باغتني صوت الجرس وأنا داخل قاعة المحكمة فقلت مع نفسي "هذه البوابة اللعينة "يخرج منها أناس يعتقدون أنهم حرس معبد العدالة المقدس!! " وقف الجميع كتلاميذ المدرسة المؤدبين بعضهم جاء طلبا لحق يعتقد أن آلهة الأرض ستتكفل بتحقيقه وآخرون جاؤوا لمزاحمتي على مقاعد الجلوس المهترئة التي تحتاج هي الأخرى لمن ينصفها وإحالتها للتقاعد !!. جلس القاضي الذي كان يلبس نظارة طبية.بدا متجهما وهو يحاول اصطناع سحنة مهيبة بعد أن ساد الصمت أرجاء القاعة .كانت لافتة كتب عليها "إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" ملصقة على الحائط قبالته تساءلت إن كان القاضي يمكنه لمحها بعد أن تهاوت أحروفها وسقطت معالمها أم أن الأمر محض فعل سخيف لا يستحق ذكرا ولا اهتماما !!. درات داخل رأسي الكثير من الأفكار وتذكرت ما قاله شكسبير هذا المسرحي الرائع في رائعته العين بالعين "ماذا تعرف القوانين عن لصوص يجلسون للحكم على اللصوص". نطق القاضي "باسم الله نفتتح الجلسة " سألني طفل "ياعم ماذا يقصد بالجلسة؟" تفاجئت بالسؤال وفكرت مليا وقلت "يقصد أنها محاكمة للأشرار" لكنه عاجلني بسؤال أخر " أ هي جلسة كجلسات المقاهي !!." تملكتني الحيرة لسرعة بديهته ووددت لو أجبته بصراحة مثلما خطر ببالي لكني قلت له مبتسما " تقريبا أو أكثر " انتفض في وجهي مخبر كان خلفي يسترق السمع فقد نسيت أني مراقب بحكم ناشطي السياسي وقال لي "يا هذا ماذا سأكتب في تقريري اليوم ؟ ،هل سأكتب تقريبا ؟!! " نظرت إليه مليا .فقد كان يعتمر فوق رأسه قبعة صوفية سوداء وله شارب طويل ثم قلت له "يخيل إليّ أني أعرفك " قال متلعثما "لا لا أنت تتوهم لا أحد يمكنه التعرف على المخابرات " قلت "بلى " قال لي مستعطفا "أرجوك أخفض صوتك لأنهم يراقبونني ولو اكتشفوا أنك تعرفت عليّ سيطردونني " . أشفقت عليه فلم يكن المخبر غير زميلي الكسول الذي كنا وقتها نلقبه «بالمقدم" أيام المدرسة الابتدائية والذي كان يتجسس على تلاميذ القسم ويسجل أسماء المشاغبين وينقلها للأستاذ. كان المتهمون يخرجون الواحد تلو الأخر من كراج سفلي يصعدون منه بعض الدرجات وفوقهم على المنصة قاضي ومساعدوه بد لي المشهد كلوحة مزيفة .المتهمون يمثلون الشياطين الصاعدة من تحت الأرض وفوق ملائكة العدالة الأرضية بالنظارات الطبية السميكة . أصابني الدوّار من كثرة التحديق في المتهمين الذين كانوا يقفون أذلاء محشورين بين سوط الجلاد والميزان وبعضهم بدا عابسا مكفهر الوجه كمن يحمل على كتفيه صخرة سيزيف وآخرون مثل أشباح رثة أنهكها الهزال والضعف والأرق والشرود . لم أختلف معهم في شيء فقد كنت بدوري في سجن فظيع !! سجنت فيه رغما عني وعن أفكاري وأرائي !! . تذكرت أيضا مقولة محمد شكري " إن الذين يحكمون خارج السجن أفظع من الذين يحكمون داخله !! وسجني أنا سجن بلا قفص ولا حديد !!.