ذهبت عنه . رفّت روحه في سمائها المتعالية بجناح واحد ، وفي إثرها ركض القلب الوجيع على ساق وقدم خشبيّة لم تتقن بعْد فنّ العرج . تخيّر لها من البياض أجود أقمشة الوداع ، وتأنّق في غرور السّواد المترف ، وتعطّرا بالعطر نفسه لكنّه لم يرثها . ترفّع الحزن عن الدّمع . تكثّف مطر العين برَدا تحبّب بين ثنيّات الجبين ، وملحها الحرش ترسّب في قاع القلب . أبّن نفسه فيها . نقص الجسد قطعة منه ، كمُل فيه خطّ الصّدع فمال يتساقط ناحية الشّمال فتتداركه اليمين بعسر ويقف على اعتدال مرتجّ يداري ضعفه بشموخ مفتعل ، ويُحكم شدّ وثاق البسمة الهاربة إلى شفتيه ليقنع من يراه يهوي بأنّه في فقدها لم يهوِ ، بأنّه ما يزال بعد انفصالها عنه على قيد الوقوف السّويّ ، وأنّها في ذاكرته الجسديّة حيّة تتأرجح ، تتشاقى ، تعرض فتنتها على الحسان ، تشتدّ في الضّمّ حتى تتأوّد من شوقها أضلع ، ومن بأسها تطقطق أخرى كالكِسَر .. فيشهد عليه شاهد من الجسد نفسه بالكذب . سجّاها مترفّقا أرضا . رغم ضمور حجمها وهوان وزنها كاد يسقط عليها حين أراد وضعها أرضا لولا تعرّضت له ركبتاه . خفّة جسمه صارت لا تحتمل ، وصار مهيّئا للسّقوط في أيّة عثرة كأنما وطنٌ جسده هذا فقد توازنه العاطفيّ وآل عرضة لسطوة اليمين المتشدّدة .. مرمى برودها المستفزّ جلس حذرا ، متوسّلا من ذراعه اليمنى سندا ، يراقب العامل يعدّ لها من جوف الأرض غرفتها النّاعمة . وسِّعْ عليها السّكن يا هذا ، لا تعبأ لصغر حجمها ، سيكون مرقدي بجوارها يوما ما .. رطّب فرشها ، نمنم حديقتها الجانبيّة بأنواع الزّهر لطالما كانت تحبّ عزق الأرض ، ورشّها عند المساءات الحارقة.. لطالما .. نظر ناحية مكانها منه ، مرّر كفّه الولهى على جسدها الصّغير . للمرّة الأولى تفارقه ، تجلس خارج حضنه لا يهدهدها ، لا يمسّح عليها ، لا يتفقّد الثّوب الذي يشدّها إلى صدره ، لا يثقل عليه موتها فيتبرّم بها ، يلعنها ، يمقت حظّه معها ، ومساء يستعتبها ، يربّت عليها ، يمدّدها رفقا حذاء أحلامه ، ويحضنها بدل التي تتحرّش بخياله . للمرّة الأولى يختنق في سعة الفراغ الذي يسكن مكانها إلى جنبه الأيسر ، يحنّ إلى نومها الأبديّ على صدره ، ورائحة العرق زعافا في دغَل إبطه المثنيّ مدى الوقت ، وما بينها وبين الذي من تحتها لحم قليلا ما يتهوّأ فيتهرّأ ، ويكتم الشّكاة .. تختلّ قدماه من بعدها ، تخبطان الأرض كيفما اتفّق كأنّما لا تحملانه إذا تحملان ، وسيره مترنّح ذات اليمين وذات الشّمال بلا سكر ولا نشوة نسيان . عند باب المقبرة ، اِعترضه الكثير ولم يعرف أحدا . بعُد ، في شعوره الباطنيّ ، البون بينه وكافّة الأحياء من حوله ، كأنّما آل رفاتا يمشي جنب الماشين ساهما عنهم يسمع لا يعي ، ينظر لا يبصر ، ويفكّر تحت جنح السّواد المدلهمّ فلا يدري فيم يفكّر.. يضؤل حضوره في عينه مع الخطو ، يضمر جسمه في مخيّلته يضمر حتى يشعر أن لم يبق منه سوى كمّ القميص الخالي .. مثقلا كموزور يخبّ ، فاقدا توازنه كمبتور ، خجِلا يبحث أن يستخفي عن العيون فلا يجد ، يرتّب في ذهنه المستقيل من مهامّ الحياة مراسم عودته إليها في أقرب وقت ، لا حياة له ناقصا منها ، لا شكل له دونها ، ويخطّط لوصايا سيتركها لولد لم ينجبه وإرث عاطفيّ تليد يوصي به لامرأة لم يكفها نصف صدره الأيمن وساءها أن يقسم قلبه عدلا بينهما . صاحبه القديم استوقفه عنوة مازحا : - أين بقيّتك يا رجل ؟ لا تقل خاصمتها بعد طول العشرة .. اِهتاج الملح في قلبه ، جمجم الحزن في حلقه . أجهش صمته . طأطأ يجتاز محدّثه . تحسّس مكانها من القميص . لم يجدها . الكمّ الفارغ مرتخٍ يتأرجح كغصن منبتّ تعابثه الريّح ، والكتف اليتيم كمِد وحزين . يمناه التي اعتادت على شدّ شقيقتها اليسرى إلى جنبه تائهة لا تعرف كيف تحطّ على جسمه ، تتلمّس مكانها المرقّع حينا ، تنثني على الفراغ حينا ، تتدلّى حزينة كثيرا ، ولا تعرف كيف تمضي في الحياة وحيدة بلا توأمها ، ولا من أيّ عضو فيه تعيد به ربطّ الصّلة .