. عيون الادب والشعر في واد والغناء المغربي في واد آخر .. هناك موجة كاسحة من الكلام المبتذل في الغناء بذريعة أن «الوقت بغات هادشي» وكون الأمور تطورت .. والشباب يريدون نمطا خفيفا مواكبا لروح العصر.. بالله عليك عن أي تطور يتحدثون وعن أية مواكبة يتكلمون؟ لذلك يظل من يلحن القصائد الشعرية يغرد خارج السرب .. وقلة قليلة من تتابعه .. لكنني شخصيا يسعدني أن تتابع ولو قلة قليلة أعمالي التي أشتغل فيها على الأشعار العربية.. حيث ألمس مدى دعم ذوي الذوق الراقي لما أنشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويشدون بحرارة على أيدي من يغردون خارج السرب. لماذا يرحل الملحن المغربي إلى البحث في النصوص الشعرية المشرقية ويترك نصوصا أخرى مغربية؟ هل نحن المغاربة أقل إبداعا لهذه النصوص؟ أم أن بعض الملحنين يجدون صعوبة في تطويع النص المغربي موسيقيا؟ ** نعم ..هناك ميل لشعراء المشرق بخصوص اعتماد نصوص معينة للغناء! ربما لأن الشاعر المشرقي يجيد بناء نص شعري بمقومات غنائية .. لكن هذا لا يعني عدم توفرنا على شعراء غنائيين، والدليل ما كتبه محمد الخمار الكنوني منذ عقود؛ وأعني القصيدتين الرائعتين «آخر أه» و«حبيبتي»، ثم روائع عبد الرفيع الجواهري ومحمد بلحسين وإدريس الجاي صاحب رائعة عبد الهادي بلخياط التي لحنها عبد النبي الجراري «حسبتك».. ونذكر كذلك محمد حاي وسعيد التاشفيني؛ وهما شاعران غنائيان متميزان .. وهناك طبعا آخرون …هذا بالنسبة للقصيدة. اما الزجل فهناك زخم كبير من كتاب كلمات الاغاني تضاهي في صورها وخيالها عيون الاشعار الفصيحة لفرسان الكلمة الغنائية مثل علي الحداني وأحمد الطيب العلج وحسن المفتي رحمهم الله، وفتح الله المغاري وعمر التلباني ومحمد الباتولي ومحمد الرياحي وغيرهم كثير أصدرت عددا من الألبومات الموسيقية والغنائية.. ما هي أسماؤها؟ ومن هم الشعراء الذين احتفيت بنصوصهم؟. ** أول ألبوم على العود أصدرته سنة 2004 هو «شموع» تضمن معزوفات مستوحاة من دواوين بعض الشعراء كأبي القاسم الشابي في «أغاني الحياة»، وإيليا ابي ماضي «ديوان الخمائل» وفدوى طوقان في ديوان «وجدتها» …وهكذا كما ألفت معزوفات أخرى وتضمن القرص مجموعة من الأغاني أديتها بالعود ..وقد استحسن الجمهور التجربة خصوصا رواد المنتديات الأدبية والشعرية. بعد نجاح هذه التجربة فكرت سنة 2009 في إصدار عمل جديد هو «همس العود» وتضمن فقط عزفا على العود .. ما بين تقاسيم حرة مرتجلة، ومعزوفات مغربية وأندلسية، وأخرى لحنتها خصيصا كمعزوفات بحتة .. هذا العمل خلق بيني وبين الجمهور نوعا من التعاقد، فكان علي البدأ في التفكير لإخراج عمل آخر.. فكان هو العمل الاخير الموسوم ب«عبير الوتر» الذي واكبته ودعمته الصحافة كما اهتمت به عدد من المنتديات والجمعيات الثقافية بمختلف مدن المملكة والتي نظمت له حفلات توقيع كثيرة. والآن أنا بصدد الإعداد للعمل المقبل الذي سيرى النور قريبا وهو ألبوم «على عودي» الذي يسير في نفس السياق.. الاحتفاء بآلة العود والكلمة الشعرية الغنائية الصادقة. المتأمل في ألحانك وأغانيك يعتريه استغراب كبير لكونك لم تقتحم بعدُ عالم الموسيقى الروحية أو الدينية؟ بل ولعدم اختيارك، لغنائك، نصا شعريا دينيا؟ ** فكرة الأغنية الدينية وعالم الموسيقى الروحية حاضرة بقوة في مشروعي الفني. وقد بدأت مشروعا مع المنشد التهامي الحراق من تطوان الذي اقترح عليَّ تلحين مقاطع من الدعاء الناصري، وهو طبعا، ينتظر الدخول للأستوديو لإنجازه. كما أن هناك مشاريع في الطريق، في سياق الأغنية الروحية أو الدينية مع عدد من المنشدين.. وهو عالم ليس غريبا علي بحكم أنني اشتغلت كعازف مع عدد من فرق الإنشاد الصوفي، منها: مجموعة الأصالة بالرباط برئاسة المنشد المرموق محسن نورش.