من أيّة نكسة وعبد الله رجِلا يمشي المسافات الوجيعة فلا يصل ولا يقطع..؟ كم سنة تجتاف تخلّفت إثره حتى هذا القلبِ المقبرةِ الأخيرة..؟ قطع السّير الهزيل. كرّت عليه كلاب تداعت على دمه الغريب. فرقع سلك الحديد من خلفه يبطش فيها ففرّت إلى جوانب الأمن تتحيّن نهزات الانقضاض. وضع إلى قدمه كيسا يخش خش. شدّ طرف السّلك إلى إبطه يحكِم الضّغط عليه فينْخُس المرفق جنبه، ويميل جذعه ناحية الشّدّ. فرد أصابعه يعُدّ بالأخرى مناقبه في عيون النّساء.. كان.. لكنّ امرأة منهنّ لم تتيسّر له إلاّ لمنقب فيه يلائمها.. حتى زوجه، لأجل العيال صارت تستمسك به، ولمّا يؤوب إليها عند الحنين تفيض في غزل المعايب وإنشاد المواجع والأنين.. على حدّ سواء الابتزاز كان وكنّ، غير أنّ امرأة شوهدت حاملا تُنْسب لما تنجب أمّا لا خلاف عليها ولا شهائد إثبات، فمن ذا يشهد لأبيه والفعل مختلس في ليلة سكر عماء وأمّه ماكرة لعوب..؟ عزف عن العدّ يستأنف المسير على ساق حمَت في عظمها آهات كسر قديم فهي تعرج حينا وحينا تُجرّ. كم مكاسب النّصر في هزائمه..! هذا الفتى يوسُف في عمر المكيدة المُهلِكة، تكبر في غفلة المستضعف، في سكرة المُعدم يرتجي العطايا، في ابتسامة الأعداء المانحين.. ولمّا تبلغ الحُلُمَ المكيدةُ وترشد أهدافها يُقيم لها المُهْلَكون في كلّ موطئ قدم وليمة حمراء.. أكلت خيبة الآلام المجانيّة كلّ ولائم الجسد الثّريّ، وخطايا الأحزان المقترفة استنزفت مخادعَ النّفس الخبيئة حتّى قوتَ العيال في قلبه. نخره الإفلاس واستضعفته حرب التّذْنيب أسْعَرَتْها امرأة عادت بعد مديد الغياب تفتكّ إرث ابنها من حياة أبيه. تشحن الولد بالغيظ فيعود على والده يحاسبه عسرا حدّ يُبْكيه. لكنّه لم يعد يتنكّر له، واعتذر فما وَفت اللّغة الأعذار. كان أحبّه جمّا وأقطعه من أبوّته النّدْمى نصيب الولد النّكرة ينصفه اليقين. وكان يترصّد رضوان الأنفس ليضمّه إلى أسرته دون بالغ الأضرار. اِنتحل فيه الطّرق الجانبيّة والزّناقي المنحرفة عن الضّوء الجهير. قاوم لوْث الخيانة بخيانات أشدّ. قاتل وجهه النّذل فاحترف النّذالة. مشى على حبل التّقيّة بين امرأتين فبرئت ساقه على عوج من عدد السّقوط وجنح يرتاد ماخورا للضّياع.. هجرت الزّوجة وابنتيها المنزل. غادر الولد وأمّه البلاد. تأبّط عبد الله المأساة في هدوء كارثيّ وجاء يطوي المسافة بين مدينتين جارتين رجِلا.. كان عبد الله أعدّ عُدّة الحُجج للجهر بأبوّته لابنه من امرأة لفظها النّسيان ذات غفلة. اِستوثق من حضنه يحسم أمر انتساب الطّفل إلى مائه وانهمك يهيّئ لولده موطئا حلالا بين أهله. أنكر الطّفلَ قبل سنين عشر فطواه الصّمت. كان حينها يُعدّ لزواجه، وكانت أمّه طفلة في المرح طائشة، تنجب صبيّا يحفظ ذاكرة ليلة ماجنة وتجتاز أباه إلى ترف الحياة. لمّا احتضنه على مشارف البلوغ شغفه حبّا. قال: - هذا الفتى ابني. الولد يشبهني كثيرا. لا ينجب رجل شبيه رجل سواه.. مدهش يوسف كأمّه خلاصةِ الشّرق، خلطِ حضارات عجب، معبر الآلهة، وثرثرة القصائد على الضّفاف وتحت ظلال الرُّطب بُعَيْد العصر، أو عند ضرب النّواقيس، جميل وذكيّ كشُرفات الحلم المطلّة تلقاء المسافات الغامضة.. كأبيه أنا، كسيل مِجْرَدَة المهيب. وديع إذا ابتسم اخضرّت حواشيه وأخصبت منه البطون، وإن تُرْغي سواكنه يفزّع الحيّ والجمد.. لم يبق إلاّ وثيقة إثبات أخيرة ذهب صباحا يتسلّمها من مخبر التّحاليل الطّبيّة.
كانت تلك المنسيّة من أفعال التّذكّر ليلة خارقة تختم مصيفا شبابيّا آخى الدّماء الشّتت، وجاء البلاد ينتجع على ساحل وغاب بالغرب من شمالها. قاعة الملهى مكتظّة تهتزّ على نشوة المقامات الغربيّة فتضرّم الأنفاس الفتيّة وتزوِّج الأنفس المتنافرة خارج الأعراف والتّقاليد. الرّقص يهزّع الأجسام أطرافا وأردافا ونهودا ورؤوسا مخلّعة وشعورا منتفشة وجذوعا لا تمتّ لأعضائها برحِم. يخلط في كوب من العرق صغير ألوانا مختلفة وثقافات وأعراقا وجنسيّات وأديانا ومذاهب ونِحَل.. تخرج الأرض عن أسيجة الخرائط وعسس الأنظمة وعُجمة الألْسِنة.. وعند التّهالك نشوة، يعيد المرقص توزيع الأزواج على قاعدة الانجذاب التّلقائيّ.. اِنتحى عبد الله طاولة تجتنب السّرور العميم يستخفي من ضعفه بخفوت الأضواء وجلبة القاعة. سمّر القلبَ على صليب الصّبر وازورّ عن جلوسها المستهتر إلى جواره، وحيرةٌ جريحة تسفع وجهه وتلفح عينيه وتفتح صدره ساحة لصراع خضمّ تتنازل فيها الرّغائب والنّواهي فلا ينتصرن. لزمت رَشا مكانها إليه على مضض الاحتمال منفعلة كأنّما تقعد مقعد الجمر يلذعها بينما قلبها يتغاضى عن مراسم الوداع ويسبّح الرّبَّ في الدّفّ والنّفخ ورفّ الوتر الولهان. رأسها يتمايل. يترنّح ذراعاها في فضاء الأدخنة البيضاء، يراقصان شبحا من دخان أو عينا تغازلها على مشهد من دمه الغالي. جذعها المغلول إلى طاولته يوشك ينفر منها إلى جلبة الأنغام تعتق الحركةَ من سدنة الحركة، وأنهارِ العرق تعمّد الأجسام وتمنحها بركة السّفر الحرّ خارج بيانات الهويّات الشّخصيّة وخلاف كلّ النّواميس الرّابضة على مدرج الصّعود إلى طابق الاعتدال الأرضيّ من النُّزل.. قامت عن السّأَم. بوَّق السّقوط يبعثر دواخله. نزع القلبُ الرّصين إلى فساد وتغيّرت معاذيره. لم يلحَد تماما إلى طقسها الماجن. مازال يخادع نفسه بالتّعقّل ويكفكف دفق شهواته. خلعت حركاتُها تطيش في الأفضية المدخّنة تقفز وتحطّ وتتلوّى على أوْه الأوتار. دعته. لم يهتزّ. اِنصرف عنها إلى كأسه يبحث له عن رفيقة أجمل في ليلة اللّهو الأخيرة بين شباب غزير التّنوّع. لم تكن رشا تروق له امرأةً بسيطة التّفاصيل لا يُرى حسنها إلاّ جملة واحدة دون تفرقة الأجزاء، ولا تؤخذ إلاّ ارتجالا للمتع.. ليست بين الحاضرات ذات حسن رُخاء، فلقا يختال في غطش الأفجار.. كانت ذرّا من النّمش المرشوش على مرج البياض المصفرّ. شعرا شمسا فاترة تلمّع زرقة الأجفان المرحة وتكسو نتوء الكتفين. قواما ضاحكا، قصيرا، نحيلا، دقيق التّقاسيم. خطى خفيفة جذلى حين الحركةِ كرفّة الوتر النّشوان. عابثة تسحب القنص مكرا حتى منتهى الصّبر ثمّ تقطع به الوصل منتصف اللّهفة.. غيّرت مقام الرّقص. آل صبره يتزعزع واستبشر الشّيطان المعقول إلى كبرياء دَعِيّ. تنحّى الرّاقصون عن المرقص يلزمون مقاعد الدّهشة الصّاخبة.. اِفتتن بها الضّوء يسقط على مشهدها حزما من الألوان السّكرى.. جسد أعجميّ الصّفات مختلط الأعراق والأديان، متعدّد الأوطان واللّغات يرقص لأجله بالفصحى فلا يلْكن ولا يلْثغ ولا يلْحن.. وصفرة الشّعر الطّائش تحوى في الظّلال المنسكبة على جوانبها، وتغيم زرقة العين الشّهّاء كغرفة حميمة تُسدِل عليه ستائرها.. صارت الأجمل لمّا الأرض قاطبة تمهد تحت هَيَفِ القوام ومَيَسِ الحركات ورفيف الجفن اللّعوب، وإذ الشّعوب المتخالفة تأتلف في عُقدة الشّال على الخصر الغواية.. تنصبّ عليها العيون، تنصبّ عليه، يشمخ جذع الصّنوبر منه، تنصع على وجهه سمرة الزّان المنحوت ويفوح منه الزّعتر البريّ.. يزدهي، يتعالى، يتمنّع على شابّة غيداء انتهزت فراغ المقعد إلى جانبه.. صار المُجتبى تهبه فراشةُ القلب قلبَها كراهِبة تعتكف فيه على الهوى.. هَلمّ الطّوفان يعلو عليه وذراعها الملوّحة في الفضاء لوح النّجاة الأخير.. هَوَتْ أرضا ذرائعه إلى التّقى فلم يلْقفها.. اِنتصرت فيه الرّغائب المنفلتة تطيح بكلّ النّواهي السّالفة.. اِعتزّ بنفسه. رشا لم تلاحق رجلا مذ انضمّت للمصيف. كانت تلقي النّظرة الخاطفة فيتبعها المُشتَهى فور الإشارة. فرح بانتخابها له خاتمة مُقامها المثير بالبلاد. ستحمل اسمه في بطاقات سفرها المتعدّدة، في لغاتها الكثيرة، في دمها القلق بين عروبة الأب وعُجْمة الأمّ وتديّن الأخ.. ستنقل ذكراه معها حيثما حطّ رِحال الشّوق قلبها المتشيّع للحياة.. جرع كأس الفرح حتى أعمته الثّمالة.. لهج.. "هبينيك شرقيّك وغربيّك وكلّ الذي تكنزين.. أبيحي لي الوطن الغامض فيك فإنّي الملبّي النّداء أدخل من أيّ باب تفتحين.." فُتح له ليلتها فدخل. وبعد أثقال من الغياب وسنين عشرٍ، وكالخرافة الطّاغية تتوسّل حلكة اللّيالي لتحتلّ النُّهُر اليؤوس بُعِثت إليه من دفاتر مُغْبرّة تحتكر وعيه اليوميّ.. عادت بهوى جديد كالزّلزلة تترك الأرض بارزة. كالحروب المنقذة حسنة النّوايا هواها، ينقّل في جسده الوجع الطّيّب من جهاز إلى آخر كما تنقّل تلك قوافل الموت الخيريّة من أرض مشتهاة إلى أخرى.. بَدا سنة عودتها الأولى كأنّما لم يفرح يوما ولم ينعم بلذّة في الحياة سنوات خلت. كانت أجمل المزالق يقترفها عمدا وسهوا وبلا دراية. كأسَ ترنّحه الألذّ. كاعبا ترِيبة تغادر غُرف التّجميل أبلغ حُسْنا ممّا كانت، وترجع إليه هديّة وثيرة يسيرة المنال كأوفى الجزاء الحسن تنجِّد لياليه الرّتيبة جنّاتِ متع بلا نصب في العبادة.. خبرا سارّا ذاع على أعقاب الجنائز الجماعيّة حين الرّبيع الثّالث بعد الألْفين يعبق بأفياح القنابل وزكاة السّموم، والأرض الشّاتية تخرج حالمة من صمت المكائد لتصطاف عارية على شواطئ الدّماء من بغداد التي تماثلت وقتئذ للسّقوط عن جسد الخليج سقطة العمود من ضاد اللّغة.. تناسى كلّ شيء، وأرجأ وعي الاحتلال إلى نشرة الأخبار المسائيّة لمّا يفرغ من مرحها المستبدّ، ثمّ انحاز يوما فآخر إلى برود المُشاهِد سئم تكرار المَشَاهِد المدماة فانتحل حياد الزّمن يختصر في تقارير قلائل عقدا فادحا من الجثث والأوبئة والهزائم الشّخصيّة والهموم الرّائجة. أهمل عمله وأسرته، واعتنق فيها المتع المرتجلة والسّفر على بُسط الآمال، والسّياحة المجانيّة على سواحل الفرح الممتدّة، وبذل لابنها كثير الودّ والاهتمام لينسيه ما فات من الإهمال. لم يكن سَنَتَئِذ سببٌ في راهن أيّامه ينقّب عنه في مخازنه الدّاخليّة كشأنها.. كانت تحتفر في رواكده. تنبش في ذاكرته الموالية للعبث تقع فيها منبتَ الحلم الخطيئة من عدن السّماء. تغازل مواهبه المهملة، وتعيث بالفساد الجميل في استقامة الأيّام القانعة. تنفث الشّرر في أفكاره الهُوج المطفأة، وتجدّد فيه زمن الطّيش البديع. ترفعه في الهوى ربّا يركع له جسد بذخ يتفتّح حقل ثمر كألذّ النّعم المجزاة وساحل المتوسّط مغتبطا يشهد الملهاة. توشوش ولْهى على حوافّ الخيبات القديمة: "حبّك أطيب من الخمر.. اِجذبني وراءك فنجري.."(1) فينفض الكهولة عن رُكبه وآلام الرّوماتيزم ويقوم يلاحق فيها الصّبا والشّباب، فتذرع به مباهج الوطن من رمله إلى ماءه فحكايا الخطاطيف للسّطوح والحيطان.. تخفض له جناح الاحتمال كأعقل النّساء تهدهد الطّفل فيه يحطّم الأحلام والآمال وبطاقات السّفر المنتقاة في فورة الغضب فيعود على جناح النّدم يستغفرها ويستأذنها في لقاء ابنه منها.. لم يعد يغنى يوما عن رؤية يوسف.. كان الفتى آسرا حُسنا ونبوغا.. كان مثَل الهفوة المعجزة لا يحدث إلاّ مرّة واحدة وإن خصُب المَاء ودَرّ.. ********* اُرْهِق سيرا. خلت من كلّ هفهفة غرفةُ القلب الضيّقة. غُثاءة قاصية أضلّها سيل الأحداث اليوميّ فظلّت خارج منطق الانجراف بلا حضن هاوية. يخوض، منذ الضّحى، الشّوارع المعاكسة للحلم الوهم. ليس كالواهم مفتونا، يوقن بحجّة الخطإ ويدخل الجحيم طوعا فيقول البردُ اليقينُ الحقُّ هذا ادخلوا معي آمنين أو خلّوا سبيلي هنا للفناء القرير.. أوجاع شتّى تسوس فيه. يفقد نفسه ويؤول بدنه إلى هُوِيّ والطّريق لا تنتهي، تمتدّ سيرا ندما يطأطئ رأسه صوب أهله. فارغا يعود إليهم من حكاية كذوب بلا خُفّ ولا زاد بالحنايا. لم يبق منه غير حضن يسكنه الرّبو وتعشّش فيه فواضل التّبغ، وبضعة أمراض مزمنة، ولفائف من فواتير باهضة تأخّر خلاصها، وقائمةٍ بالدّيون المرتكبة، ووصيّةٍ أخيرة لهم تورّثهم قطعة القلب النّاجية من تهلكة الحبّ المستعاد.. لا عتب يا أبناءه.. لا تقريع.. تقفّع الضّمير بالتّأنيب.. كان كلّما استرقتِ التّوبةُ خطاه إليكم اجتذبه الماضي بغواية التّكفير عن زلّة منسيّة تجاوزت بالقِدم أن تكون زلّة.. كلّما انتبه إلى توْهِه سقط في انهيار نفسيّ يعيده على كفّ الضّعف لزوجة كانت حتى انقلابها عليه شفوقا تتقن انتهاز اللّحظات النّازفة وتتّخذ منه موقف الأنثى الرّصينة، تنتحل الحكمة وتتنكّر بالصّبر حين الدّمع يخلخل سعيها الكَبَد في الحفاظ على الكيان العائليّ. لم يكن الكرسيّ المنحرف إلى جانبه يحتمل ثقل امرأة واحدة وقد صارتا اثنتين تقتسمان الكرسيّ المخَلخَل، وتتنازعان غرفة القلب الضّيقة..
عباءة السّماء مبسوطة مُسوّاة، وأقباس ضوء مختلفة الوُهُج تنتشر عليها وتضرب على أشفار الغطيط بالغشية. فرغ اللّيلُ من الأزيز وارتمى على مفارش السّكينة يدرك الأرماق الأخيرة في السّبات. وتبرّم القمر النّعسان يساير، مذ عسعس الدّجَن، سِلْكَ معدنٍ بعيد الطّرف يوقّع خطو سائقه السّكران، ويذود عنه كلابا تثيرها روائح الدّماء الغريبة فتتحدّر عليه من جنوب المسير ترشق السّير الضّليل بلهب المُقل ووميض الأنياب. الخيط الحديد يتلوّى خلفه على مبسط السّواد المعبَّد، وإذ تقطع الدّربَ فرقة من شرطة أو حشد من كلاب، ينفعل الخيط حشرجةً شديدة فترفع الحركةُ المخبولةُ القلمَ عن الماشي في جنونه ليلة قاسية الصّفاء، وتقيه صولة النّباح المجمّع. أخذ المشي المترنّح يتقطّع، والوعي المرضوض من ثمل وفاجعة الفَقْد يقدّ من أكوام الظّلمة الهاجعة شخوصا يتقمّصون عنه فصول الخيبة ألّفها الكذب مدار سنوات خمسا موجعات. كان في وَلَعِه المفرط بنفسه شريكا للكذب في حياكة التّفاصيل المهلكة.. هل يخطئ حضن فلذته..؟ توقّف قلْبَ المعبّد الخالي. ترك السّلك يقع. هاتف زوجته يسكّن غضبها بأقراص الكذب الحيويّ ويعتذر لها عن خيانته لكلّ وصاياها ووعوده. لم تردّ. تركت الرّنين يفتح له جرحا في الأمل مقهقها بالهزء في وجهه. تربّع كبِد الطّريق الخالية حذاء السّلك المهمل. هفت النّباح. أخذ من كيس عند ركبته المثنّاة قارورة دلقها في جوفه دفعة واحدة وقاءها إلى جانبه على دفعات ثم تناول أخرى يرشفها على مهل الآثم المنتشي إثما يتحرّش بالموت دنِسا ويقارع المتّقين حُجج دخوله إلى الجنّة. سحب رزمات أوراق من جيوبه يتحسّسها بأصابع منفعلة وبصر حسير. اِستبشر. أهذا الموتُ يدبّ فيه..؟ أحَسَّه يحفحف الآن على بعد متر رخوٍ من حلْقه، والحياةَ خفّت تستقيل شيئا فآخر عن وظائفها في جسده.. معفى غدا إذن من أكاذيب جديدة يحترفها ليشرح غيابه المريب، وقسوته الغامضة، وانهياراته المتكرّرة، وهذه العودة المزرية.. قد يدركه الفجر عمّا قليل ممدّدا عرض الطّريق مفنيّا، وإن استطاع جُهْدا سيزحف حتى حاشيته لئلاّ يوصف بالجبان. عثر في لفافة الأوراق على ظرف مطويّ. اِطمئنّ ضحكا يرَجْرِجُه البكاء، ومخارج وجهه ترشح وقيْؤه إلى جنبه ينضح زُعافا. مرّت به سيّارة تزعق في قعوده المزعج عرض الطّريق. أصابه من سائقها طشيش السّباب فردّ عليه بِوابِل. كانت تلك رسالتها إليه تلذع في الردّ عليه أن غدر بها وساق ابنها في غفلة منها إلى مختبر طبيّ يحلّل دمه. سبقته إلى المختبر تستولي على نتيجة التّحليل الجينيّ وترْشُو بسخاء كلّ السّبل المؤدّية إليها. اِحتكرت الحقيقة لنفسها تُصَرِّفُها له بحقد امرأة مَخون ركنها رجل أحبّته زاوية مهملة من حياته مكتفيا بابنه منها. كتبت له: " لم أكن أعرف ليوسف أبا بعينه. يوم وضعتُه كتبت اسمك أبا له على سبيل المجاز فاجتازتني الأسئلة المحافِظة، وأمِن ولدي لعنة اللَّقَط أختلق له الحكايات عنك، وشرُفْتَ أنت بلقب أب نذل جبان. عذرا. كنتُ أحفظ في يوسف ذاكرة اللّيلة الأجمل فعمدتَ تفسد الذّكرى بالنّبش في رحمي. أثبت التّحليل أنّك لست والده.. أنا أمّه ويوسف لي. من شاء فلْيأخذ كليْنا. وداعا."
بزغ الفجر وانهال عليه زعيق السّيارات فتحامل على الخواء يجرّ نفسه حتى الحاشية. داست العجلات قيْأه وأوراقه ورفيقَه السّلكَ المعدنيّ. الرّسالة بيده. أحْسنَ أن لم يجهَر بالسرّ لزوجه وابنتيه. تركهنّ يخضن الاحتمالات ريثما تأزف مناسبة ملائمة لإعلامهنّ. فكّر لسلامة العِرْض أن يأكل الرّسالة كأنّما الصّمت عيون ثرثارة تتلصّص عليه لتذيع خبره للنّهار. بدأ في قرضها. يأكل يوسفَ الحكايةَ الكذبةَ البديعة لتتفشّى في دمه.. " أحقّا يشبهني الفتى..؟" يلوك رشا اللّذّةَ الخديعةَ ويطيل حتى تمْرَرَ في فمه.. " أحقّا أحبّتني أنا..؟" كان أحبّها امرأة على صورة مذهلة من جنونه وانبهر بنفسه أبا لذلك الولد المدهش. وكانت تعشق فيه سعادة ابنها بوظيفته في حياته. كانت تحمي كذبة ما من صدفة صادقة تدمّر ابنها وتفقدها إيّاه.. - بلى قد يخطئ الحضن فلذته. تبادلتما الكذب الجميل فخُدعتَ لوحدك. - قال عبد الله يحدّث قامة عبد الله المتراخية- فإن كنت رجلا فلِدْ كيوسف خلْفا فلا يكون عليك شهادة إثبات طبيّة في نسبته إلى صُلبك.. إن كنت رجلا فقل أين هما الآن يا ترى..؟ في الشّرق أم في الغرب أم في جرّة الأساطير..؟ لن تعلم حتى تحسن الفصل في كلّ ما شابهك بين ما هو منك وما ليس منك.. أردت امتلاك ما ليس لك لتفخر بنفسك وتعتزّ فارتددت إلى المسافات الوجيعة تمشيها من جديد والحروب تؤقّت بالأكاذيب مواعيدك وتعبّد سيرك في الزّمن المنهزم بالجثث البريئة.. بعض التذّكر عبث وأكثر الحنين ورطة عبدَ الله، والمسكوت عنه لا ينتهي إلى البكَم بفعل التّرك والتّجاوز. لحظةَ يتمزّق الخيط الذي يرتق الشّفاه المنطبقة عليه، يصير أسرع اندفاعا من العين التي قلْب الصّخر.. اِستعذبت دمك القادح في وجه الفتى وبهجة الأمّ مثيرة القلق فاتنة التّنوّع فهرولت تستعيد كيانك المستلب من واقع فقير، تركب الهُراء يطوّف بك في مدن الأحلام البعيدة.. تختلق لنفسك حياة أجمل على رفات الأيّام العاديّة.. اِنكسرت بك مكنسة الهراء الطّائرة ورحلت الأمّ بالولد والحقيقة أبعد من قدميك بينما صيف بيروت السّادس إثر الألف الثّانية يستلقي هو الآخر على شواطئ الدّماء تحت سماء رمّدتها كيمياء المكائد التّليدة، ودفاتر الإحصاء النّهمة تتحوّل بسرعة موَجّهة عن المقابر القديمة إلى المقابر الجديدة في حياد الزّمن البليد.. بينما كلّ الشّواطئ متثائبة تشهد تواتر المأساة وتغفل عن تعداد الغرقى والحرقى احتسابا لمشاعر المشاهدين.. أتى بالأكل على الجزء المكتوب من الرّسالة واحتمل القيء. ربّما يقع التّفتيش في فضلة البطن فيُسأل فتقتل الأجوبة السّائلين. وَقَدَتْ فيه حرارة مباغتة أشعلته حتى رأسه. داهمه الاختناق. رنّ هاتفه بإلحاح. لم يستطع الرّدّ. لفّه الدّوار.. الهاتف يرنّ. يدغدغ جلده البارد، دمَه الخفيت.. يده ثقلى لا تمتدّ للجهاز اللّجوج.. تركه يرنّ.. للحياة على جسده ذاكرة قويّة تأبى الانسحاب.. نساء غيد يمررن حاشية الإغماء.. اِبتسم لهنّ، لوّح للحبّ بقلب وهن.. تهزْهز ضحكا يخلخله السّعال وزوجته الغضبى على الدّوام تفاجئه يغازل امرأة تمرق الحيّ بفكرة ثوب لم يكتمل.. اِضطرب نفسه.. خفق حلم زاوية جنبه.. مشى قليلا.. وقف.. شخر كذبيح وهوى أرضا منتصف الرّجوع إلى منزله، على الحرف الفصل الشّفيف بين الكذب والحقيقة، بين الحقِّ في جغرافيّة الماء الوسيعة وأسياف الغزاة يحتلوّن المساكب والأودية والبحار..